- كانت قَد رَجعتْ..؟! وأنا كنتُ أيضاّ قد رجعتُ، بل اقتربتُ مني وكدت أتعدى حدود النسيان، وأصل إلى الفيافي النافية لأي ولاء لغيري. رجعت.. وأنا أضع أول خطوة في المزارع التي فَرشتها لأوقات العمر القادمة. وفيما أنا أزمع المضي في المطلق المتجول في عالمي، وأتهيأ لرفع الخطوة الثانية، تهتُ في الفرح بها، ومشيتُ بسرور إلى الواجهة التي كانت تسير فيها. شددت لها بتذكارات ضحكاتها الغابرة، وللضائع من ضحكاتي لها،. بل إن الخطوات حين رأتها عاكست إرادة توجيهها.. ودون أن ألقي نظرة إلى مساحات مزارع النسيان التي كانت قد بدأت تتجرد من الأشجار العقيمة التي تحول بيني وبين تجردي من الولاءات لغيري رجعت وثماري في المراحل الأولى للنضوج.. حرمتُ بمحض إرادتي من تذوق ثمار التعب الذي نزفته لإصلاح الأرض التي سأعيش فيها، وسحقتُ الحقول التي ظللت أجول بين مراعيها، وأضعتُ لأجلها الظلال التي كنت استريح تحتها. رجعت فجعلتني أرى السماء فائضة بصوتها الوجود يتغطى بها وبنداءاتها. قالت: إنها رجعت.. فارجع أنت. قلتُ: كيف أرجع، وقد ذهبتُ مع أشجارها وبساتيني. كيف أرجع.. وأنا على وشك الوصول إلى هجرها كما هجرتني. الأمر بسيط – قالت: ما عليك غير أن تبدد المزارع التي تنتشي فيها حقول النسيان وتحرض الأرض لعودة بساتينك وأشجارها. قلتُ: أو أهدر (شقاي) في هذه التربة التي تقلبتُ فيها وقلبتها حتى تَقبَّلتْ أن تكون حقولاً لما أريد. قالت: إنها رجعت.. فدع المساحات تتهيأ إلى عودة العهد القديم. كانت قد رجعت.. وأنا أيضاً كنتُ على وشك الرجوع قالت: لك رجعت، فتعال نحصد ما زرعت في هذه المساحات، لعلنا نتجول فينا كما كنا نعمل قبل أن تتقاسمنا الطرقات. قلتُ: وأبدد متاعب السنين في إصلاح هذه الأرض وبذرها وسقي منابتها، والتعهد برعاية غرساتها .. وأقتل بيدي أحلامي التي تقترب ثمارها الآن من النضوج. - أنا... سأحصد بدلاً عنك مزروعات هذه المساحة، أما أنت، عليك بعد الحصاد أن تقلب الأرض وتشبعها ببذور الأشجار التي قُلِعت في زمن الغفلة، ليس لنا الآن غيرنا، قالت: تعال نحرث في بعضنا البعض ونسقي ظمأنا بمياه أرواحنا. إذن.. قلتُ لها: أنثري البذور ، ولسوف أتعهد أنا بسقي منابتها، وسوف أعتني كذلك بغرساتها. رجعت حاصدة شرهة لتعب نسيانها، وشاركتُ أنا بكل أسف، وفي سعادة في حصاد ما كانت ترغب أن يحصد.. وحين انتهينا من الحصاد ومن نثر بذورها في مساحاتي، رحنا نحرث فينا، إلى أن تيقنت أن لا حياة لي دون أشجارها ولا ظل لي في غيرها ولا قدرة لي في إعادة مزارع النسيان. حصدت كل شيء كان ينفي وجودها وزرعت كل شيء يعيد ظلال وجودها. ورجعتُ... ثقيلة بيقين أنني لن أنساها، ومغمورة بسعادة أوسع من آفاق السماء بتمكنها من وضع أسس مصانع إنتاج المنافي والجنون. ذهبت وهي واثقة أنها أزالت الآلام التي ظلت تنهش فيها منذ صُفخت في بقايا ليلة ماطرة بتحرري منها.. رجعتُ .. دون أن تلعن النافذة التي طلت منها إلى الأحضان المتمردة. وراحت على يقين أن ليس لي ظل آخر غير ظلال أشجارها. وأن ليس لي من يحميني غيرها. كانت قد رجعت.. مثقلة بالهاوية التي دفنتُ فيها حصاد مزارعي، وولائي لي بنيران الصحارى وأعشاب الجبال اليابسة التي تتصاعد إلى السماء بالدخان ودلائل الرماد.