تعود حضرموت اليوم إلى الواجهة بوصفها مركز الوعي الجنوبي، لا مجرد ساحة صراع عابر، بل الخزان الأخلاقي والفكري الذي صاغ شخصية الجنوب منذ قرون. ولعل أبرز ما يميز حضرموت ويجعل دورها راهنًا ومؤثرًا هو المدرسة الدينية الوسطية التي نشأت في رباطاتها ومساجدها، مدرسة لا تعرف التكفير، ولا تحتكر الجنة، ولا ترفع سيف العنف بوجه المختلف، بل تعتمد العقل الراشد والفقه المعتدل والتربية الروحية المتزنة التي صنعت نموذجًا حضاريًا فريدًا في المنطقة. محرر "شبوة برس" يذكّر أن هذه المدرسة الحضرمية حملت رسالة الإسلام السمح إلى أقاصي الأرض، فدخل مئات الملايين إلى الإسلام دون عنف، في إندونيسيا وماليزياوجنوبالصين والفلبين وجنوب تايلند وشرق أفريقيا. إنها هوية حضرمية جنوبيّة لم تعرف التطرف، ولم تنجر إلى خطابات المذاهب الطارئة التي تتغذى على التكفير وتبرير الدم.
ومن هذا العمق الروحي خرجت نخبة سياسية صنعت الدولة وأرست القوانين الوطنية، من أمثال محمد علي الجفري والمحامي شيخان الحبشي، وصولًا إلى المناضل عمر سالم باعباد، صاحب أول دستور حضرمي حديث في جنوب الجزيرة العربية، قبل أكثر من قرن، والذي وضع تصورًا لدولة تمتد من باب المندب إلى ظفار، قبل أن تولد الدول الحديثة في المنطقة.
ويأكد محرر "شبوة برس" أن من العدل ولإنصاف والواجب بتأثير الحضارم عند حدود الجغرافيا، بل امتد إلى قيادة دول وشعوب في الشرق الأقصى، مثل الرئيس الإندونيسي الأسبق عبد الرحمن باسويدان، ورئيس وزراء ماليزيا الشهير محاضير محمد، وكلاهما من أصول حضرمية. كما برز أدباء وعلماء حضارم عالميون، أبرزهم الروائي التنزاني عبدالرزاق قرنح، الذي حصل على جائزة نوبل في الأدب عام 2021، وأصول عائلته تعود إلى منطقة الديس الشرقية في حضرموت، قبل هجرتها إلى شرق أفريقيا.
وفي ظل التحديات التي يعيشها الجنوب مؤخرًا، يظهر الدور الحضرمي مرة أخرى كرافعة للدولة ومنطق القانون، في مواجهة النزعات الفوضوية ومحاولات فرض سلطات موازية. حضرموت، بتاريخها العلمي وذاكرتها المؤسسية، لم تكن يومًا بيئة للتمرد، بل حاضنة للدولة والاعتدال، مما يجعل موقفها اليوم عنصرًا حاسمًا في رسم ملامح الجمهورية الجنوبية الثانية، التي يُعاد تشكيلها على أسس العقل والهوية الوطنية، لا على إرث الصراعات والأيديولوجيات المستوردة.