لم يكن صباح ذلك اليوم مختلفا في مدرسة الشهيد الرحبي، بمديرية عيال سريح في محافظة عمران، حيث اصطفّ الطلاب في الطابور الصباحي، بكتبهم المغلقة وأحلامهم الصغيرة ، منتظرين بداية يوم دراسي جديد، لكن دقائق قليلة كانت كفيلة بتحويل المدرسة في نظر طفل من صرح علمي إلى جرح عميق. بين الصفوف كان عبيده مجاهد راجح طالب الصف الثامن الأساسي، معروفا بتفوقه الدراسي وحصوله على المركز الأول في دفعته، وحين ناداه مدير المدرسة عبر مكبّر الصوت للصعود إلى منصة الإذاعة، ظنّ كغيره - أن الأمر يرتبط بفعالية مدرسية اعتيادية.
سخرية علنية على المنصة، سأله مدير المدرسة مهدي حسين عن مهنة والده، أجاب الطفل بهدوء قائلا :"أبي دكتور"، لكن الرد كان صاعقا فبحسب رواية شقيقه.. قابل المدير الإجابة بسخرية علنية، متهما والد الطالب ب "التجسس"، ومتحدثاٌ أمام الطلاب عن محاكمته وتنفيذ حكم الإعدام بحقه، وسط ضحك بعض التلاميذ، وكل ذلك في الطابور الصباحي وأمام المدرسة بأكملها.
لم ينبس عبيده بكلمة نزل من المنصة مكسوراّ، خرج من المدرسة باكيا، دون أن يلتفت إلى زملائه، في المنزل لم يكن الطفل ذاته، صمت طويل، وجه شاحب، ورفض للطعام والكلام، تقول الأسرة إن عبيده طلب منهم سحب ملفه من المدرسة والتوقف عن الدراسة هذا العام، بعد أن شعر أن إهانته العلنية لم تستهدفه وحده، بل مسّت كرامة أسرته ومستقبل تعليمه.
المفارقة بحسب الأسرة، أن والد الطالب الذي يعمل في القطاع الصحي عُرف في منطقته بتقديم خدمات طبية وإنسانية للجميع، وكان دائم الدعم لمسيرة ابنه التعليمية، حتى في أصعب ظروفه الشخصية، حيث ظل التعليم أول ما يسأل عنه في كل اتصال.
سياسة ممنهجة
يرى خبراء في التربية وعلم النفس أن ما تعرض له عبيده لا يمكن اعتباره حادثة منفصلة، بل نموذجًا لأسلوب آخذ في الانتشار داخل المدارس في مناطق سيطرة جماعة الحوثي، يقوم على الإهانة والتخويف وربط الطلاب وأسرهم بتهم أمنية أو سياسية.
وبحسب مختصين، فإن الإذلال العلني، خاصة أمام الزملاء، يُعد من أخطر أشكال العنف النفسي، لما يخلّفه من آثار طويلة المدى، تشمل فقدان الثقة بالنفس والانعزال، والانقطاع عن التعليم، وهو ما يفسّر تزايد معدلات التسرب المدرسي في تلك المناطق.
ويؤكد باحثون تربويون أن تسرب الطلاب لا يحدث بمعزل عن سياق أوسع، إذ يُستخدم كمرحلة تمهيدية لإفراغ التعليم من دوره وخلق جيل محبط محدود الخيارات بعد دفع الأطفال خارج المدرسة وتحويلها إلى بيئة طاردة.
من المدرسة إلى الجبهة
وفق تحليلات وخبرات ميدانية، فإن كسر الطلاب نفسيا، ودفعهم للفشل والانقطاع عن الدراسة، يفتح الطريق أمام استقطابهم لاحقًا إلى الجبهات أو الزج بهم في أنشطة عسكرية بعد أن يُسلب منهم الأمل في التعليم كمسار لحياة آمنة.
ويشير خبراء إلى أن التزامن بين ارتفاع التسرب المدرسي وتصاعد التعبئة الفكرية والعسكرية ليس صدفة، بل نتيجة مباشرة لسياسات تقوّض التعليم، وتحوّل المدرسة من مؤسسة تنوير وبناء إلى بوابة عبور نحو الحرب.
لا تبدو قصة عبيده مجرد حادثة إهانة لطالب، بل حلقة ضمن مسار أخطر، يُستهدف فيه التعليم كمدخل لإعادة تشكيل المجتمع عبر جيل منزوع الحماية والمعرفة، يُستخدم كوقود للصراع بدل أن يكون أساسا لبناء المستقبل.