قبائل وادعة همدان تحذر من استهداف البلاد    منظومة الكهرباء مهددة بالتوقف الكلي في المحافظات الجنوبية وفق رغبة سعودية    كتاب متخصص في التأمينات والمعاشات للخبير التأميني عارف العواضي    صراع الحسم بين أربعة منتخبات عربية في كأس العرب    ريال مدريد يجهز للتخلص من 8 لاعبين في الميركاتو الصيفي    الدكتور الترب يعزّي في وفاة الشيخ صالح محسن بن علي    الجنوب العربي.. هوية الأرض والشعب والتاريخ بين الذاكرة والسيادة    تحرير حضرموت يكشف المستور في اليمن    البشيري : نمتلك قاعدة إنتاجية قوية في الملبوسات    إعلان قضائي    قوات جديدة تصل حضرموت والانتقالي يربط الأحداث باتفاق الرياض ومكتب الصحة يصدر إحصائية بالضحايا    شبوة.. حريق داخل مطار عتق الدولي    تدشين أعمال اللجنة الرئاسية المكلفة بتقييم ومتابعة تنفيذ خطط 1445- 1446ه بحجة    الأستاذة أشجان حزام ل 26 سبتمبر: 66 لوحة فنية متميزة ضمها متحف الزبير بسلطنة عمان    وثائق عرفية وقبلية من برط اليمن "25"    تأكيداً على عظمة ومكانة المرأة المسلمة.. مسيرات نسائية كبرى إحياء لذكرى ميلاد فاطمة الزهراء    جوهرة الكون وسيدة الفطرة    مرض الفشل الكلوي (32)    صندوق النقد الدولي يعلّق أنشطته في اليمن ومخاوف من تبعات القرار على استقرار أسعار الصرف    هل افلح الحزب الاشتراكي في تأطير تجربته الأنسانية حيال مهمشي جنوب ما قبل الوحدة؟! (3-3)    تعز.. الجوازات تعلن استئناف طباعة دفاتر الجوازات وتحدد الفترة التي تم الوصول إليها في الطباعة    صنعاء .. اختتام دفعة القائد الجهادي الشهيد الغماري في الحاسوب والبناء الجهادي    طالبوا بوقف الإبادة الجماعية والهجمات الجوية الإسرائيلية.. مظاهرة في ستوكهولم احتجاجا على خروقات الاحتلال لاتفاق وقف اطلاق النار    هيئة الآثار والمتاحف تنشر القائمة ال30 بالآثار اليمنية المنهوبة    الصحفي والمراسل التلفزيوني المتألق أحمد الشلفي …    56 ما بين قتيل ومصاب في هجوم مسلح على حفل يهودي بالعاصمة الأسترالية سيدني    الفرح : ما يجري في المناطق المحتلة صراع لصوص    الجاوي: الجنوب لدى سلطة صنعاء أصبح مجرد ملف في أسفل الأرشيف    قائمة منتخب الجزائر لبطولة امم افريقيا 2025    الكالتشيو: الانتر يقفز للصدارة بعد تخطيه جنوى بثنائية    عدن.. محطة حاويات المعلا تعود للخدمة مجدداً بعد توقف لسنوات    ظل الأسئلة    أسياد النصر: الأبطال الذين سبقوا الانتصار وتواروا في الظل    الرئيس المشاط يعزي في وفاة أحد اهم الشخصيات بمحافظة الحديدة    فعالية طلابية في حجة بميلاد الزهراء عليها السلام    السلطة المحلية: تمكين المؤسسات الرسمية من أداء عملها شرط لاستعادة استقرار وادي حضرموت    الكثيري يترأس لقاء موسعا بالمكتب التنفيذي وعقال الحارات والشخصيات الاجتماعية بسيئون    العليمي: انسحاب القوات الوافدة الخيار الوحيد لتطبيع الأوضاع في حضرموت والمهرة    خبير طقس يتوقع موجة برودة قادمة ويحدد موعدها    ست فواكه تقلل خطر الإصابة بأمراض الكلى    محافظ عدن يفتتح سوق الوومن في مديرية صيرة    جيش الاحتلال ينفذ سلسلة عمليات نسف بغزة    الرئيس الزُبيدي يطّلع على الوضع الصحي العام بالعاصمة عدن والمحافظات المحررة    الرئيس الزُبيدي يوجه بتبنّي حلول مستدامة لمعالجة أزمة المياه    بدعم سعودي.. مشروع الاستجابة العاجلة لمكافحة الكوليرا يقدم خدماته ل 7,815 شخصا    عدد خرافي للغائبين عن ريال مدريد بمواجهة ألافيس    صنعاء.. هيئة الآثار والمتاحف تصدر قائمة بأكثر من 20 قطعة أثرية منهوبة    تعز.. بئر المشروع في عزلة الربيعي :جهود مجتمعية تنجح في استعادة شريان الحياة المائي    حضرموت أم الثورة الجنوبية.. بايعشوت وبن داؤود والنشيد الجنوبي الحالي    قوات الحزام الامني بالعاصمة عدن تضبط عصابة متورطة في ترويج مادة البريجبالين المخدرة    رونالدو شريكا رئيسيا في خصخصة النصر السعودي    واشنطن تسعى لنشر قوات دولية في غزة مطلع العام    منتخب الجزائر حامل اللقب يودع كأس العرب أمام الإمارات    الله جل وعلآ.. في خدمة حزب الإصلاح ضد خصومهم..!!    ثلاث عادات يومية تعزز صحة الرئتين.. طبيب يوضح    لا مفر إلى السعودية.. صلاح يواجه خيبة أمل جديدة    ضرب الخرافة بتوصيف علمي دقيق    رسائل إلى المجتمع    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



البردوني واليمن..وطن يؤلّفه الكلام (2-2)
نشر في لحج نيوز يوم 17 - 12 - 2012


الشعر والتاريخ
يقول أرسطو في «فن الشعر»: إن الشعر اكثر نزوعاً فلسفياً من التاريخ، أي أن الشاعر في رؤيته لأحداث التاريخ ووقائعه أكثر عمقاً من المؤرخ الذي يفرق في علم التاريخ وكتابة حوادثه.
يستكنه الشاعر ما وراء الحوادث، يعيشها ويعبر عنها بمعاناة ومكابرة، يصبح ضمير أمته ولسان قومه.
والكلام ليس عن الشاعر على الاطلاق، ولكن عن ذلك الشاعر المتوحد في هموم شعبه وقضايا مجتمعه البردوني ينتمي الى هذه الجماعة من الشعراء الذين يعيشون التاريخ وتحدياته، ولا يكتفون بالتأمل والوقوف من بعيد. البردوني هو الضمير الجمعي لليمن، حسب وصف الباحث قادري حيدر الذي يرى أن البردوني «عاش حياته بالطول والعرض حاملاً مشعل الحرية مواجهاً لكل أشكال الطغيان والاستبداد والقمع بكل صنوفها وألوانها حتى آخر لحظة في حياته المليئة بصخب الحياة وعنفها.
عاشها كما لم يعش أحد غيره عاشها ملتحماً بأدق تفاصيل حياة الناس البسطاء، عاش حقائقها ووقائعها كلها، إنه سيرة حياة الوطن وتاريخ شعب، وفي اسمه وكفاحه، شعره وأدبه وفكره يمكننا اختزال تاريخ أمة، إنه التاريخ الحي للوطن.
يبين الأستاذ قادري شرط العلاقة بين الشاعر والتاريخ، هذا الشرط حين يتحقق، يصبح بالإمكان بعده أن نقول أن الشاعر لا يسجل شهادته للتاريخ أو عن التاريخ، ولكنه يحمل ذلك التاريخ على ظهره، أي أنه يحمل مسؤولية ويعبر عن موقف، يكون الحاضر والمستقبل هما الدافع للتفتيش في أوراق التاريخ وتقليبها، وتكون العبرة والاستفادة من دروس التاريخ هي الهدف.!
كان سؤال التاريخ ملازماً للبردوني، انه سؤال الوجود والهوية والكينونة.
واشعار البردوني التي تمتلئ باسماء الأماكن والمدن والقرى، تمتلئ ايضاً بذكر الوقائع التاريخية والحوادث والأزمنة. فالبردوني يرسم أطلس البلاد أو جغرافيتها، ويجعل التاريخ بعداً ثالثاً لأحداثيات المكان.. ففي قصيدة (مسافرة بلا مهمة) يظهر وجه البلاد وقد تزيّ بلباس التاريخ، ولا اقول تزين بلباس التاريخ، على نحو ما يقول الفيلسوف هيغل الذي يرى أن الفن هو أعلى اشكال الحياة، لكنه ليس هو الحياة، انه اطار تزييني للتاريخ.
كسر البردوني الاطار التزييني للتاريخ، رمى زجاج القمرية الملون بحجر، رافضاً تلويناتها ونمنماتها التاريخية، فتح نوافذ شعره لضوء الشمس الساطع حتى يصل الى أقبية التاريخ وسراديبه المجهولة.
وحين جاءت ورقة من التاريخ لتسافر في ارض اليمن. رحل الشاعر قبلها ليدلها على خطوط الزمن، التي رسمت ملامحها على الأرض وعلى وجوه الرجال. تبدأ الرحلة مع تلك العروس التي.. امتطت هدهداً وطارت آسيرة، بداية غرائبية للتاريخ، وصورة معكوسة الدلالة. الطيران رمز للحرية، لكن هذه العروس اليمنية تطير لتصبح أسيرة. هذه مأساة اليمن، الداخل والخارج، السد أو المنفى. اجتراح العيش والصبر على المقام أو الهجرة في المنافي. وتمضي القصيدة في سرد للتاريخ يتجاذبه الداخل والخارج. ان تاريخ اليمن لا ينحصر في داخلها، ولكنه يمتد الى الخارج أو أن الخارج يمتد الى الداخل.
ومن تغريبة الأوطان ومنافيها وحتى جحيم الغزو الذي صار رماداً في نجران، قارة، وجعل صحراء اليمن متاهة لجيوش الاسكندر تارة أخرى، وارض الموت والهلاك لجنود الأتراك، وبين هذه المصائر لا ينسى البردوني مصير الشاعر وضاح في قصر أم البنين، حيث مات حلم الشاعر ومات الشاعر بلا ثمن، في صندوق مقفل مليء بالأسرار.
طاف الشاعر تاريخ اليمن، ملاحقاً تلك الورقة المسافرة من أول قصة الهدهد إلى أخر قصة البلاد التي غيّرت اسماءها وطوال رحلة السرد يبدو الألم سيد الأحاسيس وأميرها.
حتى أن حكمة البردوني التي قالها في حضرة ابي تمام «إن طريق الراحة التعب»، هذه الحكمة ليست صحيحة، لكثرة ما توالى علينا من تعب، ونخشى أن يصبح هذا التعب اعتيادياً.
ولئن كان التاريخ غالباً على هذه القصيدة، لكننا نجد البردوني يجاهد للإمساك باللحظة الشعرية، ليس لحظة الابداع وحسب، ولكن لحظة الامساك بالعالم وامتلاك التاريخ. وهذا ما يميز كتابته الشعرية عن كتاباته النثرية. فهذه الكتابات على الرغم من اهميتها، إلا أنها لا تحمل جرأة الشعر وقوة اسئلته انها كتابات مقيدة بتوجيه العقل، على ما فيها من صراحة وشفافية ونقد، وعلى ما تثيره من إزعاج للكثيرين، ممن لا يحبون فتح أعشاش الدبابير التي تملأ تاريخنا. ان البردوني الشاعر، يتحرر من قيود العقل وشروط المنطق، حين يجوس في ظلام الوجود باحثاً في ليل المعنى عن جوهر التاريخ وهذا هو سر الشعرية، حرية حرة كما قال رامبو.
حرية الكشف والاكتشاف. ربما أن هذه الحرية لا تجعل الشاعر مؤرخاً بالمعنى المعروف، لكنها تجعله يحس احساساً عميقاً باتجاهات التاريخ، تجعله تاريخانياً، اذا أمكن القول.
لقد بين اوكتافيو باث «أن كل قصيدة هي محاولة للمصالحة بين التاريخ والشعر لصالح الشعر. ذلك أن الشاعر، حتى عندما يندمج في المجتمع الذي يعيش فيه وعندما يشارك في ما يسمى مجرى العصر، ينشد دوماً، التملص من طغيان التاريخ».
والذي يظهر من قراءة قصائد البردوني التاريخية، أو بالأحرى التي تجنح لقراءة التاريخ وليس سرده، أن الحلم يفيض على الواقع فالشاعر يقدم قراءة أخرى للتاريخ، ليس القراءة الرسمية التي كتبها المؤرخون وتناولوا فيها سير الحكام واعمالهم. البردوني يقدم سيرة الشعب تاريخ الناس والبلاد. ان اهتمامه بالثقافة الشعبية وألوانها الأدبية هو بحث عن التاريخ الغائب، تاريخ الناس الذين دوّنوا تاريخهم حكمة أو شعراً عامياً أو حكايات. أصغى البردوني لأصوات اولئك العابرين السرّيين في التاريخ اليمني، الذين لم يكونوا صامتين ابداً، وكان خطابهم شفاهياً متداولاً بين الناس، هؤلاء العابرون لم تتضمن خطاباتهم الكتابات التاريخية الرسمية كتابات كاتب الدولة أو كاتب السلطان استعاد البردوني ذلك الخطاب المنغرس في ذاكرة التاريخ، والذي يتداوله الناس الى اليوم رغم انه لم يحفظ بين دفتي كتاب، بل حفظه الناس في القلوب والسلوك. ولذلك يعود البردوني لمحاورة علي بن زايد باحثاً عن صنعاء الرؤية ووضوح الفكر، عن الحكمة الطالعة من أقواله وعن الشوق إلى رجعة ذلك الحكيم والحنين إلى زمنه، ذلك الزمن الجميل أو الزمن الذي نتخيله جميلاً:
هل كنتُ في عصر بلا دولة
فوضاه أرقى من نظام المدى
كان يؤدي ما عليه بلا
أمر، ويصبيه تمام الأدا
ولا يصلي، إنما يبتني
من قلبه في قلبه المسجدا
يبدو الشاعر مثالياً في تخيله لذلك الزمن المثالي. كأن الحكمة في نظره لا تأتي في الزمن الصعب. ولذا يظل القلق والتوق الى المستحيل في تجليه وجماله هاجس الشاعر، حتى وهو يرقب تحقق حلمه وحلم اليمنيين في إعادة وحدة الوطن.
عن وحدة الشطرين ماذا، وهل
أفقت من سكرين، كي اشهدا؟
أين أنا، نصفي انطوى في الذي
هنا، ونصفي في الذي زغردا
وربما أصحو على غير من
أماتني سكراً، وما عنقدا
لأنني كنت أُغني، فما
دريتُ من ذا ناح، من غرَّدا
ولا من اهتاج، وقال: التقوا
لكي يقوي الفاسد الأفسدا
أو من أجاب: اثنان من واحد
أقوى، ومن ثنَّى الصدى والندى
من صاح: عرسي وحدتي، من نعى؟
من قال: كنا قبلها أوحدا؟
يقال إن للشعر عالماً ضائعاً وراءه، نظام كان متضمنا فيه لا يمكن الوصول اليه حتى عند عبور الأحلام. يأخذ الشاعر هذا العالم المستحيل على عاتقه، يدرك أنه لا يمكن أن يعود من جديد، ومع ذلك يفكر فيه باعتباره مستقبلاً. إن تحقق الأحلام
يقتطع منها اكتمالها ومثالها، حتى حين عبد اليمانيون القمر، ضاع شيء من نوره وسناه:
وعن (معبد القمر) استخبرت
فقيل أضاع السنا من عبد
وحين يتجسد الحلم أو المثال في شخص حقيقي، يصطفيه الشاعر بصفات تفوق صفات البشر، يجعله متحداً وكل خوارق الطبيعة والأشياء الجميلة فيها:
كفجأة الغيب تهمي
وكالبراكين تزحف
تنثال عيداً، ربيعاً
تمتد مشتى ومصيف
نسغا بي كل جذر
نبضاً الى كل معزف
ولكن «مصطفى» يحمل ايضاً صفات بشرية، ولكنها صفات نادرة يصعب الامساك بها في هذا الزمان. انها صفات قادمة من ممالك الحلم، حيث الاشياء والكلمات واحد لا يتجزأ، وللحق لسان مبين لا يقبل المساومة أو التنازل:
أحرجت من قال: غالي
ومن يقول: تطرف
إن التوسط موتٌ
أقسى، وسموه: ألطف
لأنهم بالتلهي
أرض وللزيف أوصف
وعندك الجبن جبنٌ
ما فيه أجفى وأظرف
وعندك العار أزرى وجها، إذا لاح أطرف
يكسب «مصطفى» صفات خالدة، لا ينكسر ولا يضعف ولا يموت:
قد يقتلونك، تأتي
من آخر القتل أعصف
لأن جذرك أنمى
لأن مجراك أريف
لأن موتك أحيا
من عمر مليون مترف
يصبح «مصطفى» بما يحمل من صفات، تجمع الكل في واحد، وتسمو فوق الأطماع والشرور، يصبح المهدي المنتظر الذي يحقق العدل ويبلغ المثال:
يا «مصطفى». يا كتاباً
من كل قلب تألف
ويا زماناً سيأتي
يمحو الزمان المزيف
إن قراءة البردوني للتاريخ اليمني تحاول دائماً أن تخلق توازناً بين المؤرخ والشاعر، لكنه رغم ما في شخصيته من واقعية، يظل مفتوناً بالحلم، تواقاً الى الفجر الآتي، مسكوناً بالأمل.
خا تمة
كتب البردوني في دراسة عن «عمارة اليمني» قائلاً:
«لعل من المفيد التنويه ان الاجادة وحدها -مهما بلغت- لا تحقق شهرة مترامية. فلابد أن يصدر عن هذه الإجادة الفنية إثارة اجتماعية ومشاغل فكرية ذات خطورة».
ان البردوني في حديثه عن عمارة يتحدث عن مشاغله ومشاغل شعره وحياته، كان البردوني يحمل اليمن ويحلم بها في آن.
كان يعلن حضوره الدائم في كل تاريخها وآمال ابنائها. كانت قصائده تملأ ذاكرتنا وتخترق وجودنا وتشكل وعينا وثقافتنا.
لقد جعل البردوني الوحدة اليمنية مسألة هوية للإنسان اليمني حين حوّلها من شأن سياسي آني إلى مسألة وجود وامتداد في الزمان وفي المكان. ولهذا الانغراس العميق بالوطن والتاريخ، أصبحت هذه القصيدة «الغزو من الداخل» منشوراً سرياً حمله اليمانيون في منافي الأوطان.
يمانيون في المنفى
ومنفيون في اليمن
جنوبيون في (صنعاء)
شماليون في (عدن)

يمانيون يا (أروى)
ويا (سيف بن ذي يزن)
ولكنا بزعمكما
بلا يُمن بلا يمن
بلا ماضٍ بلا آتٍ
بلا سر بلا علن
تحولت قضية الوحدة في هذه العقيدة، من هدف سياسي الى شرط هوية ووجود. لأن هذا الوجه المشطر للانسان اليمني كان يحمل غربته وعوامل نفيه اينما يتوجه في أرض اليمن وخارجها.
كشف البردوني بوهج الشاعر وتجلي الشعر هذه الحقيقة. جعلنا نبصر كم نحن مشوهون ومغتربون عن أنفسنا. هذه الرؤية/ الرؤيا كونت الوطن، أعادت تأليفه، وحدتنا شمالاً وجنوباً، يساراً ويميناً، نبهت الأذهان الى أن التجزئة هي حصان طرواده الذي يتسلل من خلاله الغزاة الى الداخل.
قبل الختام، إستعيد ما كتبه الشاعر محمد مهدي الجواهري واصفاً أبا العلاء المعري:
أحللت فيك من الميزات خالدةً
حرية الفكر والحرمان والغضبا
«مجموعةً» قد وجدناهن مفردة
لدى سواك فما اغنينا إربا
لا أظن الأمر يختلف اذا حوّلنا هذين البيتين لتصبحا وصفاً للشاعر عبدالله البردوني، بل لا أظن الشاعر الجواهري يعارض ولو قدر لنا أن نسأله. فالمشترك بين المعري والبردوني ليس العمى، وهو ما يركز عليه كثيرون، ولكن تلك البصيرة التي نورت بنور العقل وحرية التفكير وقوة النضال، سيرة الرجلين وفكرهما.
ان اجتماع صفات المفكر الحر العقلاني، والمناضل السياسي والفيلسوف الشاعر الذي اقتحم باصرار جمهورية افلاطون، والمثقف -المؤسسة أو المثقف العضوي الذي تفوق على جميع الأحزاب وسما فوق كل الرتب، هذه الصفات مجموعة، تجعلنا ندرك اليوم، كم كنا منشغلين عنه، مقصرين تجاهه، كم كنا أبناء عاقين لا نصغي كغاية لهذا الحكيم الذي حاول أن يقودنا الى يقين الحق وأنوار الفكر، ربما أننا كنا نصغي لصوته الشعري والغنائي، نترنم ونفرح أو نحزن بتلك الايقاعات المنبعثة من أعماق التاريخ، إلا أننا كنا نرجئ تذكره ونؤجل قراءته بطريقة حوارية. لماذا؟
هل كنا مطمئنين لحضوره بيننا. أم أنا كنا نخاف اقتحام محاورة هذا العملاق الواقف في مجرى النهر، نخشى اسئلته وألغازه التي تمنع عبورنا اذا عجزنا عن حل تلك الأسئلة.
(هذا ما كنت أحسه دائماً وأنا أقرأ اسئلة المسابقات الرمضانية التي كان يعدها لصحيفة الثورة في السنوات الأخيرة من حياته!).
كان البردوني في كتاباته وأشعاره، يحفز فينا فكر الاختلاف، يثير في وجوهنا اسئلة الواقع وتعقيدات الفكر لكننا كنا مستسلمين لراحة البال التي تفرز تنابلة كسالى، لا مثقفين فاعلين في المجتمع. ولعلنا اكتشفنا كم كان البردوني غائباً عن وعينا وفكرنا، بعد أن رحل عنا، وتركنا نعاني حرقة الاسئلة ومشقة الحضور الواعي في العصر.
ويمثل البردوني ظاهرة فريدة ونوعية في الثقافة اليمنية، أو في الثقافة العربية بشكل عام اذا جاز لنا القول. ليس لأن شعره كان يشق مساراً استثنائىاً ومتميزاً، جمع عمود الشعر العربي القديم وأعمدة الحداثة الشعرية والفلسفية والمجتمعية، ولا لأن لغته الشعرية التي تستعيد جذور العربية دون تعقيد، وتمتلئ ببلاغة الاستعارة ووضوح العبارة، يقرأها كل الناس لأنها جمعت فصاحة القول وشعبية المعاني. فكان ذلك الشاعر الذي يغني للشعب بعمود الشعر، بعد أن جعل الفصحى لساناً يعبر عن قضايا الانسان العادي وليست برجاً للتعالي والتحذلق.
واللغة وحدها ليست عنوان فرادة البردوني، ثمة مسألة أخرى. لقد استطاع البردوني أن يعوض بالشعر، بالكلام أدواراً عديدة، كانت للأحزاب والمؤسسات والأيديولوجيات. فاليمن عاشت عقوداً من انعدام الاستقرار والفوضى والحروب كانت المؤسسات، رسمية ومدنية، شبه غائبة، وكانت الأحزاب محظورة أو منظورة في الحزب الواحد الحاكم، وكانت الأيديولوجيا تتأرجح بين الحدود القصوى. وفي هذا المناخ المعقد أو الخانق، كان شعر البردوني وفكره قنديل هداية وسفينة نجاة، كان الكلام يعيد النظام لهذه الفوضي، كان الشعر يؤلف الوطن.
كيف نكرم الشاعر عبدالله البردوني؟
سؤال أضعه في ختام هذه الورقة، محاولاً أن ادفع هذه الندوة في اتجاه ابعد من الاحتفالية الواسعة أو الأكاديمية الضيقة، سؤال ليس بجديد، فهو يتكرر في كل عام، في ذكرى وفاة الشاعر، تتعدد الأفكار والاقتراحات، وتتدافع الاتهامات بالإهمال والإلغاء ويبوح كل منا بما يتمناه لتخليد ذكرى هذا الشاعر الذي حمل اليمن في قلبه، عبر عنها وامتزج بها وجداناً وشعراً، اصبح شعره قاموس اليمن، ومفتاحاً للدخول الى بابها الشهير.
اتمنى أن نخرج من هذه الندوة بتوصيات عملية تتوخى إمكان التطبيق ولا تشطح الى حدود المستحيل، وهي الحدود الوحيدة التي تليق به.
أما التكريم الحق فقد ناله البردوني في حياته، ليس تكريماً من سلطة أو حزب أو منظمة، ولكنه تكريم من الشعب.
لقد عاش البردوني في قلوب الناس، وهو يسكن اليوم في ذاكرتهم أستعيد بهذه المناسبة ما قاله الشاعر الراحل محمد سعيد جرادة، حين دعاني مرة لشرب الشاي في مقهى صغير في شارع جانبي في التواهي، فحين اخبرته بأن هنالك مقاهي أخرى اجمل من هذا المقهى، أجاب باعتزاز يكفي أنه يحمل اسم البردوني.
انني اشعر انني اشرب الشاي بصحبته في هذا المكان.
مراجع:
1) وليد مشوح... الصورة الشعرية عند البردوني ص129
2) لوحة فنان شاب فازت بجائزة رئيس الجمهوية لإبداع الشباب في العام 1999م، قبل وفاة البردوني ببضعة أشهر.
3) قادري أحمد حيدر البردوني (المثقف المؤسسة) ساخراً ص60
4) عبدالله البردوني (عمارة اليمني واسباب شهرته) مجلة الثقافية يونيو 1997م.
وكيل وزارة الثقافة
من البحوث المقدمة لمهرجان
البردوني بجامعة ذمار


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.