هكذا بكل بساطة وداعاً.. وداعاً بكل ما حملته من خير وشر وحلو ومر وأتراح وأفراح , ومآس وأحزان, وبؤس وأشجان وداعاً أيها العام المنصرم نعم وداعاً لأنك قد فارقتنا وغادرتنا وذهبت .. وداعاً..لأنك أصبحت ماض..وأضحيت ذكريات أياً كانت تلك الذكريات. لقد رحلت أيها العام الماضي ... أجل لقد رحلت ولكنك كتبت في سجلاتك ودفاترك وأوراقك ما اعتمل فيك ودونت فيها ما اغترفته أيدينا وسجلت فيها ما قدمناه من خطأ أو صواب و خير أو شر وصالح أو طالح . لأنك غدا ستواجهنا بها عندما يحين وقت الحساب .. فأنت إذا أيها العام المنصرم لم تذهب إلى العدم لم تغادر بغير رجعةلم تذهب بغير عودة فأنت لست وريقات كتاب تقطع وترمى في سلة المهملات كما يظن الأغبياء وانتهى أمرها .. بل أنت سجلات تكتب وتطوى وتحفظ عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى . هذا ما أكده كتاب ربنا سبحانه الذي قال: ( هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق . إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون). هكذا بكل دقه وشفافية ووضوح . فكل عمل تعمله وكل فعل تفعل وكل كلمة تتفوه بها وكل قول تتقوله (خيرًا أو شرًا ) تعمل لك منه نسخة تحفظ في سجلك الخاص بك أنت ...تلك النسخة تعرض عليك أمام محكمة العدل الحق فيقررك قاضي القضاة بكل تلك النسخ نسخة نسخة ويعرض عليك أعمالك فتشاهدها أمام عينيك وكأنك تعملها الساعة ( يومئذٍ تعرضون لا تخفى منكم خافية ) فهذه هي حقيقتك, وهذا هو لسان حالك , وذاك هو خبرك أيها العام المنصرم أي نعم لقد رحلت عنا .. رحلت وغادرت وذهبت .. ولكن جروحك ونتوءاتك وأحزانك وأناتك ومآسيك قد حفرت حفرًا عميقة في أغوار كثير من النفوس وجرحت جراحات دامية في أعماق كثير من القلوب ونحتت نحتاً لا يمحي في ذاكرة كثير من العقول .. فأنت إذًا لست ماض طمس واندثر وضاع ..بل أنت حاضرُ سيعود وغائبُ سيرجع ومسافرُ سيؤوب . فاطمأن أيها المظلوم لن تذهب أناتك وتأوهاتك وأحزانك ودمعات عينيك هباءً أبداً.. إطمأني أيتها الأم الثكلى سيقف الظالم يوما للحساب وسوف يشفي الله صدور قوم مؤمنين . ثق أيها الأب المكلوم أنك ستأخذ حقك من الظالم بالوفاء والتمام. وأنت أنت أيها الظالم .. أنت يا من أحرقت قلوب الأمهات .. أنت يا من فلقت أكباد الأباء .. أنت يا من تسببت في يتم الأيتام وترميل الأرامل ... أنت يا من تجرأت على محارم الله ... فقتلت وسحلت وسجنت وعذبت ونهبت وأحرقت وسطوت على حقوق الضعفاء ظلماً وعدوانًا لن يذهب كل ذلك بذهاب الأعوام الماضية ولن يمحي بامحاء أيامها ولياليها... ولكنه مدون في صفحات الأيام الخوالي سيعرض عليك لا تخفى منه خافية . فهذا هو حال العام الماضي... أياماً معدوات انقضت وذهبت وولت وراحت وغادرت ...ولكنها ذهبت من جملة الفترة الزمنية المقررة لنا أن نمكثها في الدنيا .. فالموفق من استثمرها فيما فيه منفعة لدينه ودنياه وآخرته ووطنه ومجتمعه وأمته . والشقي هو ذلك الغافل الذي انقضى عام من عمره وهو يلهث خلف سراب الدنيا الخداع . والأشقى منه والأشد تعاسة هو من قضى العام الماضي في إيذاء خلق الله وسلب حقوقهم وسفك دمائهم والتعدي على حرماتهم . فهذه هي حقيقة الأعوام التي تنسلخ من أعمارنا. إنها ليست مجرد ذكريات لا قيمة لها .... ولكنها مستودع آمن لما قدمناه فيها . إنها عمرك الحقيقي . فأنت أيها الإنسان أيام معدودات ...كلما انقضى منك يوم انقضى بعضك فإذا انقضى البعض يوشك أن ينقضي الكل . لذلك عرف الإنسان بأنه (زمن, وقت) ...شأنه شأن الدقائق والساعات والأيام والأشهر والأعوام المحكومة بزمن . فأنت كذلك زمن أنت وقت ... فإذا قدر الله لك أن تمكث في الدنيا ستين عاماً وستة أشهر وستة أيام وست ساعات وست دقائق على سبيل المثال فهذا زمنك المحدد لك أن تمكثه في الدنيا . فمعنى ذلك أن الدقيقة من حياتك لها قيمة لأنها _ببساطة _ جزء منك إذا ذهبت ... نقص زمن وجودك المحدد لك في الدنيا .. أما إذا انقضى عام فقد انقضى زمن أكثر .. فكيف بك إذا ذهب من عمرك أربعون أو خمسون أو ستون عاما ...هنا توشك أن تصل وتنهي زمن وجودك . وقف رجل على أحد العلماء فنظر العالم إلى وجهه فاستشف منه أنه بعيد عن الله ...فأراد أن ينبهه من غفلته بأسلوب مهذب فقال له : كم عمرك أيها الرجل ؟ قال ستون عامًا . فقال العالم لا إله إلا الله منذ ستين سنة وأنت تسير إلى الله توشك أن تصل . فتلقف ذلك الرجل تلك الإشارة فسقط بين يدي العالم وأيقن أنه على وهم وطلب منه أن يعينه على الاستفادة مما تبقى له من زمن وجوده في الدنيا . وأنت يا من بلغت الخمسين أو الستين أو السبعين أو أكثر أو أقل .. إعلم أنك منذ أن وطئت قدماك إلى الدنيا وأنت تسير إلى ربك توشك على الوصول . فهذا هو شأن الأعوام التي تنسلخ من أعمارنا. إنها ليست مجرد زمن لا قيمة له . ولكنها عمرك الحقيقي كنزك الثمين خزنتك الغالية مستودعك الآمن.. فانظر ماذا تكنز فيها. لأنك ضيف على الدنيا, عابر سبيل سيرحل, ماراً وسيغادر, غريب سيمضي ولكن ... كيف سترحل ؟ فهذا هو السؤال المهم الذي ينبغي الإجابة عليه بدقة تامة ووضوح لا غبش فيه. فهل سترحل وألسنة الناس تثني عليك ؟ أم سترحل وألسنة الناس تدعو عليك ؟ فحدد أنت وجهتك واختر أنت طريقك وصدق الله إذ يقول : (بل الإنسان على نفسه بصيره ولو ألقى معاذيره ).