منذ بداياتها وقصيدة النثر تند عن التعريف. ويشير اسمها الجامع للمتناقضين إلى السبب الواضح لذلك: الطبيعة المتسمة بالمفارقة والمتضمنة للتناقض. فقد كان بمثابة اسم حركي (مع قليل من اللعب بالألفاظ). كان لابد من أن يحدث شيء ثوري، فقد كانت ثمة ضرورة للانفلات من إسار الشعر التقليدي؛ وكان لابد أن يتم الطعن في الجماليات التي جعلت من النظم العروضي عنصراً جوهرياً في فن الشعر. وبدافع من هذا التطلع كان ما كتبه بودلير في مقدمته إلى آرسين هيوساي: “من منا لم يحلم في أيام طموحه بمعجزة نثر شعري يكون موسيقياً بلا وزن ولا قافية؟... “.دائما ما كان هناك منزعان متعارضان في الشعر: ينحو الأول إلى تزايد الضوابط، والآخر إلى التحرر من الضوابط. وتنتمي قصيدة النثر إلى النهج الثاني. في فترات أخرى نلاحظ الحث على اطراح القواعد الشكلية: فالقافية، أو قواعد علامات الترقيم قد أسقطت من الحسبان، والوزن المطرد قد حل محله الشعر الحر.free verse أما قصيدة النثر فتنطوي على تغيير أكثر جذرية؛ ويمتد ليشمل النص بالكامل. إنه نوع أدبي نشأ بالأساس على مبدأ الاستبعاد أو الاطراح. وقد انبثق بصدد هذا النوع تياران نقديان: المدرسة الأولى تمضي بعناد للبحث عن خصائص النظم في قصيدة النثر. والحقيقة أن هؤلاء النقاد فعليا لم يتقبلوا أبدا فكرة إمكانية وجود ما يمكن اعتباره شعرا بدون نظم، وأن شعرا حقيقيا خارج النظم ممكن وجوده. النقاد المتعسفون من هذا القبيل يقرون بالشعرية في النثر فقط حين يمكنهم الإمساك بما يشبه بنية نظام وزني متخفية، أو حين يعتقدون أن بإمكانهم إثبات أن قصيدة النثر بها الحس الموسيقي للنظم ولكنها تختلف عنه في افتقادها لتساوي طول الأبيات أو للوحدة العروضية. وتحت هذا النوع تندرج مونيك بارنت Monique Parent في كتابها:(Saint-John Perse et quelques devanciers) سان جون بيرس وبعض سلفه. وهي هنا تستخدم الصوتيات والدراسة الفيزيائية للأصوات لتثبت أن إيقاعات بيجوي Peguy تعد مؤشرا على أن في نثره كل خصائص النظم. كما أنها تدرس تيمات قصيدة النثر، زاعمة أنها معطيات مضمونية، ولا يمكن ربطها حصريا بقالب النثر، والتي تؤدي نفس الدور في الشعر المنظوم. أما التيار الآخر فيقر بقطيعة حقيقية بين الشعر المنظوم وقصيدة النثر، بيد أنه يهون إلى أقصى حد من أهمية هذه القطيعة ويريد أن ينظر إليها من منظور التواصل. وحتى حين كان نوع “الشعر النثري” في طور النشوء، كان لابد أن يبدو هذا التميز شديد الصعوبة وقائما بدرجة كبيرة على الأشكال التقليدية التي خربت من قبل شعراء النثر الأوائل الذين ناضلوا من أجل جعل أصالتهم ملموسة. والآن، حيث إن التحرر قد تحقق، فإنه كان يجب ألا يبدو أي من هؤلاء - لا النوع الأدبي، ولا نصوصه، ولا المؤلفون - في حاجة إلى مزيد من المطالبة بتعريف قطيعتهم مع القديم، لم تعد هناك حاجة لهذه القطيعة لكي تعطي المبرر لخلقهم التجربة الشعرية أو لما حازوا من قراء. فهذا موقف عفا عليه الزمن. فإذا كانت قصيدة النثر نوعا أدبيا معترفا به لدينا، فإنها يجب أن تكون في غنى عن مثل تلك المسحة التاريخية المحضة التي قد لا تتعدى أهميتها الوقت الذي تنتمي إليه. وصوب هذه النتيجة، التي نراها - بحق - الأكثر جدة، ونفاذا، يتوجه النقاد ذوو الحساسية، أكثر مما يتفقون مع سطور مونيك بارنت. من هؤلاء النقاد، الناقدة التي قدمت العمل الأعلى قامة والتي حققت أكثر الجهود إثارة للتقدير والإعجاب في تأسيس جماليات قصيدة النثر؛ سوزان برنار. نقرأ في كتابها الرائع: إنه لضرورة بشكل حيوي لقصيدة النثر أن تكون قصيرة، باعتباره شرطا لقياس وحدة التأثير، ومن خصائصها الكثافة، والمجانية، والتوهج... القصيدة عالم مغلق، منغلق على نفسه، مكتف بذاته، وهي في الوقت نفسه، مثل الكتلة المشعة، كيان صغير مشحون بعدد لا متناه من الإيحاءات، وقادر على أن يهزنا في صميم وجودنا. لست بصدد التعليق على جمل سوزان برنار الأخيرة؛ فهي تبدو لي أقرب إلى التأمل الصوفي أكثر منها إلى النقد. ولكنني أريد الوقوف على فكرة الانغلاق: كون نص ما يمكن له أن يكون شعريا دون أن يكون مغلقا، ولكنه سيصبح قصيدة - شيئا مختلفا تماما - فقط إذا ما توفر بشكل جيد على بداية ونهاية من شأنهما أن يحولاه إلى وحدة منظمة. تتحدث سوزان برنار كذلك عن الإيقاع، عن القيمة التعبيرية للصوت، وتؤكد على أن قصيدة النثر هي دائما متحررة شعريا مقارنة بالشعر المنظوم. كل تلك التوصيفات مبهمة وذاتية وانطباعية إلى حد بعيد. وعلاوة على هذا فإن العديد من القصائد تفتقد لخاصتي الكثافة والتوهج اللتين تعزو إليهما قصيدة النثر. فبعض نصوص بودلير، مثلا (Le Joujou du pauvre)، أو (Le Mauvais Vitrier)، أو (La Fausse Monnaie)، أو غيرها، طويلة بل ومسهبة نسبياً. إن ما يستحق الإشادة في تناول سوزان برنار النقدي أنها تحاول أن تعرف القصيدة بوصفها نصا محكما؛ في حين أن النقاد السابقين عليها لا يفعلون ذلك. ومع ذلك تظل السمات التي تعزوها لقصيدة النثر كما لو كانت تنزع إلى إهدار طبيعتها النثرية. فأنا أؤيد أننا لا يمكننا التخلي عن التلاقي الجوهري بين الأضداد: إنها قصيدة، نعم، ولكنها قصيدة نثر. فالقطيعة الأصيلة مع النظم تظل المبدأ الفعال لهذا النوع، والأساس في تعريفه، بل والأساسي كذلك في تلقيه من قبل القارىء. فما يتبدى له على الفور هو النثر. إنه يقرأه دون أن يشعر بما يعكر صفو القراءة. ومع المضي قدما في القراءة تتكشف له خصائص معينة تقتضي إعادة القراءة على نحو شعري. إن ما أقصد إليه، إذن، أننا نجد، في أثناء ممارسة قراءة قصيدة النثر، في طلب مفاتيح اللغز من أجل ذلك التفسير. إن هناك - في الحقيقة - مستويين من القراءة: قراءة تقتصر على فك شفرات النص، وهي قراءة ناقصة. وقراءة حقيقية شبيهة بتأدية العازف للنوتة الموسيقية. فحين يعزف عازف البيانو يفك شفرة العلامة على النوتة ويترجمها إلى عزف في الآن ذاته. القراءة، من ثم، عمليتان متزامنتان لفك الشفرة وللتحقق من خصائص معروفة ومألوفة بالفعل، من رموز تكرست طويلا، من صور يقارنها القارىء تلقائيا بالنماذج الطازجة التي يقدمها له النص الراهن. وهي المرحلة من التفسير التي يلاحظ فيها القارىء عناصر معينة من النص يتكرر حضورها. قد يكون التكرار كليا أو جزئيا - ترديد صريح لكلمة أو عبارة - أو على صيغة تكرار الصدارة ، حيث يقول النص الشيء ذاته بصيغ عديدة متنوعة، تماما كما في حالة القافية في النظم، على سبيل المثال. إن إدراك الثوابت يعد، فيما أزعم، العامل الذي يجعل القارىء يشعر بأن النثر الذي هو بصدده نظام مغاير لذلك النثر المحض. هذا العامل يجعله واعيا بأن ثمة تنظيما لا يقضي على النثر - إيقاعاته، وتنوع جمله، وانعدام الضوابط المكرسة سلفا فيه - على الرغم من أنه، في الوقت نفسه، يشتمل على المعنى والشكل. إنه تنظيم يصل النص كاملا ببعضه من بدايته إلى نهايته في وثاق واحد، صانعا الانغلاق الذي يمنح القصيدة تعريفها الأولي. تنظيم من شأنه أن يحكم وثاق النص بحيث لا يكون ثم إمكان لجعل القصيدة تتبدى سابقة عليه أو لاحقة له. ومن هنا فإن هذا الإدراك للثوابت لابد أن يكون له على القارىء التأثير ذاته الذي تولده القصيدة الغنائية Ode أو السوناتة Sonne . والثابت يتنوع إلى حد بعيد، وربما يتخذ كل ضروب الأشكال الممكنة. فقد يكون إحالة مباشرة إلى نص آخر، وهنا نكون بصدد واقعة تناصية، كما في النموذج الأول الذي سوف ننظر فيه. أو ربما يكون صورة بلاغية، أو توازيا، أو نقطة التقاء لسلسلة من الصور، كما في قصيدة رامبو التي سنحللها. هذا التنوع في الثوابت هو، في الحقيقة، ما قادني في اختياري للقصائد التي سأحاول تحليلها.