“وهكذا استمرت فاطمة تسأل أباها: أين توديني يا أبي مسعود؟ فيردُ قائلاً: جي بعدي يا فاطمة بنت مسعود إلى أن وصل إلى الجبال البعيدة، فوضعها في جرفٍ وقال لها: اجلسي هنا يا ابنتي، وأنا سأذهب أجمع العلف، وسآتي لأخذك، ونرجع إلى المنزل، فلا تتحركي من هنا. قالت لأبيها: حاضر يا أبي. تركها الأب في ذلك الجرف، ورجع قافلاً إلى بيته، وكان مطرق الرأس حزيناً.. جلست فاطمة تنتظر رجوع أبيها، انتظرته، وانتظرته، ولم يرجع، فكانت تصيح منادية إياه: أين أنت يا أبي مسعود أين أنت يا أبي مسعود أين أنت يا أبي مسعود ولكن.. لا مجيب.. بهذه الفنانتازيا والحكاية العجيبة تفتح أروى عثمان سفرها وحفرها الأنثربولوجي الاجتماعي “وداعاً وريقة الحناء.. سؤال المرأة في المحكى الشعبي” وهو كتابها الذي صدر في العام 2008م، وتصدر الغلاف لوحة لفنانة شابة مشروع امرأة حينها وهي هند نصيري، لتعطي الدالة والصورة التعبيرية للمرأة الباحثة عن مكانتها، وعن وريقة الحناء وكينونتها الضائعة حتى حين.. فهي وحدها الحكايات القادرة على الخلق والابتكار والتماهي في صنع واقع يختلف كثيراً عما هو معيش، فالخيال وحده ملاذ للباحثين عن حياتهم السعيدة، والبعد عن معوقات وأقدار أليمة وجدوا أنفسهم فيها.. صنعها المجتمع وتقاليده الموروثة لتكبيل كل جميل ووأد مشاريع الحياة الحقيقية كابنة مسعود في الحكاية.. والكتاب هو نقد ثقافي لما هو موروث، هو بحث عن صورة المرأة في الحكايات الشعبية كما وضحت الباحثة بأنه محاولة الإفصاح عن المسكوت، وإظهار المخفي، بعيداً عن الأحكام المسبقة أو الشمولية.. “المرأة حكاية” المرأة حكاية، وقصة طويلة منذ بدء الخليقة، ارتبطت بآدم وحكايات عدة لخلقها ولسقوط التفاحة، وغيرها من القصص المتناسلة والحكايات غير المنتهية إلى الآن.. فهي مفتتح الحكايات ونهاياتها، مرحلة الحياة برمتها فتكون الحياة امرأة، وحكاية ينشتل بذرها ورداً في أتلام الليل، ويتضوع زرعها بالنسمات الملقحة، تدخل التلم، تغوص في مساحات التربة، أعمق وأعمق، تسقيها بدموع وعرق، وأحزان، زخاتها طويلة حادة طول الليل، فتبزغ “كان يا ما كان”. إنه الانقلاب أو بالأحرى إسقاط نظام الآخر “الذكر” الذي تسيد كل شيء، وكان كل شيء وما عليها إلا التسليم والطاعة، كان حيث يسمع ويدون، كان هو، كان، حيث الورقة والقلم، والعقل والذاكرة كانت هي الليل، حيث تحكي، حيث تنهيدة ولسان، حيث حلمة تتشقق، متفجرة بالحياة. كان هو المتن، وكانت هي الهامش، المقصي.. فتقول إن الهامش ظهر إذاً ملتحقاً بالحكاية حيث العروق المتفجرة باللبن، وبالحياة وصانعة لكينونتها المغيبة عنها، فوجدتها هنا في ثنايا الحكي ومنعطفات القص اللامنتهية إلا بانتهاء الوجود، وإسدال الستار عن أطول حكاية أعذبها وأجملها، وإن كانت يوماً عذابات وأوجاعا في الذاكرة المقصية.. “الانقلاب على الفحولة” نظرية الفحولة، ظلت تساير العقل العربي وثقافته منذ القرون الأولى لوجود هذه الثقافة، مسيطرة على نتاج وإبداع المخيلة العربية، بدأها ابن سلام الجمحي والأصمعي وهم يتناولون الشعر العربي، لتستمر الحكاية إلى اليوم، وقد حاول دحضها النقد الثقافي الذي ظل على الهامش فهو اليوم في الواجهة، وفي المتن، فنرى هنا النقد الثقافي لدى أروى عثمان، فترجع ما وصلت إليه المرأة والحكاية إلى الفحولة وتسيدها العقل الجمعي.. لذا تصبُّ جام غضبها على القائمين على الأدب والفقه والفكر والثقافة، حين يتقصون المحكي الشعبي ويربطونه بالخرافة، ففتساءل بحرقة عن هذا الاستصغار وتكريس دونية هذا الأدب الشعبي، فهل لأنه شعبي؟ أم لأنه مرتبط بالمرأة وترويه للصغار؟ لذا هي الفحولة التي ابتلينا بها، وفي مجتمع أصيب به حتى الصغار.. فلماذا يظل الطفل متعلقاً بحضن جدته لتحكي له حكاية، وعندما يبدأ ينعت بأنه رجال في اللهجة الشعبية اليمنية رجال بيت، محرم نسائي، يبدأ بالابتعاد عن حضن الجدة، ينكمش عن مجالسة أي أنثى داخل البيت، ليمارس الدور الرجولي، حتى وهو في السابعة من عمره، وكلما ثقلت عليه أردية الفحولة، انتشى وتوشى بتمزيق الحكاية، وتقطيع أوصالها، وردمها أسفل غمد الجنبية، وفي ركن قصي، حيث يخلع الفحولة، يحنّ للحضن، ولسورة الحكاية؛ فهذا النقد المنصب على العقل الذكوري، والثقافة الفحولية التي ترسخت طويلاً لذا نرى عبارات اللا قيمة، اللا جدوى، اللا معنى، الدونية، صفات أضحت لصيقة بالنساء والأطفال، لأنهما متكافئان بالتفكير، وأول ما يكبر الطفل يخضع لتصفية ذكورية ممنهجة من شوائب الحكاية ليتطهر من دنسها، وينتقل إلى طور الرجولة.. فالثقافة الرسمية قد جعلت الحكايات تحت الرقابة، وقد جعلت منها أدباً للأطفال، أو تمرينات للتسلية، غير جديرة بالاحترام، ولم تعتبرها أبداً جزءاً متمماً لها. “الحكاية ومغالبة الموت” ففي الثقافة اليمنية والنسيج المجتمعي القائم كثيراً على الاغتراب والعزلة كانت الحكاية هنا مغالبة للموت والتخلص منه إنه أنين المرأة وآهاتها المكلومة، والمسموعة معاً.. بوحها المتسارع كدقات قلبها المتوجع في بيئتها الشاقة وسجنها المؤبد: يا والدة قد زلجوني أحطب لابه حطب ولا لقيت ما أحطب فالحكي كما تقرر أروى عثمان هنا بأنه هذيان عقل مشوش وهو المراد في الحياة، يبدو الموت النفسي، وحتى الجسدي، فهو الدواء والعلاج لترميم وإصلاح أي جانب من الجوانب المهدمة في النفس.. خلقت المرأة الحكاية ونفثت فيها من روحها الخصبة فكستها لحماً وعظماً مثل الأصبع المبتورة لأخ فتاة الدوم في حكاية “الجرجوف”.. فالمرأة اليمنية لا تقل عن شهرزاد في سردها وبوحها وتوالد حكاياتها، وألمها أيضاً.. فهي تحكي في المساءات، لكن لا تنسى في الصباح الباكر أن تفتح يومها الجديد بأغنية، وتظل تغني، وتغني حتى يأتي المساء لتبدأ الحكاية من جديد: هجرتني يا عيبتك وقفيت خليتني مثل الحجر قفا البيت قلبي جريح يشتي يطير مع الريح يطير إلى باب الكريم ويصيح إنه يوم الليالي الباحثة عن الأمان والدفء والحميمية، الهروب من القساوة والألم الموجع فلابد إذاً من ممارسة طقوس الحكي، يشاركها القمر، مستمعاً ومستمتعاً.. “المرأة واللغة” تقرر الباحثة بأن المعنى كينونة المرأة فقط، أما الفكر واللفظ فهما كينونتا الرجل، كما تحدث بذلك النقاد ومنهم عبدالله الغذامي في كتابه “المرأة واللغة” لذا فإن كلاً من اللغة والكتابة والحضارة تختزل في رجل؛ فالمرأة تبحث عن كينونة نفسها فستظل حافرة بجدران اللغة وكأن الباحثة نسيت بأنها ربما وجدت ذلك، واعترف بها رغم كل معوقات الفحولة أو الذكورة، فهناك اليوم الكتابة النسوية والنقد النسوي وأصل ذلك برسائل نقدية أنثوية أيضاً، وإن كتبت بلغة الفحول، لكنها مارست طقوس الحكاية والبوح ضاربة عرض الحائط كل معنى آخر غير أنثويتها وكينونتها الخاصة. ومن هذا العنوان العريض تجنح الباحثة وهي تنشر الثقافة الأبوية اللصيقة بالمرأة وحياتها المقيدة بسلسلة عبودية لا تنتهي تبدأ من عبودية الأب مروراً بعبودية الزوج، إلى عبودية العائلة الممتدة فهي مفرغة من كل شيء إلا ما يرتبط بالرجل وحياته فهناك خيال مرضي أسمته بثنائية العقل والدرم، وفي ثنايا ذلك تنمية الخوف وثقافة العار وغيرها من الأوهام التي علقت في نسيج المجتمع فأصبح حتماً على المرأة أن تتخلص من كل ذلك وهو ما تمنته الباحثة بأن تخترق كل ثابت وساكن، ولابد من التحرر من الشعاراتية في خطابنا ف “الخطاب قوة” كما قال فوكو، وكل من الخطاب والقوة السلطة تؤمنان بالمعرفة، فهذه رحلة أولية في ثنايا هذا السرد المحكي على أن تتبع استكمالاً لعناوين ممتعة في ثنايا حكايات لا تنتهي ونقد ثقافي لكل ما هو سائد بحثاً عن الممكن.