في دهاليز السياسة الدولية حيث تتلاقى المصالح وتتداخل الأجندات لتشكل حبكة معقدة، غالباً ما تكون على حساب الشعوب المستضعفة. واليمن، هذا البلد الذي يعاني ويلات صراع لم تتضح بعد أبعاده واسبابه الحقيقية، يقدم لنا نموذجاً صارخاً لمسرحية دولية هزلية عبثية، تتكشف فصولها أمام أعيننا، لكننا نصر على تصديق السيناريو المعلن، رغم تناقضاته الصارخة ومنطقه المقلوب. دعونا نبدأ من الحروب الست الدموية التي خاضها الرئيس السابق علي عبد الله صالح ضد جماعة الحوثي في السنوات الأخيرة من حكمه. حيث قُتل الآلاف من الطرفين، من قادة عسكريين وجنود ومواطنين، في صراع بدا وكأنه حرب وجودية والغريب في الأمر أن الحوثيين، في تلك المرحلة، كانوا مجرد فئة هامشية محصورة في منطقة جغرافية ضيقة من صعدة، ولم يكن لها ذكر أو تأثير قبل ظهورها المفاجئ. فكيف لهذه الجماعة المحدودة، والتي كانت معزولة تماماً في بيئة لا تشكل حاضنة حقيقية لها، أن تصمد كل تلك السنوات أمام جيش نظامي ضخم ومنظم، يمتلك أسلحة ثقيلة ومتطورة وكيف لم تُهزم هذه الجماعة رغم استحالة وصول أي دعم عسكري خارجي حقيقي إليها في ظل ذلك الحصار والأهم من ذلك، ان هذه الجماعة لم تكن لها قضية واضحة أو مشروع سياسي مفهوم يمكن أن يحشد دعماً شعبياً واسعاً حولها وهذا المشهد الأول بحد ذاته يثير تساؤلات عميقة حول القدرة الحوثية على الصمود، ويضع علامات استفهام حول طبيعة تلك الحروب ودوافعها الحقيقية.
ننتقل إلى المشهد الثاني، بعد الإطاحة بنظام صالح بموجب المبادرة الخليجية. فمن بديهيات انتقال السلطة في أي نظام سياسي في العالم، أن تنتقل السيطرة والقيادة على الجيش بصورة تلقائية إلى الرئيس الجديد الذي يتسلم دفة الحكم حيث لم يحدث في تاريخ كل أشكال انتقال السلطة، سواء كانت سلمية أو ثورية او انقلابية، أن يبقى الجيش تحت إمرة الرئيس الساقط أو المخلوع أو السابق، مهما بلغ ولاؤه له فبمجرد تسليم السلطة، يصبح ولاء الجيش للمؤسسة ولرأس الدولة الجديد، لا للشخص الذي غادر كرسي الرئاسة. وفي الحالة اليمنية، تسلم الرئيس عبد ربه منصور هادي زمام الحكم من صالح بشكل سلمي وودي، وهو ما كان يفترض أن يضمن انتقالاً سلساً وتلقائيا لولاء القوات المسلحة اليه بشكل كامل
لكن ما حدث بعد مرور أكثر من سنتين على حكم هادي، كان صادماً ومناقضاً لكل منطق. فعندما اقتحم الحوثيون صنعاء دون أي مقاومة تذكر، تفاجأنا جميعاً بإعلام يمني وإقليمي ودولي يبرر ما حدث بأن "عفاش والحوثي اتفقوا وتآمروا سراً فيما بينهم على الإطاحة بالرئيس الجديد عبد ربه منصور هادي". وزعموا أن صالح، رغم سقوطه من الحكم، قبل عامين فقد بقي مسيطراً على الجيش منذ ذلك الحين ثم وضعه في آخر المطاف تحت تصرف الحوثي.
وهنا تكمن ذروة العبث واللا منطق. اذ كيف يمكن أن يتفق عفاش والحوثي بتلك السهولة، وهما اللذان قتلا الآلاف من أتباع بعضهما البعض لسنوات طويلة وهل يعقل أن تتحول عداوة دموية طويلة الامد وحروب طاحنة إلى تحالف سري بهذه السرعة واليسر والأكثر غرابة هو أن عبد ربه منصور هادي، الذي استلم الحكم من بعد صالح، كان أقرب إليه بكثير جداً من الحوثي ولم يكن هادي نائباً لصالح فحسب، بل كان قيادياً بارزاً في حزب المؤتمر الشعبي العام الذي يرأسه صالح، وكان متأثراً به ووفياً له. فكيف يعقل أن يتآمر عفاش ويتحالف مع أعدائه اللدودين (الحوثيين) للإطاحة بمن اختاره بنفسه لاستلام الحكم من بعده وهذا عمل لا يتماشى البتة مع أي منطق سياسي أو حتى شخصي.
ولنفترض جدلاً، ومن باب المجاز المستحيل، أن ذلك قد حدث فعلاً بين صالح والحوثي، وأن صالح ظل محتفظاً بالجيش لمدة تزيد عن عامين بعد تسليمه للحكم، رغم استحالة ذلك عملياً فهل يعقل أن يضع صالح الجيش كله تحت سيطرة وتصرف الحوثيبن، وهي الجماعة التي لا تملك أي شرعية ولا تأثير أو سطوة على مؤسسة الجيش ولا على الشعب قي ذلك الوفت بل كانت عدواً لها ولماذا قد يقبل هذا الجيش ان يكون تحت تصرف الحوثي ومواليا له ، في حين لم يستجب للرئيس الشرعي عبد ربه منصور هادي وبقي موالياً لصالح، ثم فجأة يسلم نفسه للحوثي بكل سهولة دون قيد أو شرط ولم يحتفظ بولائه لصالح الذي قتل على يد الحوثيين دون ان يحرك هذا الجيش ساكنا حياله هذا التناقض الصارخ لا يمكن أن يصدقه جاهل أو غبي، ومع ذلك فقد تم تمريره ببراعة على الشعب اليمني برمته.
وليزيد المشهد غرابة، ويُضفي عليه لمسة من الفنتازيا التي تُشاهد في الأفلام الهندية لا في الواقع السياسي، يأتي مشهد "هروب" الرئيس عبد ربه منصور هادي من قبضة الحوثيين المحكمة في صنعاء. فهل يعقل لرئيس محاصر، ومستهدف من قبل كل قوات خصومه في منزله وتحت رقابة عالية وتركيز شديد، أن ينجو بهذه السهولة المدهشة، ويقطع مئات الكيلومترات ليصل إلى عدن، ثم تلاحقه القوات الحوثية بالغارات الجوية والقوات البرية لتُحتل عدن فسيناريو الهروب هذا، وتوقيته، وما تلاه من أحداث، لا يمكن تفسيره إلا في إطار كونه جزءاً من مخطط مرسوم، يُراد منه إعطاء الشرعية للمرحلة التالية من الصراع، وتبرير التدخلات القادمة.
إن هذه السلسلة من التناقضات والقفزات غير المنطقية، التي تتجاوز حدود العقل والمنطق السليم، ليست مجرد أخطاء في السرد أو سوء فهم للأحداث. بل إنها دليل قاطع على أن الأطراف التي تمثل الخصومة والاتفاق في اليمن، هي أطراف تعمل في الحقيقة لصالح جهة دولية واحدة، أو بتوجيه من "مُخرِج دولي" واحد هو الذي يقف خلف الكواليس، ويحركها ويوزع الأدوار عليها وفقاً لما تقتضيه معطيات وظروف كل مرحلة من مراحل المخطط الأكبر الذي بتم تنفيذه فالعداوات تتبدل إلى تحالفات بلمح البصر، والجيوش تسلم نفسها لأعدائها، والرؤساء يُطاح بهم على يد حلفائهم المفترضين، كل ذلك يتم في إطار سيناريو محكم يخدم أجندة خفية وأهدافاً جيوسياسية تتجاوز بكثير مصالح اليمنيين أنفسهم.
إن الشعب اليمني، الذي دفع ثمناً باهظاً لهذه المسرحية الدموية، يستحق أن يعرف الحقيقة. فاستمرارية ترويج روايات غير منطقية، وتمرير أحداث لا يصدقها عاقل، لا يخدم إلا استمرار حالة الفوضى والضبابية التي تسمح ل"المخرج" بالاستمرار في تحريك دمى الصراع.