نظرتْ في عمق عيني ثم قالت : وجهك لا يضيء هذا النّهار .. هلْ خفت الحبّ؟! حدثتُها عن البرْد في أصَابعي، وكيْف كان القلم مترنحاً في يدي أثْناء مُقابلة العَمل قبْل أيّام.. كنتُ ألوك علكة بنكهة النّعْناع، أصدرتُ صوتاً عابثاً ثمّ قلتُ: بعْض الثّلج يُزاحم الهَواء في رئتي يا صَديقة .. وفؤادي في نُعاس طويل .. في هذا الشّهر من الرّبيع الهَزيل، أشرب كثيراً من ماء الزّهر وأقضم نُتوءاتي.. أبتسم كمَجانين بلادنا الحزينة، نحن الآثمُون بالهَوى، القادمُون منْ مُدن الحُلم المالح، مُحمّلين بأهازيج الحقول والحرّية .. يقف لحن حاد في حلقي هذه الأيام .. قلبي محاط بالثلج الملون، وأنا أتسلى بحبات من حلوى “سكيتليس” أنتقي الليموني والأخضر والبرتقالي، والباقي أرميه للطير من نافذتي وأتخلى عن هوسي بالنظافة وعدم إلقاء الأشياء من النافذة . هل أمارس عنصرية لونية هنا ؟ لم لا، العالم كله يفعل هذا، “هو جت عليّ أنا”! البارحة كنتُ أتأمل آثار البعوض على صدري .. بقع حمراء ومتورمة .. لعنتُ تلك الكائنات الشرسة في سري .. كنتُ أدرك تماماً أن خلف كل ذلك وسوم تملأ العُمق .. وأنه ليس بوسعي أبداً أن ألعنه هُو.. في الحقيقة خططتُ له رسالة قبل شهر أرددٌ فيها :“أكرهك .. لم تعد لزرقة البحر بعدك رائحةٌ مميزة، ولا لمطر الصيف القادم عطرُ الياسمين، أنتَ تمسكُ قلبي من أذينه.. أطلق سراحهُ عليكَ ال ...” لازالتْ ترقدُ تحت وسادتي .. وتلك اللعنة لا تزال معلقةً على أبواب القلْب .. نزف الوقتُ، جوع العمر لا يلتئم قط، الروح تشرب رائحتهَا حتى تذوِي، والقلب يُقرر فجأة أنه حان النبْض الأخير .. قد كان قلبي خاسراً مُنذ البدء.. امنحْني البداية وأطلقني بعدها إلى الرّيح .. سأتدبّرُ أمري جيّداً لكنّي فقط بحاجة لبداية، لصفحة لا شية فيها .. لسجلٍ لا تشوبه خربشة.. أنا أمْقتُ الانتظار .. ألعنه كثيراً وأفرغ على رأس الوقت الحامض رصَاص نزقي .. لكنّك تروّضني جيّداً وتُعلّمني كيفَ أنّ المسافة بيني وبينك ما هي إلا مفازة انتظار وكثير من أقداح القهوة .. رفيقة المواعيد المُؤجلة .. كنتُ أتأمل بهْجتي المُلازمة لي في الفترة الأخيرة، أدركتُ أنّي كنتُ مثقلة بالأحْلام .. أمنياتٌ كثيرة ترقد في كلّ مكان، تحت الوسادة وبين الأوراق، تحت السرير، خلف الستائر، وراء النّافذة والأبواب .. وحتّى في الدرج الخلفي منْ خلايا دماغي الرّمادية، الأمْنيات كانت ثقيلة جداً.. كثيرة جداً وسمينة وكنتُ أمشي ببطء، يتساقط بعضُها منْ يدي .. أو من الثقوب في جيبي .. أنحني لأجمع ما فات .. وأراوح المكان كبنْدول ممل ..! تذكرتُ أيضاً أنّ الرّياح لمْ تكن مواتية أبداً! تُبعثرها لي كلّما زرتُ بحراً ما .. وألاحقُها أنا بطول خطّ الماء .. الطائرة الورقية.. تشبثي بها لدقائق، الركض الحثيث، ثمّ انطلاقها بعيداً وترْكي في حالة خيبة.. حوادث انفلات الخيْط علّمتني التّمسك جيداً بما أملك، وإنْ ترك ذلك أثراً دامياً على أصابعي، هذا في القديم أما الآن فقد سئمتُ التشبث، سئمتُ محاولاتي في إبقائها معي .. في إبقائك هُنا . . لنْ اشرّع لك الأبواب، اقفز من النافذة! وكذا قلتُ لكلّ تلك الأمْنيات، أسقطتُ يدي واستمتعتُ برنين اصْطدامها على رُخام الشّقة البارد . تحررتُ منْها جميعاً .. حتّى آخر حُلم !! هل تصدقون ؟! في بداية هذا النّهار أخذتُ ألمع عيني وقررتُ أن أصمت وألا أتحدث عن الشوق المبهم ولا عن الحنين الذي – ما بعرف لمين - ولا عن أحلامي الصغيرة علي أغرقها بالنسيان، لكن الذاكرة كلها أتتني تتهادى هذا النّهار على شكل رواية طويلة، حارقة .. شقية .. ولا حول لي بها .. أنا الرّوح التي تعرفُ الله جيدًا، وتجيدُ اقتراف الأخطاء .. تلك التي تستغفرُ حين قُبلة .. تقفُ أمام الرّب مطلع كل شهر وساعات الهزيم، تسأله إشارة، علامة ما تعطي معنى لكل الذي يحدث، شيئاً مقدساً ينزع العبث بعيداً، وتعجز أن تبقى على دين الحب طويلاً..، أنا تلك الرّوح، والبندقية الأخيرة المشْحونة ببارود الجنة . من الأجدى أنْ تكونَ كل التفاصيلِ بلا وجوه..لا تُصدِرُ قهْقهَة تافهة..حينمَا يغفو في حدقتيها البُكَاءْ . لديّ نوارسٌ كثيرَة .. لا أهتدي لها لديّ حقل من الحزن والخيبة, ذهب يتحسس مرقده مطأطئ الرأس .. وغيمَة داكنة؛ لا تنهَمرْ، لا تهجُرنِي .. ولا تعقد جدائلها إلى الخلفْ . في النهاية؛ رافقتُ ذاكرَتِي ..ومضيت .. اُهدْهُد العتَبَة الأخيرة .. أعتذرُ لهزائمِي الصغيرَة .. وللأعياد .. * كاتبة صومالية مقيمة في نيروبي