يحيى الرباط كان اسمه "طيب" ومات كما يموت الطيبون في هذا البلد: بصمت، بقهر، وبلا حتى نعش. رجلٌ من قريتنا، بسيطٌ كتراب الأرض، نقيٌّ كأمنيات الفقراء، ضاقت عليه الحياة في وطنٍ لا يرحم الطيبين، خرج لا حبًّا في الرحيل، بل هربًا من وطنٍ يلفظ أبناءه كما يُلفظ الحرف الأخير من كلمة منسيّة. خرج لا يحمل في جيبه سوى العجز، ولا على ظهره سوى ثقل الفقر، خرج من بلدٍ لم يترك له من الحياة سوى خيار التهريب، ومن التهريب إلى الموت، ومن الموت إلى جثةٍ مرمية على أطراف الحدود، منتفخة، مخضرّة... بلا كفن، بلا وداع، وفي جيبه رقم هاتف فقط. اليوم، تلقى أهله اتصالًا يقول: وجدنا جثته في الجبل، منتفخة وعليها آثار أخضرار، ولم نجد في جيبه مايدلنا على هويته سوى رقم هاتفه. هل تتخيلون؟ هذا كل ما تبقّى من إنسان: رقم هاتف في جيب ميت! أي وطن هذا؟ أي لُعنة تحكمنا؟ أي قادة هؤلاء الذين لم يتركوا للفقراء حتى خيار الموت بكرامة؟ أي زمنٍ هذا الذي تتحوّل فيه أسماء الطيبين إلى بلاغات مفقودين، وجثثٍ مجهولة؟ يا وطن، إن كان فيك عدل، فكيف يموت أمثاله بهذا الشكل؟ وإن كان فيك الله، فكيف تسكت كل هذه القلوب عن الفاجعة؟ وإن لم يكن فيك شيء.. فنحن نعلم، نحن نعرف، نحن نعيش الكارثة كل يوم. وإنا لله وإنا إليه راجعون.. لكننا لا نغفر لهذا الزمن، ولا نصالح هذه البلاد، ولا نسامح هذا الصمت، أبدًا.