رمضان في كتاب الزمن قصة لن تنتهي , ما زال يقرأها المسلمون في العام ثلاثين يوماً.. رمضان ذلك العجوز الذي مرّ بقريتنا حين كنا صغاراً فتخاطبه براءتنا التي أخذتها منا الأيام.. ( يا رمضان يا ابو الحماحم .. وادّه لابي قرعه دراهم ). نعم هكذا حدثتني أمي عن أمها عن جدتها أن الشيخ رمضان يأتي بخيره ويجزل العطايا للفقراء والأغنياء على حدٍ سواء . قبل أن يحل رمضان بخمسة أيام يبدأ الناس في الريف اليمني بالترحيب بهذا الزائر السنوي (مرْحَبْ مرحب يا رمضان .. مرْحب ْ مرْحب يا رمضان ) وعند حلوله يتفاخر الأطفال في نهاره الأول بأنهم صائمون ويتهم بعضهم بعضاً بالإفطار , قبل أن يحكّموا ألسنتهم في ذلك , فيكون بياض اللسان شاهداً على الإمساك واحمرارها شاهداً على عكس ذلك , لكن حتى بعد هذا التحاكم تظل الصبية تتجادل والكل يرفض أن يتهمه الآخرون بالافطار , لأن كل واحد منهم لا يرى لسانه وانما يرى ألسنة الآخرين.. وفي رمضان من أراد أن يأكل ويشرب من هؤلاء الصغار يجب عليه أن يتوارى خلف الأعين , وقلما يجاهر بعض الصبية بالافطار , لكن معظم الاطفال يأكلون ويشربون خفيةً خيفة أن يراهم الشيخ رمضان , هذا الضيف العزيز الذي يعشقه الصغار قبل الكبار .. حين يحل رمضان في الريف اليمني تكون للجوع لذّةٌ وللعطش نشوة, صباحات رمضان تغرق في الصمت ومساءاته تمور في البهجة , شمس رمضان ليست تلك الشمس التي يعهدها الجميع في الشهور الأخرى , وهلاله ليس ذلك الهلال المنسي على شاطئ الليل يؤرقه الخوف وتعبث به الكآبة والسأم , بل هو هلال تحرسه الأفئدة قبل الأعين , ينمو بسرعة فائقة وكلما زادته العيون نظراً ازداد بهاءاً . يحرص أهل الريف أن تكون مطابخهم مؤمنة , في نهاره الأول يتضور الصائمون جوعاً وعطشاً , الأمر الذي يجعلهم يتفقدون مطابخهم وما فيها من الأكلات الشعبية , وأشهر هذه الأكلات ( الشفوت والشوربة وبنت الصحن والفتّة) وغيرها من الأكلات الشعبية المشهورة لدى المجتمع اليمني عامة والريفي على وجه الخصوص , , في اليوم الأول يشعر كل واحد بأنه بحاجة ماسة لأكبر قدر من الطعام , ولو تتوفر له مائدة كتلك التي أنزلت على بني إسرائل فهو مستعد يلتهمها التهاماً , لكنه بمجرد أن يفطر لا يستطيع أن يأكل إلا القليل . ( شهر رمضان الذي أُنزل فيه القرآن ) هو الشهر الذي يجعل الأرواح تحلق في فضاءات السعادة , إنه الزمن حين يأتي بهيئته الجديدة , إنه الزمن حين يمتلئ بالحياة , إنه النافذه التي يمكن للأرواح أن تعرج من خلالها نحو السماء . إنه الشيخ رمضان حين يتراءى هلاله الأول من الشهر القمري التاسع يكون قد حل ضيفاً على جميع أبناء هذه الأمة الاسلامية الذين يجب عليهم أن يقضوا نهاره ممسكين عن الملذات مصداقاً لقوله تعالى ( فمن شهد منكم الشهر فليصمه ) , ومصداقاً لقوله تعالى ( وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيضمن الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل ). ولعل أبرز التغييرات التي يحدثها رمضان في الريف اليمني أنه يجعل الأباء يذكرون المصاحف التي بقيت منسيةً على الرفوف طيلةً أيام العام , كذلك يجعل الأمهات يخرجن الأواني والقدور الخزفية والنحاسية التي أصابها الصدأ لطول جوعها في الشهور الأحد عشرة الباقية . وفي الريف اليمني تتبدى ملامح رمضان في كل شيء , في الحجر وفي الشجر ,في أوجه العجائز يبدو بهيّاً , وفي صوت من يرتلون القرآن آناء الليل وأطراف النهار يبدو رمضان ناياً ينفث السحر على الأشياء ويبتكر درباً نحو السماء لتسمو بواسطتها الأرواح محلقةً بجناحين من النشوة . رمضان في اللواء الأخضر يسألونك عن رمضان : كيف حاله في إب خذا العام ؟ قل: حاله تُسرّ الصائمين , وتنفث فيهم شعوراً لا يقوى الحبر على رسمه ,ولا تقوى الألفاظ على وصفه , وهل رمضان إلا شهر الروحانيات ؟ وهل إب إلا سجادة سقطت من الفردوس ! يمر رمضان هذه السنة من مدينة إب مرتدياً عباءة الصيف , وما أدراك ما الصيف في هذه المدينو الفريدة ؟ يا لله ويا لرمضان ويا للجنون , ويا لتعسي كيف لي أن أقول ؟ وماذا أقول حين يمر الزمان بملامحه الرمضانية في المكان المتدثر بالسحر والجمال على مرأى ومسمع مني أنا الإنسان الضعيف المنسي العجول المسكين المتهالك ؟! آهٍ ما أشبهني بالمكان والزمان ! وما أحوجني للكتابة عمّا يختلج في كل ثانية زمانية زكل حصاةٍ مكانية ! قف أيها الصائم أحدثْك عن رمضان في هذه المدينة التي يفوق جمالها كل حديث , قف أيها الصائم أصف لك مدينة إب في رمضان الذي لا يفي روحانيته أي وصف . حين يطل الصباح من على مشارف بعدان تأخذ حراثة القسط الأول من أشعة شمسه الممزوجة بالصمت الرمضاني الجليل ,الذي ما زلت أسمع ضجيجه في سماوات الروح , يا لجنون الطبيعة هكذا هو الصباح تارمضاني في مدينة إب , خالٍ من الشوائب المعتادة في الصباحات الأخرى فلا حافلات ولا دراجات نارية ولا أصوات نشاز, هكذا يتنفس الصبح في إب ليظفر المستيقظون بأكبر كمية من الأكسجين الذي تفرزه رئة هذه المدينو الخضراء. إنه رمضان الشهر القرآني والضيف الرباني بروحانيته التي تتجلى في إب , يمنح الصائمين القدرة على التنفس فتكون الأرواح أكثر قدرةً على السمو. تتقدم ساعات النهار إلى الأمام بعد أن يخلد الساهرون إلى فُرشهم , مستغرقين في سباتهم ,إلى أن يحين موعد صلاة العصر, عند ذلك يتكفل الرعد بإيقاظ هؤلاء الغارقين في أعماق النوم حين يبدأ بالقصف في سماوات المدينة , تنهمر الأمطار لتغسل المدينة من أحزانها ويستمر الانهمار ساعات عديدة , ما أروع المطر حين يمتزج برائحة الجوع الزكية , والوجوه يتخللها البهاء , ليست كتلك الوجوه العابسة في مثل هذا الوقت من الأشهر الأخرى , بل هي وجوه أناس ممسكين أفواههم تخلو من اللعنة الخضراء, ما أجمل الساعات الممتدة من العصر إلى موعد الافطار , إذ يقضيها الناس وأفئدتهم ممتلأة بالبهجة , فعند شلالات المشنة لا وجود لا وجود للكآبة ولا أثر للجوع , إذ تبدو المدينة لؤلؤة تتوسط ثلاثة جبال , بعدان والتعكر وصهبان ,تتراءى مشورة من الجهة الغربية , تسترسل الأعين فلا تستطيع أن تجتاز البساط الأخضر الذي ينفث في أرواح الصائمين شعوراً ينسيهم جوعهم وعطشهم . هكذا نحن في هذه الساعات قبل أن نعود إلى مقرنا في جولة بعدان , لحظات ننسى فيها أننا صائمون قبل أن يعلن الإمام عبدالعزيز ( إمام جامع معاذ بن جبل ) انتهاء وقت الإمساك ,وأكثر ما يميز مدينة إب هو تسابق أهلها على دعوة الصائمين للعشاء , ثم يمضي الوقت لتبدأ صلاة التراويح , أئمة المساجد يرتلون القرآن , ولعل صوت الإمام عبدالعزيز أكثر قرباً إلى القلوب , ما زالت تغريدته تجوب فضاءات المدينة , ولعل أكثر ما يثير الإعجاب بصاحب هذا الصوت هو قدرته على الوقوف زهاء ساعتين بقدمٍ واحدة , وبعد صلاة التراويح ينصرف المروحون ليقضي كل واحد منهم ليلته بالطريقة التي يعشق , إلى أن يحين موعد السحور ومن ثم الإمساك. هكذا هو رمضان هذه السنة في مدينة إب , رمضان فريد انفردت به هذه المدينة دون سواها ,فهنيئاً لمن يقضي رمضان فيها , إن من يقضي رمضان فيها لا شك أنه قد عاش حيناً في النعيم