السعودية تكشف مدى تضررها من هجمات الحوثيين في البحر الأحمر    ريمة سَّكاب اليمن !    الأحلاف القبلية في محافظة شبوة    الشيخ هاني بن بريك يعدد عشرة أخطاء قاتلة لتنظيم إخوان المسلمين    السعودية تعيد مراجعة مشاريعها الاقتصادية "بعيدا عن الغرور"    في ذكرى رحيل الاسطورة نبراس الصحافة والقلم "عادل الأعسم"    نداء إلى محافظ شبوة.. وثقوا الأرضية المتنازع عليها لمستشفى عتق    حزب الرابطة أول من دعا إلى جنوب عربي فيدرالي عام 1956 (بيان)    طلاب جامعة حضرموت يرفعون الرايات الحمراء: ثورة على الظلم أم مجرد صرخة احتجاج؟    باريس سان جرمان بطلا للدوري الفرنسي    كيف يزيد رزقك ويطول عمرك وتختفي كل مشاكلك؟.. ب8 أعمال وآية قرآنية    جماعة الحوثي تعلن حالة الطوارئ في جامعة إب وحينما حضر العمداء ومدراء الكليات كانت الصدمة!    النضال مستمر: قيادي بالانتقالي يؤكد على مواجهة التحديات    عودة الحوثيين إلى الجنوب: خبير عسكري يحذر من "طريق سالكة"    أسئلة مثيرة في اختبارات جامعة صنعاء.. والطلاب يغادرون قاعات الامتحان    "جيل الموت" يُحضّر في مراكز الحوثيين: صرخة نجاة من وكيل حقوق الإنسان!    كيف حافظ الحوثيون على نفوذهم؟..كاتب صحفي يجيب    الدوري الانكليزي الممتاز: مانشستر سيتي يواصل ثباته نحو اللقب    هيئة عمليات التجارة البريطانية تؤكد وقوع حادث قبالة سواحل المهرة    يوميا .. إفراغ 14 مليون لتر إشعاعات نووية ومسرطنة في حضرموت    الوزير الزعوري يطّلع على الدراسة التنموية التي أعدها معهد العمران لأرخبيل سقطرى    كل 13 دقيقة يموت طفل.. تقارير أممية: تفشٍّ كارثي لأمراض الأطفال في اليمن    طوارئ مارب تقر عدداً من الإجراءات لمواجهة كوارث السيول وتفشي الأمراض    بايرن ميونيخ يسعى للتعاقد مع كايل ووكر    البنك الإسلامي للتنمية يخصص نحو 418 مليون دولار لتمويل مشاريع تنموية جديدة في الدول الأعضاء    ميسي يقود إنتر ميامي للفوز على نيو إنجلاند برباعية في الدوري الأمريكي    الدوري الانكليزي الممتاز: ارسنال يطيح بتوتنهام ويعزز صدارته    اشتراكي الضالع ينعي رحيل المناضل محمد سعيد الجماعي مميز    العليمي يؤكد دعم جهود السعودية والمبعوث الأممي لإطلاق عملية سياسية شاملة في اليمن    من هنا تبدأ الحكاية: البحث عن الخلافة تحت عباءة الدين    - نورا الفرح مذيعة قناة اليمن اليوم بصنعاء التي ابكت ضيوفها    الشبكة اليمنية تدين استمرار استهداف المليشيا للمدنيين في تعز وتدعو لردعها وإدانة جرائمها    قضية اليمن واحدة والوجع في الرأس    بالصور.. محمد صلاح ينفجر في وجه كلوب    مئات المستوطنين والمتطرفين يقتحمون باحات الأقصى    وفاة فنان عربي شهير.. رحل بطل ''أسد الجزيرة''    أسعار صرف العملات الأجنبية أمام الريال اليمني    ضبط شحنة أدوية ممنوعة شرقي اليمن وإنقاذ البلاد من كارثة    مجهولون يشعلون النيران في أكبر جمعية تعاونية لتسويق المحاصيل الزراعية خارج اليمن    تضامن حضرموت يحسم الصراع ويبلغ المربع الذهبي لبطولة كرة السلة لأندية حضرموت    شرطة أمريكا تواجه احتجاجات دعم غزة بسلاح الاعتقالات    فريدمان أولا أمن إسرائيل والباقي تفاصيل    دعاء يغفر الذنوب لو كانت كالجبال.. ردده الآن وافتح صفحة جديدة مع الله    اليمنية تنفي شراء طائرات جديدة من الإمارات وتؤكد سعيها لتطوير أسطولها    وصول أول دفعة من الفرق الطبية السعودية للمخيم التطوعي بمستشفى الأمير محمد بن سلمان في عدن (فيديو)    القات: عدو صامت يُحصد أرواح اليمنيين!    وزارة الحج والعمرة السعودية تحذر من شركات الحج الوهمية وتؤكد أنه لا حج إلا بتأشيرة حج    «كاك بنك» يدشن برنامج تدريبي في إعداد الخطة التشغيلية لقياداته الإدارية    الذهب يتجه لتسجيل أول خسارة أسبوعية في 6 أسابيع    الزنداني لم يكن حاله حال نفسه من المسجد إلى بيته، الزنداني تاريخ أسود بقهر الرجال    «كاك بنك» يشارك في اليوم العربي للشمول المالي 2024    أكاديمي سعودي يلعنهم ويعدد جرائم الاخوان المخترقين لمنظومة التعليم السعودي    من كتب يلُبج.. قاعدة تعامل حكام صنعاء مع قادة الفكر الجنوبي ومثقفيه    نقابة مستوردي وتجار الأدوية تحذر من نفاذ الأدوية من السوق الدوائي مع عودة وباء كوليرا    الشاعر باحارثة يشارك في مهرجان الوطن العربي للإبداع الثقافي الدولي بسلطنة عمان    - أقرأ كيف يقارع حسين العماد بشعره الظلم والفساد ويحوله لوقود من الجمر والدموع،فاق العشرات من التقارير والتحقيقات الصحفية في كشفها    لحظة يازمن    لا بكاء ينفع ولا شكوى تفيد    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



جماليات الرؤية الوطنية في شعر «الفتيح»
نشر في الجمهورية يوم 04 - 04 - 2013

(الفتيح) شاعر اختار اللغة العامية قالبًا شعريًا للإفصاح عن رؤيته للحياة، والقراءة الأولية في مجموعته (مشقر بالسحابة) تكشف أننا بإزاء شاعر يتقن إخراج الفكرة في ثوبها الفني الذي يكسبها العمق والإيحاء، ولا يرمي بها في وهاد الوضوح وجفاف الإحساس، وهذا هو السر في نجاح التجارب العامية عند شعراء من أمثال: عبدالله عبد الوهاب نعمان، وعبد الله هادي سبيت، ومحمد الفتيح وسلطان الصريمي وغيرهم، ممن استطاعوا أن يرتقوا بالقصيدة العامية من مستوى الخطابية أو الطنطنة اللفظية إلى مستوى الإيحاء والعمق الفني وثراء الدلالات التي تكشف عن أصالة النص وأصالة التفكير لدى مبدعه.
ولأن الفتيح شاعر متنوع الثقافة، ولا يمكن أن تعجزه لغة الفصاحة فإنه في رحلته مع اللغة العامية كان ولا يزال يظهر براعةً في التعامل معها مكنته من إبداع نصوص لا يمكن أن تنتمي إلا إلى زمن (المعاصَرَة)، ذلك أنه يوظف مخزونه الثقافي والإبداعي في شحن إبداعاته بكثير من الدلالات عن طريق جملة من التقنيات الحداثية التي تبدأ من مزج الوجداني/ الخاص بالواقعي/ السياسي ، وتنتهي بلغة الرمز والتعبير بالصورة وتوظيف السرد والاستدعاء التناصي لكثير من مفردات التراث والواقع التي تختزل الحديث وتكثّف الرؤية، وغير ذلك من التقنيات التي تخرج بالقصيدة العامية عن إطار التقليد والنمطية، وتكسبها قدرة على منافسة القصيدة الفصيحة في صناعة التأثير وتحقيق المقروئية الواسعة، ولهذا نجد الفتيح نفسه يعبر عن اعتزازه بما أنجزته القصيدة العامية في مضمار الواقع، إذ يقول في أحد اللقاءات معه: «الشعر العامي مثّل ويمثل غرة لنضالنا في سبيل التغيير، والاستهانة بدوره يعتبر نيلاً من شرف نضالنا وإن تراث (القردعي وسبيت وسحلول) لأعلى ألف مرة ومرة من تراث أنصار أعذب الشعر أكذبه. فالشعر العامي دك ويدك الآن معاقل التخلف وجدران الدياجي شوقاً إلى الصبح وإلى الضحى».
وبالنظر في مجموعته (مشقر بالسحابة) يتضح أن الشاعر الفتيح أفصح في رؤيته الوطنية عن هموم كثيرة مثل (الهاجس الثوري، قلق الوحدة، مأساة الهجرة، همّ الوطن الكبير)، ففي هذه المفردات نجد وعيه الفني حاضرًا لبناء قصيدة متطورة لا يمكن أن تستنزفها القراءة الواحدة ولا الاثنتان، فالنص الفتيحي بما فيه من وعي فني جديد يظل منفتحًا على كثير من القراءات والتفسيرات التي تعكس ثراء الرؤية الشعرية واتساع أفقها، وأية قراءة تزعم أنها أغلقت الباب وقالت الكلمة الفصل فهي واهمة، فكيف – إذن – تكتسب الرؤية الوطنية عند الفتيح خصوصيتها الفنية في جانبي (الهاجس الثوري وقلق الوحدة)؟ وما ملامح الإبداع فيهما؟
تشكيل الهاجس الثوري
تتصاعد حدة الغضب الثوري عند الشاعر الفتيح من مستوى التحدي والإنذار إلى مستوى الثورة العارمة، ففي المستوى الأول يأتي حدسه بقدوم الثورة وإن كان الثائر لايزال بين براثن الغاصب، وأوضح صورة لهذا الحدس نجدها في قصيدة (بازحف) التي ألقاها في ساحة المؤتمر العمالي بعدن مستشرفًا قيام ثورة شعبية تحرر الأرض وتستعيد المنهوب مهما كانت صلابة العدو، فالفتيح بلسان الثائر يقول:
هم قيدوني وأنا من قيدهم باسخر
بازحف وهيهات زحف الكادحين يقهر
با زحف وبا اتحدى من انكرني واستكبر
وهو الهاجس نفسه الذي دفعه في قصيدة (قهري محال) إلى القول:
كما قد الكيل عندي فاض وقاريت جنوني
شاعصد أبوها عصيد وكلهم يعرفوني
****
المبتدأ والخبر أنا وغيري حروف
كم طاغية قد قهرت وكم لويت من سيوف
وكم مغامر تجرع من كؤوسي الحتوف
صفيت حسابي معاهم والعوالم تشوف
لكن قد يرى الفتيح تكاثف العقد أمام تغير الواقع ويرى أن هذا الواقع يزداد قتامة والأحوال سوءًا، وحينئذ يصر الشاعر على انتظار الثورة، ويتمسك بصناعة الرؤية المقاومة التي تتشكل في إطار فني متحرر يستجيب لنزعة المقاومة والتمرد، فقصيدة (إلى أطفال الحجارة) تعد بجميع مقاطعها ملحمة شعرية حشد فيها الشاعر الفتيح كل عوائق النهوض التي تقف أمام الإنسان العربي وأمام استعادته لكرامته المسلوبة (كالسلاح وحبائل السياسة وإفراغ الجيوش من مسؤولياتها الحقيقية... إلخ)، وهذه الرؤية الثورية جرى تشكيلها في قالب رمزي من خلال ابتداء الحديث بأسلوب الحكي:
قال الأسد للغزالة
ما حق يرجع لراكع
ولا لمرتجي صايع
هذا زمان الحجارة
والعبرة مش بالعبارة
وإنما بالمواقف
وكذا من خلال الاعتماد على صيغ رمزية أخرى من مثل (يا أهل المحاجي والافهام/ اللعبة أسرار وأحكام/ عم سام يسلح عشاير.. من أم سعيد لا أغادير).
ومن الملاحظ أن هذا الفضاء الرمزي الواسع الذي فتحه الفضول أمام رؤيته كان من نتائجه توسيع أفق هذه الرؤية الشعرية لتنطلق في استشراف المستقبل، ولهذا نجد الفتيح قد عاد إلينا بنبوءات أعجب ما فيها أنها تتحقق اليوم أمام عينيه، ولننظر في قصيدة (إلى أطفال الحجارة) فهو يقول في أحد مقاطعها:
قال المتيم بأرضه
ما يجبر الكسر جابر
غير ثورة اليأس في الناس
لما تموج في الشوارع
غضب وطوفان زوابع
باردأ زمن ترفع الرأس
فالفتيح في هذه المقطوعة كأن الحجب قد فُتحت أمامه فرأى قدوم ثورة الشعوب العربية في 2011م أو ما أطلق عليها (ثورة الربيع العربي)، فحتى قبل ذلك العام لم يكن من سنن الثورات العربية أن تكون ثورات شعبية بأسلوب الاحتجاجات والتجمع في ساحات معينة للضغط على الأنظمة الحاكمة للرحيل، وإنما كانت ثورات نخبوية سواء أكانت بيضاء/ سلمية أو حمراء/ دموية، لكن الفتيح في أواخر القرن الماضي كان يبحث عن ثورات الشعوب الحقيقية/ ثورات الساحات السلمية ويترقب قدومها (لما تموج في الشوارع/ غضب وطوفان زوابع)، لأن هذه الثورات في نظره هي التي ستؤكد حيوية الشعوب العربية ويقظتها وصلابة إرادتها، وهي التي ستدهش العالم (باردأ زمن ترفع الرأس).
وفي المستوى الثاني ينتهي به هذا التحدي إلى أن يعيش ثورة عارمة في عالمه النفسي يكون الإنسان الحر الرافض للظلم والتخلف هو بطلها المنتصر، وهنا يتسع مفهوم الثورة وتتعمق التجربة ويسخّر الفتيح وعيه الفني لتشكيل مشهد خيالي يأتي بديلاً عن المشهد الواقعي المؤلم، أي أن وصول الفتيح إلى ذروة التأزم النفسي يفجر فيه شعرية التمرد على اللغة بحثًا عن لغة جديدة تقوم على الإيحاء بالرمز، واستعمال الحكي لتجسيد قضية الثورة، وهذا ما نجده في قصيدة (سيل الفجر) التي يظهر فيها الفتيح متخليًا عن نمط التقرير في نقل رؤيته الثورية بترميز العنوان وترميز النص معًا، يقول:
وعدو الأرض والإنسان جبان
لكن يدّاته حبائل أخطبوط
والفارس اللي صارعه لما انهزم لم ينكسر واللي
عشق ومض الصباح كيف ينكسر؟
لملم جراحه وانتظر فجره وكان الفجر يغزل...
لعشاقه خيوط
وأجمل بداية باسم مبدي الوجود يا يمن
يا أول الحب.. يا كل الحب.. يا أغلى وطن
والليل تمدد كالآمي بلا آخر
وأنا أخنق الليل بالموال للآخر
والليل ينازع وسيل الفجر دفاق للآخر.
فالشاعر هنا يحكي قصة الإنسان اليمني مع عوائق التقدم والنهوض وكل عوامل الانهزامية التي رمز إليها بعدو الأرض الجبان، وحينما ينهض الوعي الوطني وينبري الفارس (رمز الإنسان الثائر) للمواجهة والتحدي فإنه قد يواجه بصلابة العدو ويخسر النزال، ولكنه لم ييأس ولم تضعف إرادته؛ لأنه مؤمن بضرورة التماسك والقوة حتى يحين موعد الفجر (رمز الثورة) الذي سيجتاح الليل (رمز الظلم)، وهذه الحكاية في رأي الفتيح هي التي ينبغي أن يرويها التاريخ عن إنسان نادر صلب الإرادة مهما كان حجم التحديات:
قصة الناس اللي حبوا الأرض من بدء البداية
عاشوا مثل النخل وقوف
رغم طغيان الظروف
وإذا كان هذا الإنسان الثائر في نظر الفتيح قد انتهج سبيل المقاومة، فهذا يعني أن ليله لن يكون كليل امرئ القيس الذي قهر إرادة الشاعر وأبقاه عاجزًا: (وليل كموج البحر أرخى سدوله ... على بأنواع الهموم ليبتلي) ففي هذه القصيدة يتردد صوت الإصرار على مقاومة الليل/ الظلم والجبروت، وضرورة الثبات في مواجهته من خلال مشهد (ظلمات الليل وأصوات المواميل)، فكلما أدرك الثائر أن الليل/ الظلم يزداد في تمدده زاد هذا الثائر في إصراره على إحياء هذا الليل بالأنغام والمواميل التي تقهر وحشة الليل وهواجسه، وهذا يوحي بضرورة مواجهة الظلم والتخلف بالاستمرار في بذر الخير وصناعة الحياة؛ لأن الثورة هي الحياة، ومن الملاحظ أن الفتيح تفنن في رسم هذه الصورة واختيار ألفاظها، ذلك أنه لم يقل: (أواجه الليل) وإنما قال: (أخنق الليل بالموال للآخر/ الليل ينازع) ليوحي بصلابة الإرادة في مواجهة الظلم، وأن هذا الظلم في طور النهاية وأن الفرج قادم، ولهذا فقد كان آخر هذا المشهدي الليلي أن بقي الليل في نزعه الأخير في الحين الذي كان سيل الفجر (زخم الثورة) يتدفق ليعلن للدنيا انتصار الإنسان اليمني.
وإذا جئنا إلى التجربة الثورية في مستوى الانكسار والشعور بالخيبة حين يجد الشاعر أن الثورة قامت ولكن الأحلام لم تتحقق؛ فسنجد أن هذا الرؤية الرافضة للواقع لا تأتي عند الفتيح إلا في قالب رمزي يمنحه الانطلاق في التعبير بحرية، وهذا يغذيه عند الفتيح تصورات رومانتيكية ألجأته إلى الهروب نحو الطبيعة لا ليستمتع بها ويجد فيها سروره فحسب، ولكن ليتخذ منها فضاءً شعريًا يمزج فيه بين الوجداني والسياسي ويجسد فيها هموم الواقع لاسيما الإحساس بعدمية الثورة ومأساة الهجرة، ففي هذا السياق تأتي – على سبيل المثال – قصيدته (الليل وابلبل دنا) التي يهيم فيها بالطبيعة (البلابل/ الصراب.. إلخ) ولكنه يتخذ هذه المفردات قناعًا للموقف الرافض واقع ما بعد الثورة، فهو في هذه القصيدة يقول:
كلنا سقّى وبتّل
كلنا كان له أمل
يجني من كده عسل
وما جنى غير الضنى
والتغني بالرحيل
فالفتيح يريد بالحديث عن السقاية والحراثة وجني المحصول أن يجسد شعور الإنسان اليمني بالخيبة (جني الضنى)، جراء فشل الثورة في تحقيق ما كان يتطلع إليه (جني العسل).
تشكيل قلق الوحدة
ظلت الوحدة هاجسًا ملحًا لدى الفتيح مثل غيره من شعراء الهموم الوطنية، ففي رؤيته الثورية يلاحظ أنه يحرص على أن تكون هذه الرؤية شاملة بتجاوزها حدود المنطقة أو الجهة أو الشطر، وانشغالها بالهم اليمني الواحد، وهذا ما يبدو واضحًا في قصيدة (سيل الفجر)، إذ إنه يلفت انتباه قارئه قائلاً:
وقصة الإنسان والأرض يا حبايب
أبدًا ماليش نهاية
لو رجع ماء المحيط والبحر مداد والكل كاتب
أبدًا ماليش نهاية
المكان ما اقدرش أحدد
قد يكون أرض العزيبي
قد يكون البقع أو سيحوت
أو وادي الحريبي
فالشاعر الفتيح يرفض التقوقع في إطار الجزء أو المنطقة، ويمكن القول: إن واحدية هذا الهم الثوري هي التي خلقت فيه همّ الوحدة الوطنية بعد عودته من الدراسة في سوريا والمجر في السبعينيات، فبعد أن ترك عدن المستعمرة في مطلع الستينيات عاد إليها وقد تحررت، فجعل يدعو إلى الوحدة بوصفها الهدف الأسمى الذي سيكتمل به انتصار اليمنيين.
وما يتميز به الفتيح في الموقف من الوحدة أنه لا يسلّم رؤيته الشعرية للعاطفة والهوس الرومانتيكي بالمعشوق الجميل (الوحدة)، وإنما يتخذ من هذه القضية قلقًا شعريًا جعله يتراوح بين الرجاء والخوف، بين الانشغال بصناعة الحاضر واستشراف المستقبل، وهي رؤية وطنية عميقة يظهر فيها الفتيح السياسي والفتيح النقابي والفتيح الإنساني الذي يهيم بالحقيقة ويقرأ في ضوئها مستقبل الوحدة الذي ينبغي أن يكون، ولذلك نجده يهتم بالأساس الذي تقوم عليه الوحدة الراسخة ليكتب لها الخلود، وكأنه كان يدرك ما سيؤول إليه حال اليمنيين في هذه الأيام، ولننظر في قصيدة (إلى شمسان الأشم) التي ألقاها في الملتقى الأول لشعراء العامية في مطلع الثمانينيات، فهو يقول:
عدتُ يا شمسان عاشق
عدتُ عاشق مش مخاتل
ومع سرب الحمائم والعنادل والبلابل
عدت والعودة لعاشق ذاب
ما فيها غرابة
عدت لك عازف ربابة
جئت لم أشتي لفولاذي صلابة
آه لو تحضن نقم في يوم تكونوا
عاشق ومعشوق
وأنا والشعر والشعراء بينكم ننبض صبابة
سلمت للكون شماريخك
مخللة بالمهابة
جاك (هنس) وراح (تريفيليان)
وأنت اليوم ما أروعك
شامخ مشقر بالسحابة.
فالفتيح في فكره الوحدوي لا يريد تحقيق الوحدة فقط، ولكنه يريد نموذجيتها أيضًا، وهذا الهدف جعله يحرص على علاقة ندية بين شطري الوطن على أساس من الصفاء والحب (عازف ربابة/ مش مخاتل)، بعيدًا عن هيمنة شطر على الآخر، ففي تشخيص جبل (شمسان) ومحاورته نجده يرمز بنفسه إلى إنسان الشمال، وبشمسان إلى إنسان الجنوب، وجعل الأول يتحدث إلى الثاني بنكران ذات، في حين جرى التركيز على الإقرار بعظمة إنسان الجنوب ونبله وسمو مكانته، وقد رسم لجبل شمسان صورة سريالية (مشقر بالسحابة) توحي بالمجد والشموخ والعزة كما توحي بالجمال وندرة المكون الطبيعي في تعانق الجبل مع الغيوم، وهي نفسها الصورة التي رسمها لجبل صبر في قوله:
جبل صبر عالي حتى على الشمس
والغادية يهمس بأذنها همس
وفي قصيدة (كذا فليعشقوا) نجد الفتيح قد عبر عن قضية الوحدة بأسلوب شعري رامز يفصح عن موهبته في إبداع التجربة المتحررة من إسار التقرير، ذلك أنه يتخذ من المعجم العاطفي/ الرومانتيكي أداة لقولبة المعنى الوطني، بحيث يصبح المعشوق شيئًا آخر غير ما يفصح عنه المستوى السطحي للنص، فهو يقول:
نقشنا موعد اللقيا على دمع الغيول
عزمنا الأهل والجيرة
وشهّدنا رمال صيرة
وجبّينا لهيب الشوق ذكرى للعذول
إن الشاعر هنا، وهو يبدي خوفه من تنبه العاذل وحرصه على التفريق بين الحبيبين، يحاول أن يقتنص لحظات الغفلة لا ليستمتع بالجلوس مع الحبيب، ولكن ليرسما بسرعة موعد اللقيا الذي يلم الشمل، وهنا نجد الفتيح قد رسم مشهدًا حيًا للحظات الاتفاق على اللقيا، يتكون من هذه التفاصيل:
المكون الأول: صورة إبداعية تتمثل في كتابة موعد اللقيا على الماء (دمع الغيول)، وهي صورة غرائبية، إذ كيف للإنسان أن يكتب شيئًا على الماء؟ ثم إن هذا الماء جارٍ وليس راكدًا (غيول)، وهنا يمكن القول: إن الفتيح أراد أن يمحو ما وثقه مع الحبيب حول موعد اللقاء، فكان عنصر الماء هو أنسب وسيلة لإخفاء ما كتبه، كما أن الشاعر يجعل هذا الماء دمعًا (دمع الغيول)، وهذا يعني أن هذه الغيول حزينة، فلماذا إذن هي حزينة؟
المكون الثاني: يتمثل بمكان اللقيا، وهو “بالقرب من قلعة صيرة”، وهذا يعني أن الماء الجاري الذي كنى الشاعر عنه بالغيول هي أمواه الساحل التي لا تعرف الجمود ولا التعفن، وهذا يعني أن موعد اللقيا مرتبط بحركة الزمن، وهذه الحركة تبعث في نفس الشاعر القلق، لأنه يريد أن يثبت في سياق هذه الحركة، وهذا أحوجه إلى “المكان” ليكون عامل استقرار وثبات، فقال: “وشهدنا رمال صيرة” ليتحقق الثبات في سياق تقلبات الزمن.
كما أن الجمع بين الرمال والبحر في هذا المكان يوثق لحظات امتزاج الماء بالتراب ليتكون الطين، ولا يخفى أن في هذه الثنائية أقوى رمز للحياة (الطين الذي جاء منه الإنسان) فنحن نجد الشاعر يُجري هذا العناق أولاً بالكتابة على الماء، ثم بإشهاد (رمال صيرة)، وقد كان الأصل أن يصنع الشاعر عكس ذلك، فيكتب على الرمال ويشهد الماء لكن ليس من شأن الصورة المبدعة أن تساير الواقع، فالفتيح اختار طريق البناء الغرائبي الموحي للتعبير عن رؤيته وشعوره النفسي.
ومن الملاحظ أن الشاعر على إثر هذه الكتابة الغرائبية أرسل دعوات الحضور للأهل والجيران (عزمنا الأهل والجيرة)، وهذا يعني أن هذا اللقاء طاهر ومقدس، وسيكون لقاء مشهودًا بحضور كل من جاؤوا لمباركته.
وقد يقال: ألم يكن بوسع الشاعر الفتيح أن يتواعد مع حبيبه شفويًا؟، والجواب أن التوثيق/ الكتابة أراد بها الشاعر التعبير عن تاريخية هذا اللقاء وتاريخية هذا الاتفاق، وحضور الكتابة معناه حضور التقديس، فهو ليس باللقاء العادي ولا باللقاء الآثم، فهو لقاء منتظر ومقدس والأهل والجيران سيشهدون حدثه، وهو اللقاء الذي سيجمع الخلان وينهي سنوات من التباعد والهجران، ولذلك فنحن نجد الفتيح يختتم رسم هذه الصورة بقوله: (وجبينا لهيب الشوق ذكرى للعذول)، فهذه الجملة الشعرية هي خاتمة المشهد وخاتمة القصيدة أيضًا، وهو فيها يحسم الموقف ويعلن بأن (لهيب الشوق) الذي ظل يعاني منه هو وحبيبه سينتهي عما قريب، وسيظل هذا اللهيب ماضيًا يستعيدانه متى ما نهضت أصوات العُذَّال من جديد، ليذكراهم بمآسي الافتراق والتباعد فيكفوا عن عذلهما.
فالفتيح إذن انتصر على كل موانع اللقيا عندما أحسن الاختيار بكتابة موعد اللقاء على الماء لئلا يقرأه العُذّال، ثم بإشهاده رمال صيرة، ودعوة الأهل والجيران للحضور، وهنا يختار الفتيح مغادرة النص، وترك النهاية مفتوحة، والسؤال: هل تم اللقاء بعد هذا الاتفاق الخاطف؟ ثم إن السؤال الأهم: من يكون هذا الحبيب؟ وما حقيقة العلاقة مع هذا الحبيب التي يزهو بها الفتيح؟.
إن الفتيح يعبر هنا باسم الإنسان اليمني عن (قلق الوحدة) والهموم الحضارية التي يحملها معه إلى مطلع الألفية الثالثة.
فالفتيح هو ذلك الشاعر الذي عاش أيام صباه في عدن، تلك المدينة التي احتضنته بعد احتضانها أباه، مثل غيرهما من أبناء الشمال الذين فروا من جحيم النظام الإمامي ليجدوا في عدن الأمن والسلوان، ثم غادرها الفتيح إلى صنعاء عند قيام ثورة سبتمبر ليلتحق بكتائب الدفاع عن الثورة الوليدة، وحين ترك الوطن للدراسة في سوريا ثم في المجر حتى عودته في السبعينيات، لم يكن أمامه سوى أن يجد وطنًا ممزقًا ونُخبًا متناحرة، ولكنه ظل في هذه المرحلة أمام دفقات من الأمل بانطلاق المباحثات بين قيادتي الشطرين لإعلان الوحدة وإنهاء مسلسل الاقتتال والتناحر، حتى تتويج هذه التفاهمات بتوقيع اتفاقية الوحدة ومن ثم إعلان قيامها في 22 مايو 1990م.
فعند ساحل صيرة يصنع الفتيح ذلك المشهد الغرائبي ليعبر عن اقتناص الإنسان اليمني لحظات من الزمن في ظل غفلة الأعداء ليتم الاتفاق على إعادة اللُّحمة وإنهاء مسلسل الصراعات والأحزان (دمع الغيول)، فالوحدة هي التي ستعيد الحياة إلى الجسد اليمني من خلال عناق الرمال والساحل، وعناق الجبل والبحر (نقشنا موعد القيا على دمع الغيول/ وشهدنا رمال صيرة)، وهذا الحدث كان يستحق من الفتيح أن يبشر بقدومه ويدعو الجميع لحضوره (عزمنا الأهل والجيرة) ويتغنى به، فهو الحدث الذي عاش على أمل قدومه وكان يلهمه الإبداع، فهو يقول في بداية القصيدة:
هوانا ألهم الحُمَّام سجعه والهديل
نطق عودي وأشعاري
وفجر نبع أشعاري
يصب في مسمع العشاق من فني الأصيل.
وكان الفتيح يرى أن الوحدة هي حلمه الكبير، ولذا فإنه باسم اليمنيين يؤكد أنه سيمضي في طريقها مهما كانت التحديات، ومهما حاول البعض أن يفرغها من معناها السامي، فهي وحدة الشعب، هو من غذاها وهو من أسقى شجرتها حتى كبرت، يقول:
بانمضي على درب الهوى
محال لو لامنا عاذل نتوب
واحنا اللي زرعناه في القلوب
ومن نهر الصفا أسقيناه وبا نجني جناه.
فالواضح إذن أننا أمام رؤية وطنية أبدع الشاعر الفتيح في التعبير عنها بطريقة فنية تقوم على الإشارة والإيحاء وليس على التصريح الذي يُسقط الفكرة إلى وهاد التقرير والخطابية، فمفردات الطبيعة (رمال صيرة/ الغيول/ نبع/ الحمّام/ الهديل/ نهر الصفا/ الجنى/ زرعناه) وكذا مفردات الوجدان والحب (درب الهوى/ القلوب/ عودي/ أوتاري/ أشعاري/ العشاق/ فني الأصيل/ الحلم/ دقات الفؤاد/ دمع/ لهيب الشوق/ ذكرى)، هذه المفردات الرومانتيكية كلها تضافرت لتجسد رؤية الفتيح الوطنية، ولذلك أصبحنا أمام قصيدة يظهر فيها تغزل الشاعر بالحبيبة، وفي العمق يأتي هيامه بالوحدة الوطنية والتعبير عن قلق الإنسان اليمني إزاءها، وتنبؤه – أي الفتيح - بما ستواجهه هذه الوحدة من مصاعب ومشاق، والأمر نفسه في قصيدة (حنين)، إذ نجد الفتيح متشبثًا بهذه الرؤية الوطنية التي مضى فيها يستشرف المستقبل معبرًا عن قلق الوحدة الذي كان ينتاب الإنسان اليمني ولا يزال، فهو يقول:
حنيت فكان البرق جواب حنيني
وأنيت فبات الريح صدى أنيني
وغنيت للكحلا أحلى لحوني
واعطيتها عمري لجل اقضي ديني
فالفتيح هنا يعبر بصوت اليمنيين عن حنينهم إلى الوحدة – التي رمز إليها بالكحلا - وأنينهم جراء غيابها وتغنيهم بها عقودًا من الزمن، لأنهم يؤمنون بأن هذه الوحدة المنشودة هي الأمانة في أعناقهم، وهذا هو الشعور الذي كان يدفع المخلصين من النخب الوطنية والقيادات ذات الجهود المشهودة من أمثال عبد الفتاح إسماعيل وإبراهيم الحمدي وسالمين وغيرهم، للسعي الحثيث نحو جعل هذه الوحدة أمرًا واقعًا، فقد كانوا يرون أنها دين في أعناقهم، وإذا ما نجحوا في تحقيقها فسيكونون بذلك قد قضوا دينهم وأدوا الأمانة التي ائتمنوا عليها، ولهذا قال الفتيح: (واعطيتها عمري لجل اقضي ديني)، ولكن هذه الرؤية التي جاء بها الفتيح تغادر حيز الأحلام إلى حيز الواقع فترى ما الذي يقف عقبة أمام أحلام الجماهير، وترى القوى التي تقف في وجه الوحدة، وهي مفارقات تثير دهشة الجماهير الحالمة، يقول:
عيني ترى وراعية وكحلا
عمايل الجيران بالحول الاعلى
صبية تتجوّر وصبية فله
عرفه يفوح لا ساحل المكلا
وفي المقطوعة التالية من القصيدة نجد الفتيح يكسر حاجز الزمن ليستشرف المستقبل الذي ستصل إليه الوحدة، جازمًا أن العيب لن يكون في الوحدة، وإنما في سلوكيات البعض الذين لا يرون غير أنفسهم ولا يرعون غير مصالحهم، وإذا كان الفتيح بصوت الجماهير يغضب في وجه من يحمّل الوحدة الجرم والخطأ فإنه بصوت هذه الجماهير أيضًا يتوعد من يتربص بهذه القيمة العظيمة، والمكسب العظيم لليمنيين والعرب كلهم، ولذا فهو يقول:
(أبو مطر) حبك يا كحلا واخلص
وغازلك وشقرك وعرقص
يا ويل من عابك أو تربص
والله العظيم لا فلِّقه بمفرص
ويختتم الفتيح رؤيته الوطنية برسالته إلى النخب التي تقود الوطن بأن تتحمل مسؤولية إفراغ الوحدة من مضمونها الحقيقي، وأن الكلام لا يفيد في معرض الحقوق والواجبات التي تحفظ لوحدة اليمنيين قيمتها في النفوس، إذ لا بد من الفعل الذي يعيد الحق إلى أهله وينصر المظلوم ويوقف الظالم عند حده، يقول:
واراعيه قولي لشارح الحول
في الوصل قول الفصل والقوه والحول
الفعل شيذهبنا والرد مش قول
لا تسكتيش خلي السكوت لبو الهول.
فالفتيح هنا يرفض الصمت والمداهنة؛ لأن الأوطان لا تبنى إلا على الوضوح والصدق، ولذلك رمز بشارح الحول إلى النخب الحاكمة التي ينبغي في ظل انفتاحها على الآخر أن تكون جادة ويقظة وذات إرادة قوية، ورمز بتمثال (أبو الهول) إلى تلك المواقف المنافقة التي تظهر خلاف ما تبطن، فهي في نظره مثل هذا التمثال ذي الشكل الأسطوري، لأن رأسه رأس إنسان وجسمه جسم أسد، وهكذا هم أصحاب أنصاف المواقف وأنصاف الحلول، ومثلهم أولئك الذين ينطقون بحب الوطن وحب الوحدة وهو يفسدون ويسلبون ليطعنوهما في مقتل.
وبهذا يتضح إفصاح الفتيح عن هذه الرؤية الوطنية بأسلوب رامز ومكثف، مظهرًا قدرته الإبداعية في تجسيد موضوع الوحدة الوطنية في تجربة فنية تجعل النص قادرًا على الاستمرار في إنتاج الدلالة الأدبية.
ونخلص من كل ما تقدم إلى أن الشاعر محمد عبد الباري الفتيح حالة شعرية لها خصوصيتها الفنية في تشكيل الموقف الوطني اعتمادًا على أدوات فنية حداثية كالرمز والحكي والتعبير بالصورة وغيرها من الإمكانات التي ارتقى من خلالها بالقصيدة العامية إلى المستوى فني متطور، وهو ما لم تبلغه كثير من قصائد الشعر العامي التي تركن إلى الوضوح والخطابية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.