بالأمس مضى نهر الدماء من هنا.. تركت أضرحة ومتاريس.. كان العالم هنا.. بين الحرية والحرمان مسافات شاسعة.. وفجأة جاءت أزمنة ملأى بغبار الصحراء الأغبر.. كسحابة تحيل رماد الزمن جمراً لا ينطفئ.. هنا وقف التاريخ يمد يده شامخاً من أجل لحظة كانت بالأمس حلماً.. كثير من الفلاسفة يؤكدون أن اللغة هي الفكر، وهي النقد البنّاء الهادف. فالمثقف صاحب أهداف ورسالة سامية، وهو مرآة الشعب بعيداً عن الأطياف والرؤى المسيّسة. والأزمنة المعاصرة تفرض على المثقف أن يقوم بدوره دون محاباة أو مداهنة، استناداً إلى قوة المعرفة التي تعيد صوغ الواقع والتاريخ بأدوات متعددة ومتباينة. فالفيلسوف ديكارت جاء بنظرية الشك، وحلم الفيلسوف الألماني كانت بسلام كوني، فيما ربط بعض الفلاسفة مشاريعهم الفكرية بمشاريع سياسية. من هنا ندرك أنه مهما تكن صفات المثقف وفكره المؤدلج، فإن الهدف من وراء ذلك هو الانفتاح على القضايا المجتمعية والإنسانية بعيداً عن الأبراج السلطوية المقيّدة للحريات والأفكار النيرة. أما المثقفون العرب منذ مطلع القرن العشرين وقبله فمازالوا بعيدين كل البعد عن هواجس وقضايا الأمة، باستثناء فئة قليلة عالجت بعض القضايا، مثل المفكر السوري عبدالرحمن الكواكبي، والمفكر المصري رفاعة الطهطاوي، والمفكر بطرس البستاني الذي اهتم بقضايا المرأة. أما العالم العربي اليوم فما يزال يعيش مرحلة الضياع الفكري واكتساح الأمية الرقمية. في حين اتجه بعض المثقفين العرب إلى السياسة، وتأثّر بهم الشعراء والأدباء، مثل الشاعر العراقي الكبير الجواهري، والكاتب نجيب محفوظ، وأدونيس وغيرهم. السؤال المطروح: ما الأسباب التي جعلت المثقف العربي في الماضي القريب يؤمن بالحزبية والسياسة والمشاريع الطائفية؟ هناك عدة عوامل، أهمها السلطة الحاكمة؛ فالسلطة هي المعوّق الأساسي لدور المثقف إذا كانت تقيد الحريات وتقمع الأفكار الهادفة والنقد البنّاء. ومن هنا يصبح المجتمع مجتمعاً مأزوماً مقيداً يعيش عزلة قاهرة، تتقاذفه الأمواج يمنة ويسرة. نافذة شعرية: رحل مع نسمة الفجر دون ضوضاء.. كسحابة صيف سمراء.. في أرض لا تحصد ما يزرعه الشعراء.. بالأمس مضى من دون صخب.. لم يسمع أحد عن موته.. وهو يودّع آخر أشعاره.. لم يأخذ معه شيئاً سوى حفنة تراب وظلال.. لكن نحن هنا في أمتنا نبني أضرحة ومتاريس.. بين الحرية والحرمان خيط رفيع