الحوثيون يمنعون محاكمة مشرف متهم بقتل مواطن في إب... ضربة قوية للقضاء    أول تعليق للشرعية على حملة اعتقالات تشنها مليشيات الحوثي بحق قيادات حزب المؤتمر بصنعاء    منظمة الشهيد جار الله عمر تعقد اجتماعاً مع هيئة رئاسة الرقابة الحزبية العليا    هموم ومعاناة وحرب خدمات واستهداف ممنهج .. #عدن جرح #الجنوب النازف !    بلد لا تشير إليه البواصل مميز    أمين عام حزب الشعب يثمن موقف الصين الداعم للشعب الفلسطيني وحقوقه المشروعة مميز    باذيب يتفقد سير العمل بالمؤسسة العامة للاتصالات ومشروع عدن نت مميز    دواء السرطان في عدن... العلاج الفاخر للأغنياء والموت المحتم للفقراء ومجاناً في عدن    منذ أكثر من 70 عاما وأمريكا تقوم باغتيال علماء الذرة المصريين    لعنة الديزل.. تطارد المحطة القطرية    بعثات دبلوماسية تدرس إستئناف عملها من عدن مميز    روح الطفلة حنين تبتسم في السماء: تأييد حكم الإعدام لقاتلها في عدن    الخارجية الأميركية: خيارات الرد على الحوثيين تتضمن عقوبات    القادسية يتأهل إلى دور 16 من كاس حضرموت الثامنة لكرة القدم    أول تحرك للرئيس المصري عبدالفتاح السيسي بعد احتلال اسرائيل لمعبر رفح    رئيس مجلس القيادة يكرّم المناضل محمد قحطان بوسام 26 سبتمبر من الدرجة الأولى    أنظار العالم تتجه إلى الرياض مع انطلاق بطولة رابطة المقاتلين المحترفين    تضرر أكثر من 32 ألف شخص جراء الصراع والكوارث المناخية منذ بداية العام الجاري في اليمن    اعتدنا خبر وفاته.. موسيقار شهير يكشف عن الوضع الصحي للزعيم ''عادل إمام''    الأسطورة تيدي رينير يتقدم قائمة زاخرة بالنجوم في "مونديال الجودو – أبوظبي 2024"    تصرف مثير من ''أصالة'' يشعل وسائل الإعلام.. وتكهنات حول مصير علاقتها بزوجها    الرئيس الزُبيدي يطّلع على سير العمل بوزارة الخارجية وشؤون المغتربين    "صحة غزة": ارتفاع حصيلة الشهداء إلى 34 ألفا و904 منذ 7 أكتوبر    الدين العالمي يسجل مستوى تاريخيا عند 315 تريليون دولار    5 دول أوروبية تتجه للاعتراف بدولة فلسطين    وفاة الشيخ ''آل نهيان'' وإعلان لديوان الرئاسة الإماراتي    امتحانات الثانوية في إب.. عنوان لتدمير التعليم وموسم للجبايات الحوثية    إعلان عسكري حوثي عن عمليات جديدة في خليج عدن والمحيط الهندي وبحر العرب    ريال مدريد يقلب الطاولة على بايرن ميونخ ويواجه دورتموند في نهائي دوري أبطال أوروبا    أسعار صرف الريال اليمني مقابل العملات الأجنبية اليوم الخميس    الإعلان عن مساعدات أمريكية ضخمة لليمن    تصاعد الخلافات بين جماعة الحوثي وحزب المؤتمر والأخير يرفض التراجع عن هذا الاشتراط !    جريمة مروعة تهز مركز امتحاني في تعز: طالبتان تصابا برصاص مسلحين!    بعد وصوله اليوم بتأشيرة زيارة ... وافد يقتل والده داخل سكنه في مكة    من فيتنام إلى غزة... حرب النخبة وغضب الطلبة    قصر معاشيق على موعد مع كارثة ثقافية: أكاديمي يهدد بإحراق كتبه    سقوط نجم الجريمة في قبضة العدالة بمحافظة تعز!    أحذروهم في عدن!.. المعركة الخطيرة يقودها أيتام عفاش وطلائع الإخوان    قناتي العربية والحدث تعلق أعمالها في مأرب بعد تهديد رئيس إصلاح مأرب بقتل مراسلها    دوري ابطال اوروبا .. الريال إلى النهائي لمواجهة دورتموند    حقيقة ما يجري في المنطقة الحرة عدن اليوم    دورتموند الألماني يتأهل لنهائي أبطال أوروبا على حساب باريس سان جرمان الفرنسي    مدير عام تنمية الشباب يلتقي مؤسسة مظلة    لماذا تقمع الحكومة الأمريكية مظاهرات الطلبة ضد إسرائيل؟    استشهاد وإصابة 160 فلسطينيا جراء قصف مكثف على رفح خلال 24 ساعة    أجمل دعاء تبدأ به يومك .. واظب عليه قبل مغادرة المنزل    وزير المياه والبيئة يبحث مع اليونيسف دعم مشاريع المياه والصرف الصحي مميز    صفات أهل الله وخاصته.. تعرف عليها عسى أن تكون منهم    شاهد: قهوة البصل تجتاح مواقع التواصل.. والكشف عن طريقة تحضيرها    البشائر العشر لمن واظب على صلاة الفجر    البدعة و الترفيه    الشيخ علي جمعة: القرآن الكريم نزَل في الحجاز وقُرِأ في مصر    تعز: 7 حالات وفاة وأكثر من 600 إصابة بالكوليرا منذ مطلع العام الجاري    ها نحن في جحر الحمار الداخلي    الثلاثاء القادم في مصر مؤسسة تكوين تستضيف الروائيين (المقري ونصر الله)    في ظل موجة جديدة تضرب المحافظة.. وفاة وإصابة أكثر من 27 شخصا بالكوليرا في إب    تعز مدينة الدهشة والبرود والفرح الحزين    صحيح العقيدة اهم من سن القوانين.. قيادة السيارة ومبايض المرأة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بين عكاز نزار قباني ونظارة طه حسين!
نشر في المنتصف يوم 23 - 02 - 2021

p class="selectionShareable" style="box-sizing: border-box; margin: 0px 0px 10px; font-family: -apple-system, BlinkMacSystemFont, " segoe="" ui",="" roboto,="" "helvetica="" neue",="" arial,="" "noto="" sans",="" sans-serif,="" "apple="" color="" emoji",="" "segoe="" ui="" symbol",="" emoji";="" font-size:="" 14px;="" font-weight:="" 600;"="" في بداية شهر مارس سنة 1994، كنت ضيفًا على جائزة سلطان العويس بفندق هيلتون الشارقة، حين مُنحت للشاعر نزار قباني، حيث أطلَّ علينا برفقة ابنته زينب، بينما أتناول مع بعض الأصدقاء طعام الإفطار في مطعم الفندق، ترددت في القيام بالسلام عليه، إلا أنه بعد دقائق فاجأني بالقدوم نحو طاولتي، فقمت مهرولًا إليه مسلّمًا ومعانقًا، وبعدما عرفني بابنته زينب من زوجته العراقية بلقيس، التي خطبها له الرئيس العراقي أحمد حسن البكر سنة 1969، قال معاتبًا:

هاه، رضا، يبدو أنك أصبحت نجمًا ببرنامجك في قناة MBC، كنت أظن أن تترك مقعدك وتأتي إليّ محييًا، لا أنا.

أجبت من فوري:

إن صح إطلاق لقب نجم بين الأدباء والشعراء العرب، فلن يليق إلا بك، أنت النجم الساطع الذي تحول إلى ظاهرة جماهيرية.. الرجال والنساء، الشيوخ منهم والشباب، المتعلمين والأميين. كل هؤلاء يعرفونك، تكاد اليوم تنفرد بهذا المجد وحدك، حيث قرأ شِعرك الملايين على امتداد عربي واسع، وتباين جيلي لافت، ومن لم يقرأ شِعرك سمعه يُغنّى في حناجر أم كلثوم وعبدالحليم حافظ ونجاة الصغيرة وفيروز وماجدة الرومي وكاظم الساهر.

أعجب هذا الإطراء الشاعر المسكون بالنرجسية، حسب أطروحة الأكاديمي اللبناني د. خريستو نجم «علم النفس الأدبية»، وأردف قائلًا:

سأتناول إفطاري مع زينب، ألا تعرفها؟ إنها وحيدتي وعمر من بلقيس، ما رأيك أن نلتقي هذا المساء هنا في الفندق، هل أنت مرتبط بموعد؟

أجبته: حتى لو كنت كذلك سأفكّ الارتباط. هل أنا مغفل لكي أفوت دعوة مفتوحة من أبرز شاعر عربي؟ّ!

وفي المساء طرَق باب غرفتي، حيث سامرني حتى منتصف الليل، وكان الشِّعر ثالثنا، كان الحديث متمحورًا حول نزار، لا يكاد يخرج عن كونه الشِّعري!

تعود معرفتي الشخصية بنزار قباني إلى أواخر شهر فبراير سنة 1975، إذ كنت من المترددين الأوائل على مكتبة الحاج محمد مدبولي بالقاهرة، عند تحولها من كشك صغير لبيع الصحف والمجلات وبعض الكتب، إلى مكتبة بارزة أصبحت تتوسط ميدان طلعت حرب، على يسار مقهى جروبي الشهير.

ذات مساء وأنا بين رفوفها أقلّب جديد الإصدارات المصرية واللبنانية، دخل علينا رجل منهك القسمات بادي الضعف في بنيته الجسمية، فما كان من الحاج مدبولي إلا أن يترك زبائنه، محتفيًا به ببالغ الحفاوة، ثمّ قدمني إليه بوصفي «أديبًا شابًا من السعودية».

سلّمت عليه معرِّفًا باسمي، وكانت دهشتي كبيرة حين ضغط على يدي محيّيًا، شاكرًا مقالتي التي نشرتها في جريدة الرياض عن أحد دواوينه الصادرة وقتذاك.

عقدت الدهشة لساني.

إذن، إنه نزار قباني، يا لها من مفاجأة. وإذ لمس في وجهي إشراقة انبهار، قال لي:

إنّ مقالتك أرسلها لي عبدالله العوهلي صاحب دار العلوم، الذي كان مفتونًا بشعر نزار افتتانًا، دفعه للعمل على فسح دواوينه وعرضها في مكتبته، مضيفًا بكلمات أمل أن تفكّ مثل مقالتي الحصار حول دواوينه الممنوع دخولها إلى المملكة، منذ أن نشر قصيدته الشهيرة «الحبّ والبترول» سنة 1958.

شكرته بحرارة على حسن استقباله ودماثة خلقه، داعيًا الله أن يرفله بأثواب الصحة والعافية. وقتها كان نزار قد مرّ بأول أزمة قلبية أدخلته مستشفى الجامعة الأمريكية ببيروت، ليجري عملية قلب مفتوح، إثر الصدمة النفسية التي تعرض لها سنة 1973، بعد وفاة ابنه البكر (الأمير الدمشقي توفيق)، بأزمة قلبية مفاجئة، وهو يدرس الطب في جامعة القاهرة، وقد رثاه في مجلة الأسبوع العربي بقصيدة باكية، منها:

«أشيلك! يا ولدي! فوق ظهري

كمئذنة كُسرت قطعتين

وشَعرك حقل من القمح تحت المطر

ورأسك في راحتي وردة دمشقية وبقايا قمر

أواجه موتك وحدي

وأجمع كل ثيابك وحدي،

وألثم قمصانك العاطرات

ورسمك فوق جواز السفر،

وأصرخ مثل المجانين وحدي

وكل الوجوه أمامي نحاس

وكل العيون أمامي حجر

فكيف أقاوم سيف الزمان؟

وسيفي انكسر!».

شكرني بدوره، وقبل مغادرته المكتبة، دعاني للاستماع إلى قصيدته في رثاء د. طه حسين، الذي توفي في أحد أيام حرب أكتوبر 1973، مما اضطر الدولة المصرية إلى تأجيل رثائه في احتفال عالمي، أقامته كذكرى لوفاته في قاعة الاجتماعات الكبرى بجامعة الدول العربية بين 26 – 28 فبراير 1975، بحضور عدد كبير من المستشرقين والمفكرين والشعراء العرب.

هكذا بدأت علاقتي بنزار قباني.

وهأنذا أدخل بكل مهابة القاعة التي كان لها وقع السحر في نفوسنا العربية، ونحن نشاهد في التلفزيون ونتابع في الصحف، الملوك والرؤساء العرب يجتمعون فيها أثناء أحداث العرب الكبرى.

بدأ الاحتفال بكلمة للرئيس أنور السادات، ألقاها نيابة عنه د. عبدالعزيز كامل نائب رئيس الوزراء للشؤون الدينية، ثم توالت الكلمات من يوسف السباعي وزير الثقافة محيّيًا الصفوة من أبناء العروبة والإسلام للاحتفاء بعميد الأدب العربي ودوره في النهضة الثقافية العربية، كما أكدت تلميذته الأثيرة د. سهير القلماوي، على دعوة أستاذها «للتحرُّر من الجمود الفكري، واصطناع الأساليب العلمية الحديثة، كما تعلّمها على يد فطاحل عصره، دوركهايم وليفريوول في علوم الفلسفة والاجتماع، ودروس كازانوفا عن القرآن الكريم في الكوليج دو فرانس، وقد قرأ لطائفة ضخمة من فلاسفة اليونان والعصور الحديثة، مستوعبًا كل هذا على خلفية ضخمة من علوم الدين واللغة والأدب العربي».

ثمّ تعاقب على منصة الخطابة المستشرقين والمفكرين والشعراء، يمجدون حياة العميد وكفاحه وتآليفه وترجماته، بحضور زوجته سوزان الفرنسية متوسطةً ابنتها أمينة وابنها مؤنس. وقد افتتح الشِّعر في الحفل دولة رئيس وزراء الأردن الشاعر: عبد المنعم الرفاعي بقصيدة جاء فيها:

«يا قاهر الأيام مرّ مريرها

ومبدد الآلام بالآمال

هوت السنين العاتيات كأنها

وقد انتهين إليك بضع ليالي

وكأن أجنحة الزمان تكسرت

لما طلعت بيومك المتلالي

من ظلمة خرساء عابسة الرؤى

أشرقت نورًا في سماء جمال

حنت إليك النيرات ففتحت

في أصغريك جواهرًا ولآلئ».

وها هو شاعر آخر يتقدم إلى المنصة، محمَّر الوجه ومتطاير الشَعر، وقف هنيهة يلتفت يمنةً ويسرة، وكأنه فارس يستعد لخوض معركة! مستجمعًا أنظار الحضور إليه، ثم انطلق صوته هادرًا بما لا يتناسب مع ما كانت عليه قصيدته من جمال، وقد ألقاها بتباهٍ نرجسي صارخ، هازًا يده ورأسه ولسانه:

«ذكراك في البال ما ذكراك؟ قل طربًا

هام الخيال غضوب أشعل السحبا

ولولا ريشة عصر أن تظلله

لكنت كالليل لفّ المنهى بإبا

كذاك أنت رمت عيناك ليلهما

ثقلًا على الشرق عاد الشرق ملتهبا

لا، لم تقلها استفيقوا إنما بدعت

يداك بدعًا تصبى الجفن والهدبا

بات الذي يقرأ (الأيام) مختلبًا

بالحسن والحسن ينبي يوم ليس نبا».

مع جمالية قصيدة سعيد عقل، وفرادة صوره، وبراعة تراكيبه، إلا أن توتره النفسي، وطريقة إلقائه المسرحية المتعالية، صرفت أنظار الحضور النخبوي دون الالتفات إليه، فلم تنل قصيدته ما كان يتوقعه من التصفيق، لحظتها لم أتأمل رد فعل نزار قباني، المتهم من بعض النقاد باغترافه من هذا النبع اللبناني المتدفق بالأخيلة والصور، والتفنن في الاستعارات والمجازات في شِعره.

لقد شغلني عنه تفحصي وجوه كِبار المستشرقين، وفي طلعتهم المستشرق البريطاني الشهير ر. ب. سارجنت، وقد راح يسترجع ذكرياته مع طه حسين، عندما استقبله بحفاوة في جامعة كامبريدج سنة 1949، ليحاضر في طلبتها، وكذلك ألقى المستشرق الألماني بيتر باخمان كلمته عن دور العميد في تعريف الجامعات الألمانية بالأدب العربي، كما ألقى المستشرق الإيطالي ريتز ينالو أوبيرتو، والمستشرقون الفرنسيون الأب جومييه وروجز أرنلدز واينائيل، وكذلك ألقى مولود معمري الروائي الجزائري الأمازيغي كلمته بالفرنسية مثلهم! بينما ألقى الأديب التونسي البشير بن سلامة كلمة بلده بلغة عربية فصحى، وألقى كذلك المجمعي العراقي د. عبدالرزاق محي الدين قصيدة كانت ديباجتها نجفية. قبل أن يأتي دور كلمتيّ تلميذيّ طه حسين البارزين د. ناصر الدين الأسد من الأردن و د. شكري فيصل من سوريا. كما كان للشاعر اليمني د. عبدالعزيز المقالح مشاركة استثنائية، كاسرًا بها فوبياه من عالم الطيران!

كل هؤلاء من زملاء العميد وتلامذته، ودارسيّ نقده الأدبي وفكره التاريخي وتنويره الثقافي، توقفوا عند دوره الاجتماعي والسياسي حينما طبّق دعوته إلى مجانية التعليم (كالماء والهواء)، بعدما أصبح وزيرًا للمعارف، في أخر حكومة وفدية، قبل إطاحتها أثناء ثورة 23 يوليو 1953.

هذا ما محوَر عليه الشاعر أمل دنقل قصيدته، التي كتبها على النمط الخليلي، إلا إنها اتسمت بنبرة نثرية فاقعة، كاسرًا بها نهجه الشِّعري التفعيلي الغاضب، المتطاير شرره المبدع في دواوينه، جاء فيها:

«أترى تبكين من مات لكي

تستعيدي راية الفكر السليبة

والذي مات لكي ينقش في

كل قلب ناشئ حرف العروبة

ولكي يحتضن الطفل حقيبة

ولكي تقتات بالعلم الشبيبة».

لم تنل قصيدة أمل أي حظ من التصفيق، وهو يقف أمام عمالقة القريض العمودي، ممن تعودوا على ارتقاء منبر الإلقاء الشِّعري الجزل، فقد بدا أمل ركيك التعبير باهت الحضور، وكأنه جرَّ إلى ارتقائه؛ مجاملًا بمشاركته يوسف السباعي وزير الثقافة ورئيس اتحاد الأدباء الأفروآسيويين، وكان أمل وبعض زملائه من الأدباء الشباب اليساريين، أصبحوا موظفين فيه بلا عمل! وقد أشفق يوسف السباعي على معيشتهم البائسة، فاقتعد لهم وظائف رمزية في الاتحاد.

لذلك وجدتني أتحرش بأمل بعد الفراغ من قصيدته المهلهلة، مستفزًا إياه وقد بدل جلده الشِّعري في هذه المناسبة! بل إنه استبدل بدلةً بقميصه وبنطاله البسيطين! رادًا له الصاع صاعين في مناكفاتي إياه في مقهى ريش، بلغت ذروتها بعد أيام في مطعم اتحاد الأدباء والكتّاب، ذات يوم نفسي عاصف، والصديق الروائي المصري جمال الغيطاني، يحتفي بخطيبته ماجدة الجندي الصحفية بمجلة (صباح الخير)، على مائدة غداء رومانسي، أحسب أنني وأمل أفسدنا رونقها في ذلك اليوم!

في اليوم الأخير من الحفل تقدم نزار قباني إلى منصة الإلقاء، وقد أنهكته عملية القلب، بدا ضعيفًا شاحب الوجه، لكنه سرعان ما استرد عنفوانه، فانطلق صوته الاحتجاجي الآسر يرنّ بين جنبات القاعة الفخمة من أول بيت:

«ضوءُ عينَيْكَ أمْ هُمْ نَجمَتانِ؟

كُلُّهمْ لا يَرى.. وأنتَ تَراني

لستُ أدري مِن أينَ أبدأُ بَوْحي

شجرُ الدمعِ شاخَ في أجفاني

كُتِبَ العشقُ، يا حبيبي، علينا

فهوَ أبكاكَ مثلما أبكاني

عُمْرُ جُرحي.. مليونَ عامٍ وعامٍ

هلْ تَرى الجُرحَ من خِلال الدُخانِ؟

نَقَشَ الحبُّ في دفاترِ قلبي

كُلَّ أسمائِهِ… وما سَمَّاني».

سرَت روحٌ في القاعة، وأيّة روح؟! إنها شبيهة بنشيد صوفي، يتصاعد درجة فوق درجة، فإذا بجمهور القاعة المكتظة ذلك اليوم بشيوخه قبل شبابه، ونسائه قبل رجاله، ومستشرقيه قبل عربه، وناثريه قبل شعرائه، يأخذهم نزار إلى سماوات إبداعه وتجليات صوره، في موعد غرامي بالشِّعر والجمال:

«صَدَقَ الموعدُ الجميلُ .. أخيرًا

يا حبيبي، ويا حَبيبَ البَيَانِ

ما عَلَينا إذا جَلَسْنا بِرُكنٍ

وَفَتَحْنا حَقائِبَ الأحزانِ

وقرأنا أبا العلاءِ قليلاً

وقَرَأنا (رِسَالةَ الغُفْرانِ)،

أنا في حضرةِ العُصورِ جميعًا

فزمانُ الأديبِ .. كلُّ الزّمانِ ..

ضوءُ عينَيْكَ .. أم حوارُ المَرايا

أم هُما طائِرانِ يحترِقانِ؟

هل عيونُ الأديبِ نهرُ لهيبٍ

أم عيونُ الأديبِ نَهرُ أغاني؟

آهِ يا سيّدي الذي جعلَ اللّيلَ

نهارًا .. والأرضَ كالمهرجانِ».

هاهي سوزان زوجة العميد، أراها تتحرك لأول مرّة، فعلى مدى ثلاثة أيام من هذا الحفل البهي، ظلت متحفظة صامتة! وكأنها للتو تسمع كلامًا تفهمه! إنها المسكونة بذاتها الفرنسية، رغم معايشتها الطويلة للغة العربية وتذوق موسيقاها، في صوت زوجها الكفيف، الذي يتلوها آناء الليل وأطراف النهار، متأثرًا بآي الذكر الحكيم، وهو ينغمها تنغيمًا أيما تنغيم بحضورها، ممليًا الرسائل والكتب على سكرتيره فريد شحاتة، وفي إلقائه المحاضرات فوق مدرجات الجامعة، أو في المنتديات داخل مصر وخارجها برفقتها. ومع ذلك ظلت سوزان متشبثة بفرنسيتها، وكأنها خائفة من ذوبان هويتها في البحر العربي المتلاطم، وما كان زوجها إلا موجة عاتية من موجاته الزاخرة بجواهره البلاغية وفيروزه الأسلوبي.

لقد تمثّل نزار قباني تجربة طه حسين المديدة، وهو يقارع عقبات الحياة، وتقليدية التربية والتعليم، ومحافظة مجتمعه الصغير في مسقط رأسه (مغاغة) ومجتمعه الكبير في القاهرة منذ جاء إليها بدثار الحرمان والفقر، دارسًا في المسجد الأزهر، تحدوه روح نقدية ثائرة، ومتفاعلًا مع حراكها الوطني.

لذا راح نزار يخاطب عينيه الكفيفتين بنظارته السوداء:

«ضوء عينيك أم حوار المرايا

أم هما طائران يحترقان

هل عيون الأديب نهر لهيب

أم عيون الأديب نهر أغاني

آه يا سيدي الذي جعل الليل

نهارًا والأرض كالمهرجان

ارم نظارتيك 00 ما أنت أعمى

إنما نحن جوقة العميان».

كما يُحلّق الطير فوق الرؤوس، هيمن الصمت على جمهور القاعة، إجلالًا لمقام العميد، وانبهارًا بشاعرية نزار، فإذا بسوزان تخرج عن سمتها المتعالي، وهي مشدودة منجذبة إلى قصيدته، فتهب واقفة من مقعدها متقدمة الى نزار، وكأنها تود الطيران إليه قبل أن يصل إليها مسلمًا بانحناءة، أتقنها من طول خبرته الدبلوماسية في عدد من بلدان العالم.

يكاد القارئ متذوقًا أو ناقدًا لشِّعر نزار أن لا يجد عسرًا في الدخول إلى نصه، فهو منذ انطلق الشِّعر على لسانه أول مرّة في رحلته البحرية إلى إيطاليا، حتى آخر نص كتبه قبل رحيله، وهو على خط مباشر بالقراء، اتفقوا مع شِعره أو اختلفوا، يفهمونه من أول نظرة!

لم يكن غامض الأحاسيس كالرومانسيين، ولم يكن مطلسمًا كبعض الحداثيين، فنزار مرحلة وسطى، بين جمالية بدوي الجبل وفنية عمر أبو ريشة، في مدرسة الشِّعر العمودي، ومحمود درويش ومحمد علي شمس الدين وغازي القصيبي في مدرسة الشِّعر التفعيلي، غير أن نزار قباني يمتاز بين هؤلاء جميعًا، بجمالية واقعية، زاوجت بين فصاحة اللغة العربية، واللهجة الشعبية الدارجة بألفاظها المستجدة، معبرًا عن بيئته الدمشقية بلغة (نزارية)، تفوح منها رائحة البيت الدمشقي، وبهارات سوق البزورية، وروائح الحلويات الشامية في سوق الحميدية، حيث قضى طفولته وصباه وشبابه، في بيت والده توفيق (صانع الحلويات)، في حي مئذنة الشحم، وقد أسرى به الزمن الطفولي على شجرة النارنج تحتضن ثمارها، بينما دالية العنب في صحن البيت، محاطة بليلكة تمشط شعرها الذهبي – كما يعبّر في كتابه «دمشق نزار قباني» – والورود بألوانها الخضراء والحمراء سجادة تحت قدميه، وأسراب السنونو فوق رأسه، وعشرون صفيحة فل في صحن الدار هي كل ثروة أمه.

هذا البيت الدمشقي الجميل، الذي يمكنه بإغماضة عين أن يعد مسامير نوافذه، ويستعيد آيات القرآن الكريم على خشب أبوابه.

لقد استحوذ على مشاعره، حتى أفقده شهية الخروج إلى الزقاق، مستريحًا في حضن أمه مستأثرًا بدلالها، من بين جميع إخوته وأخته المنتحرة عشقًا! حيث الفيء والرطوبة، بينما يجلس والده في صحن الدار، وأمامه فنجان قهوته ومنقله وعلبة تبغه، وعلى صفحات الجريدة، إذ يتفاعل مع أحداث الثورة الوطنية ضد المحتل الفرنسي، تسقط زهرات الياسمين.

يقول الفيلسوف والناقد الفرنسي غاستون باشلار، الذي اهتم بجمالية الصورة، معادلًا موضوعيًا للأشياء، في كتابه الممتع «جمالية المكان»:

«حين نحلم بالبيت الذي ولدنا فيه، ننخرط لحظة الاسترخاء في ذلك الدفء الأصلي، فهذا هو المناخ الذي يعيش فيه الإنسان المحمي في داخله، والشاعر يعرف جيدًا أن البيت يحمل الطفولة بين ذراعيه».

هذا هو المفتاح الشِّعري لعالم نزار قباني كما يقول في كتابه «قصتي مع الشِّعر»، إلا أنه لم يسلم من محافظيّ مدينته الدمشقية، رشقه بالحجارة والطماطم والبيض الفاسد، بعدما ثار على تقاليدها المحافظة في تغزله المكشوف بالمرأة، منذ ديوانه «قالت لي السمراء»، سنة 1944، حتى قصيدته «خبز وحشيش وقمر»، تمامًا كجده (أبو خليل القباني)، مؤسس المسرح الحديث بين دمشق والقاهرة، وقد ورث منه مواجهة التاريخيين أي التقليديين، بالسلاح الأبيض، سلاح الفن والشِّعر.

مرّة من مرّات زياراتي المتكررة لنزار، في شقته الأنيقة بحي نايتسبريدج اللندني، سألته عن مناوشته البارعة مع مارون عبود، الذي كتب منتقدًا واحدًا من دواوين نزار، مشيدًا في نفس المقال بجديد صوره، في دواوينه الأربعة الأولى، هل كان يخشى شيخ النقاد اللبنانيين في رده النثري الرقيق عليه، وهو يشكر التفاتته إلى شِعره الشاب، واصفًا إياه ب«شجرة السنديان»، التي تنقر العصافير الصغيرة مناقيرها على جذعها الضخم، فأجابني:

لا، يا رضا، ليست خشية وإنما احترامًا، فقد كان مارون عبود وجيله في لبنان، ومنير العجلاني ومجايلوه في سوريا، وأنور المعداوي ورفاقه في القاهرة، أساتذة بحقٍّ وحقيق، ليسوا كأدباء وشعراء هذه الأيام، وقد صبّ جام غضبه على شعراء الحداثة العرب، من الذين فتكوا بقصائدهم الضبابية ذوق المتلقي العربي.

وفي جلسةٍ أخرى أخذ على ابنة شقيقه د. رنا قباني، تطاولها عليه، ولم يرتح لحديثها معي في برنامجي »هذا هو«، وإساءتها إلى طليقها الشاعر محمود درويش، الذي هاتف نزار مبتئسًا من تلك المقابلة. وكان نزار يعتبر محمود درويش أحد الشعراء الخارجين من معطفه الشِّعري. وهذا واضح لمن يتأمل دواوين محمود الأولى، كما هو تأثير أدونيس الواضح في دواوينه الأخيرة.

عاتبته ذات جلسة معه في نفس الشقة اللندنية على إساءاته لأهل الخليج، التي ابتدأت منذ قصيدته »الحبّ والبترول«؛ فحكى لي مناسبتها في شخصية معينة غير سعودية، اقترنت بفاتنة سورية من أسرة معروفة، كانت تصحبه في حفلات الاستقبال و»الدواوين«، وأردف: إن المملكة لم تصفّي معه أي حساب، لقد استقبلت أخاه د. رشيد طبيبًا في أحد مستشفيات الرياض لسنوات طويلة، دون أن تحمله أي موقف سياسي اتخذه نزار في شِعره السياسي الذي توجه إليه بعد هزيمة 5 حزيران 1967؛ بل إنه عبّر لي ذات جلسة أخرى عن مشاعر الرضا والإعجاب، بما تحقق في المملكة من خطط تنموية، وقد استوقفته عمارة الحرمين الشريفين المدهشة، وهو يتابع صلاة التراويح فيهما طوال شهر رمضان منقولة مباشرة على قناة MBC، وفي السياق ذاته عبّر لي عن مرارته من د. غازي القصيبي، الذي يعتبره أحد تلاميذ مدرسته الشِّعرية، كيف يتلافى لقاءه أو زيارته في شقته، وقد أصبح سفيرًا للمملكة في لندن. وحين نقلت عتابه إلى د. غازي أرسل له باقة ورد، وعندما تعرض نزار لأزمة قلبية هي الأخيرة قبل وفاته بأسابيع، قام غازي بزيارته، يقول في كتابه «بيت»، صفحة 71:

«ذهبت أزور نزار قباني رحمه الله في شقته اللندنية وكان خارجًا لتوه من المستشفى بعد غيبوبة استمرت بضعة أسابيع، كان منهكًا جسديًا، إلا أن انهماكه النفسي كان أكبر. كان حزينًا لأنه لم يعد قادرًا على كتابة الشِّعر. قال لي أن نهاية الشِّعر نذير مؤكد بانتهاء الحياة نفسها. خرج يودعني، وهو يمشي بصعوبة متوكأ على عكازةٍ طبية. عندما وصلنا باب الشقة، توقفت ونظرت إليه، وقلت: "اِرم عكازتيك!"، أدرك على الفور أني أشير إلى قصيدته الجميلة في طه حسين، وتهللت أسارير وجهه. بدأت أقرأ الأبيات الأولى من القصيدة التي تبدأ ب"ضوء عينك أم هما نجمتان". كنت أقرأ وأنا أرى معجزة طبية تحدث أمامي؛ عاد اللون الوردي إلى الخدين الشاحبين. سقط العكاز، ذهبت التجاعيد عن الوجه الذي عاد بغتةً إلى الشباب. عندما انتهيت همس وهو يعانقني: "أرأيت كم هي جميلة هذه الأبيات؟ كم هي بديعة، كم هي سلسلة؟"».
وهكذا، انتهت اللحظة المعجزة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.