ها أنا أقف على أعتاب السبعين، بعد أن انقضت مني ستة عقود كاملة، وكأنني مسافر أوشك على مغادرة محطته الكبرى. أيها الواقف الآن، أنت الكاتب نفسه، حانت لحظة الصدق الأكبر. إنها ليست مجرد نهاية عقد، بل هي مفترق طرق بين ماضٍ انقضى ومستقبل آتٍ لا محالة. قف الآن أيها الكاتب، وتأمل بقلب خاشع وعين دامعة: * وداعاً لكل لحظة تقصير: هل أديتَ حق الله عليك؟ هل أقمتَ الفرائض كما ينبغي؟ حان وقت المحاسبة والتقييم الجاد؛ ما الأهداف التي أخفقت في تحقيقها بسبب فتور العزيمة؟ وما هي الأعمال التي أرجأتها حتى فات أوانها؟ * وداعاً لدروس الماضي: امتَنَّ للشدائد التي صقلتك، وللنعم التي غمرتك. الآن وقت الامتنان والشكر على كل نفس تنفسته، وكل رزق يسَّره الله إليك. * وداعاً لأثقال النفس: اترك خيبات الأمل، والإخفاقات، والمشاعر السلبية مع السنين المنصرمة. أغلق صفحة الألم بكل ما فيها من خصام، ومُشاحنات، وضغائن. لا تحمل متاع الماضي الثقيل لرحلة تستوجب الخفة والصفاء. اجعل وداعك للستين هو تطهير للروح واستعداد للقاء، وكأنك تُعيد صفاء قلبك من جديد. وقفة الشجن: حنين ووداع الأحبّة أجل، وداع الستين يعني وداع مرحلة، ولكنه يحمل في طياته شجناً عميقاً على قُرب الوداع الأخير. في هذه اللحظة، يرتعش القلب حزناً على ما قد يفوت، وتتسرب دمعة حارقة خشية الفراق الأبدي. وداعاً يا أحباء الروح! فما تبقى من العمر هو رحلة العد التنازلي لرؤية تلك الوجوه التي ألفتها، وتلك الأكف التي صافحتها، وتلك القلوب التي سكنت إليك. كم هو موجعٌ أن تعلم أن كل ضحكة مع الأهل والأصدقاء، وكل جلسة مودة، قد تكون هي الأخيرة. تُرى، هل سنلتقي في جنان الخُلد كما التقينا على أرض الفناء؟ هذا هو السؤال الذي يثقل الروح، وهذا هو الحزن الذي لا يُطاق؛ حزن على فوات زمن الطمأنينة بين الأهل، وخوف من وحشة القبر، وشوقٌ يمزق القلب إلى لقاء الربّ الكريم مع حسن الختام. يا رب، لا تحرمنا لُطفك عند الرحيل، واجعل آخر زادنا شهادة الوحدانية، ومحبة لك ولنبيك ولأوليائك. صرخة الظلم: أجرٌ ضائع بين شهادات التقدير وجحود المقصرين ولكن، لكي تكتمل وقفة الصدق مع الذات، يجب أن نذكر أيضاً مرارة الظلم التي عكّرت صفو هذه الإنجازات. فبأي منطق يُحارَب ويُهمَل من قضى جُلَّ عمره في خدمة بَلَدِه، ومن أنتج عشرات الكتب والأبحاث المتخصصة وآلاف المقالات، ونجح في كل ميدان أُسند إليه، وحصد شهادات التميز من رؤسائه، ثم يُترك دون أبسط الحقوق التي مُنحت للمتقاعسين؟ إنها مفارقة موجعة، أن تجد المؤسسة التي خدمتها بكل هذا البذل والعطاء، هي نفسها من تَخْذُلُك في نهاية المطاف. لكن عزاؤنا ليس في رواتبهم الزائلة، بل في أجر الله الباقي على هذا الجهد القيادي والعلمي والفكري الذي يُنير دروب الأجيال. نترك أمر هؤلاء إلى ديّان لا تضيع عنده الحقوق، ونجعل هذا الظلم وقوداً لمزيد من العطاء لوجه الله وحده. اصبرْ أيها الكاتب، فما عند الله خير وأبقى. بين الستين والسبعين: رحلة الزاد والعمل إن عمر الإنسان محدود بآجال، وما بعد الستين هو الفترة الأجدر بأن تُستغل في الاستعداد للحظة الوداع الأخير. لقد صدق نبينا الكريم صلى الله عليه وآله وسلم حين قال: "أعمارُ أُمَّتي ما بينَ السِّتِّينَ إلى السَّبعينَ وأقلُّهُم مَن يجوزُ ذلِكَ". يا له من إنذار رقيق يحمل في طياته دلالة الرحمة! هذا الحديث ليس حكماً، بل هو دعوة إلهية للجدّ والاجتهاد في العشر الأخير من العمر. ماذا يعني لي أنا الكاتب هذا التنبيه الإلهي؟ إنه يعني: * الاستعداد الذهني والروحي: ما تبقَّى من عمري هو "فترة السماح الذهبية". كل يوم هو فرصة لا تُعوَّض لرفع الدرجات وتكفير السيئات. * التوكل واليقين: بعد التخطيط والأخذ بالأسباب في حياتي الجديدة، يكون التأمل في طلب العون والتوفيق من الله في كل خطوة أخطوها، فهو القادر على إنارة الدرب. * تجديد النوايا الصادقة: أن تكون كل حركة وكل سكون خالصة لوجه الله، لا نفع فيها دنيوي إلا تبعاً. إذن، ليكن وداع الستين هو بداية لحياة جديدة شعارها: "لله ما تبقى، ولله ما سيكون." تجديد وتأمل: نحو الأعوام الآتية هذا الجزء هو جوهر الرسالة، يحمل في طياته الأمل والطموح، وتتجسد فيه معاني التجديد الحقيقي: * وضع رؤية جديدة: صياغة أهداف وطموحات واضحة ومحددة للفترة القادمة. يجب أن تدور هذه الأهداف حول زيادة القرب من الله، وبر الوالدين والأهل الذين سبقوني إلى دار القرار، ونفع الناس.. * تغيير العادات: التخلي عن العادات السلبية المهدِرة للوقت واستبدالها بأخرى إيجابية تدعم نموي الروحي والعقلي. لتكن حياتي الجديدة أكثر هدوء وعبادة. * تطوير الذات: لا أتوقف عن التعلم؛ أجاهد بالكلمة الصادقة، أقرأ، أطلب العلم، أحاضر أخطب، أنفع غيري بما لديّ من علم وخبرة. فالعمر الحقيقي هو ما يُنفق في طاعة وعمل نافع. * تقوية الروابط: أجعل ما تبقى لي من وقت مُكرَّساً لتعزيز الروابط الأسرية والاجتماعية، والتصالح مع الذات ومع الآخرين، ونشر المحبة والسلام في مجتمعي. لتكن الأعوام القادمة هي "سنوات الحصاد" التي تُزرع فيها أعمال صالحة تجد أثرها يوم اللقاء. إنه ليس مجرد تغيير في التقويم، بل هو فرصة لإعادة ضبط المسار والانطلاق نحو الأفضل. نسأل الله أن يجعل لنا ولكم ختاماً حسناً، وأن يبارك فيما تبقى من أعمارنا في طاعته ورضاه. أعراض السبعين... والدروس الخالدة يا أيها الواقف على عتبات السبعين، إنها مرحلة لا تأتي خالية من أعباء، فصديقك يغادرك وقد تتربص بك أعراض أمراض العصر: من سكر وضغط ونقرس وقلب وبروستات، وضعف البدن وقصر في النظر وقلة في السمع، وقد تثقل كاهلك هموم وقلق من القادم وتغير وتقلب في المزاج. قد تجعلك هذه الأعراض الإنسانية تحس ب شماتة الأقربين، والشائنين، وقد تصبح كلمة عابرة من ولد جاحد: "أنت لا تعطيني كإخواني، أنت غير عادل". وأحياناً قد يجفوك أحدهم ويقاطعك وهذا يُجفيك، و يصدق زوجته على من سواها. وآخر يفرض سلطانه على ما امتلكته بكدك وجهدك ويعتبره حقاً مكتسباً له، وينتظر اليوم الذي سيشيعك لمثواك الأخير. يجري هذا وأنت ترى وتسمع، وهنا تسود الدنيا في عينيك ويتكدر عيشك. وقد تشعر أحياناً بالشفقة والمجاملة المصطنعة أو المداهنة، والأدهى أنهم قد يعتبرونك مُتَقادِماً في تفكيرك أو أصبحت قليل الإدراك لا يستشيرك بشيءٍ من أموره، حتى وأنت بكامل قواك العقلية. ولكن تذكر يا رعاك الله، أن هذه الآلام الجسدية والنفسية ما هي إلا كفارة وعلامات اختبار، وأن ضعف الجسد يقابله قوة في الروح، ووهن البصر يقابله بصيرة نافذة. لا تجعل هذه المنغصات سبباً في ضياع ما تبقى لك من صفاء، بل اجعلها دافعاً أكبر للتوجه إلى الباقي. إن التحدي الأكبر في هذا العمر ليس في محاربة المرض، بل في التصالح مع فناء الجسد والتعلق ببقاء الروح، وفي التعامل مع تغير مواقف الأهل والأقربين ب حكمة الصابرين ويقين الواثقين. وهكذا سنة الحياة تسير، ونحن جميعاً نسير معها إلى القدر المحتوم وإلى النهاية التي أرادها المولى العزيز الحكيم. الخاتمة الحكيمة من كتاب الله تعالى ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ﴾. حسبي الله وحده، وإليه المرجع والمآب.