صرنا نعيش في عالم يُدار عن بُعد. كل شيء تقريبًا غادر مقعده الطبيعي، واتخذ له مكانًا في شاشة، أو على طاولة افتراضية، أو في مساحة لا مرئية تُدعى "المنصة"، "التطبيق"، أو "اللينك".
الاجتماعات لم تعد تُعقد في غرفٍ ذات نوافذ، ولا على طاولاتٍ خشبيةٍ يعلوها صوت الحضور واختلاف الرأي. صارت تُدار عبر الأثير، يحضر فيها الصوت وتغيب الأرواح. تسجّل، وتُنهي، وتُرسل، دون أن يرف لأحدٍ جفن، أو يشعر بحرارة النقاش وملمس الورق. والتعليم؟
ذاك الذي كان يومًا تجربة حية، فيها المعلم يُلهم، والطالب يسأل، والسبورة تُخَطّ بعلْمٍ وملامح. أصبح مجرّد بثٍ مباشر، أو محاضرة مسجلة. لا صوت الطباشير، ولا ضجيج الطلاب، ولا حتى نظرة العين التي تقول أكثر مما يقول المنهج. كل شيء صار "عن بُعد"، بما في ذلك الشغف. الثقافة أيضًا، لم تنجُ.
لم تعد تُحمل بين يديك كتابًا، أو تُسمع في مقهى حواري، أو تُناقش في ندوةٍ تفيض بالحضور. صارت مقتطفات، روابط، و"مشاركات" في مجموعات، وقصائد تُقرأ في صمت دون تصفيق، وفكرٌ يُلقيه صاحبه ثم يمضي دون أن يعرف من فهمه ومن لم يفهمه. حتى السياسة، مستنقعها الآسن أصبح أكثر سطحية. السياسي يغرّد، ويصدر القرار من غرفٍ مغلقة، وربما من دول أخرى. يُتخذ القرار عن بعد، ويُنفذ – أو لا يُنفذ – عن بعد. ثم يُحلل القرار من محللين خلف شاشات، يُصفق له مناصروه عبر هواتفهم، ويُعارضه خصومه على المنصات. ولا شيء يحدث في الواقع... سوى الانتظار. ونحن؟ نحن أيضًا نعيش عن بُعد. نحب عن بعد، نحزن عن بعد، نحتج عن بعد ، نكتب الغضب و نرسله ك "حالة" ، ونثور على شكل "تغريدة".
صرنا أبناء زمن اللا اقتراب، زمنٌ تآكل فيه الحضور، وتحول فيه الواقع إلى خيال قابل للمسح أو الإلغاء.
لكن السؤال المؤلم.. ما الذي تبقى لنا في هذه الحياة لم يصبح جزءًا من "البُعد" و"اللابُعد"؟ وهل يمكن أن تستقيم الحياة عندما نفقد قربها، ودفئها، ومواجهتها؟ أم أننا سنكتشف – بعد فوات الأوان – أن الحياة لا تُعاش عن بعد...!