لمن يجهل قيمة الإنتقالي    فضيحة قناة الحدث: تستضيف محافظ حضرموت وتكتب تعريفه "أسامة الشرمي"    ريال مدريد يثأر من السيتي ويجرده من لقب أبطال أوروبا    "استيراد القات من اليمن والحبشة".. مرحبآ بالقات الحبشي    حضرموت تستعد للاحتفاء بذكرى نصرها المؤزر ضد تنظيم القاعدة    الجنوب ومحاذير التعامل مع العقلية اليمنية    غرق شاب في مياه خور المكلا وانتشال جثمانه    بن بريك يدعو لتدخل إغاثي لمواجهة كارثة السيول بحضرموت والمهرة    "سيضيف المداعة في خطبته القادمة"...شاهد : خطيب حوثي يثير سخرية رواد مواقع التواصل بعد ظهوره يمضغ القات على المنبر    ثلاث مساوئ حوثية أكدتها عشرية الإنقلاب    فيديو اللقاء الهام للرئيس العليمي مع عدد من كبار الصحفيين المصريين    "ليست صواريخ فرط صوتية"...مليشيات الحوثي تستعد لتدشين اقوى واخطر سلاح لديها    دوري ابطال اوروبا ... ريال مدريد يطيح بمانشستر سيتي ويتأهل لنصف النهائي    اليمن: الكوارث الطبيعية تُصبح ظاهرة دورية في بعض المحافظات الساحلية، ووزير سابق يدعو لإنشاء صندوق طوارئ    على رأسهم مهدي المشاط ...ناشطة حوثية تدعو إلى كسر الصمت حول قضية السموم الزراعية في اليمن    مأساة إنسانية: صاعقة رعدية تُفجع عائلتين في تعز    الرئيس الزُبيدي يطمئن على الأوضاع في محافظة حضرموت    العين الاماراتي يسحق الهلال السعودي برباعية ويوقف سلسلة انتصارات الزعيم التاريخية    حكومات الشرعية وأزمة كهرباء عدن.. حرب ممنهجة على الجنوب    سحب العملة الجديدة في صنعاء... إليك الحقيقة    رافقه وزيري العمل والمياه.. رئيس الوزراء يزور محافظة لحج    دراسة حديثة تحذر من مسكن آلام شائع يمكن أن يلحق الضرر بالقلب    رافينيا يوجه رسالة حماسية لجماهير برشلونة    استقرار أسعار الذهب عند 2381.68 دولار للأوقية    مفاجأة صادمة ....الفنانة بلقيس فتحي ترغب بالعودة إلى اليمن والعيش فيه    أنس جابر تنتزع تأهلا صعبا في دورة شتوتجارت    محافظ المهرة يوجه برفع الجاهزية واتخاذ كافة الإجراءات الاحترازية تحسبا للمنخفض الجوي    وفاة وإصابة 162 مواطنا بحوادث سير خلال إجازة عيد الفطر    أمين عام الاشتراكي اليمني يعزي الرفيق محمد إبراهيم سيدون برحيل زوجته مميز    إيران: مدمرة حربية سترافق سفننا التجارية في البحر الأحمر    توكل كرمان تجدد انتقادها لإيران وتقول إن ردها صرف انتباه العالم عما تتعرض له غزة    عن صيام ست من شوال!    مصر: ختام ناجح لبطولة الجمهورية المفتوحة " للدراجون بوت "ومنتخب مصر يطير للشارقة غدا    حزب الإصلاح يكشف عن الحالة الصحية للشيخ ''الزنداني'' .. وهذا ما قاله عن ''صعتر''    أبناء الجنوب يدفعون للحوثي سنويا 800 مليون دولار ثمنا للقات اليمني    تصحيح التراث الشرعي (24).. ماذا فعلت المذاهب الفقهية وأتباعها؟    وفاة طفل غرقًا خلال السباحة مع أصدقائه جنوبي اليمن    10 أشخاص ينزحون من اليمن إلى الفضاء في رواية    محافظ عدن يلزم المنظمات باستصدار ترخيص لإقامة أي فعاليات في عدن    مصير الأردن على المحك وليس مصير غزة    من هم الذين لا يدخلون النار؟.. انقذ نفسك قبل فوات الأوان    نيابة استئناف الامانة تتهم 40 من تجار المبيدات والأسمدة بارتكاب جرائم بيئية وتعريض حياة الناس للمخاطر    خطة تشيع جديدة في صنعاء.. مزارات على أنقاض أماكن تاريخية    الكشف عن آخر تطورات الحالة الصحية للفنان عبدالله الرويشد    ارنولد: انا مدين بكل شيء ل كلوب    دوري ابطال اوروبا: دورتموند يخالف التوقعات ويُحرج دفاع الاتلتيكو برباعية    الضالع: القوات المشتركة تُحافظ على زخم انتصاراتها وتُحبط مخططات الحوثيين    بعد تراجع شعبيتهم في الجنوب ...المجلس الانتقالي الجنوبي يعتزم تعيين شخصية حضرمية بديلاً عن عيدروس الزبيدي    وللعيد برامجه التافهة    السيد الحبيب ابوبكر بن شهاب... ايقونة الحضارم بالشرق الأقصى والهند    ظهر بطريقة مثيرة.. الوباء القاتل يجتاح اليمن والأمم المتحدة تدق ناقوس الخطر.. ومطالبات بتدخل عاجل    أبناء المهرة أصبحوا غرباء في أرضهم التي احتلها المستوطنين اليمنيين    حكم الجمع في الصيام بين نية القضاء وصيام ست من شوال    وزارة الأوقاف تعلن صدور أول تأشيرة لحجاج اليمن لموسم 1445ه    تراث الجنوب وفنه يواجه.. لصوصية وخساسة يمنية وجهل وغباء جنوبي    تأتأة بن مبارك في الكلام وتقاطع الذراعين تعكس عقد ومرض نفسي (صور)    تخيل أنك قادر على تناول 4 أطعمة فقط؟.. شابة مصابة بمرض حيّر الأطباء!    النائب حاشد: التغييرات الجذرية فقدت بريقها والصبر وصل منتهاه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



زخات استقرائية من كفاح سيرة و تجربة الفتيح الإبداعية.. منصور السروري
مشقر الوطن الذي حلق فوق حياة سوداء..
نشر في يمنات يوم 15 - 07 - 2013


استهلال لا بد منه
اسقني قطرات معدودة في حياتي ، ولا تفض مياه النهر العذب كلها عليا بعد مماتي.
إن يكتب سطراً واحداً عني في حياتي أقرؤه فأرى نفسي في عيونكم أفضل عندى من ألف كتاب سيٌكتب عنى في مماتي .
بما في هذه العبارات من معاني حادثني الشاعر سليمان المليكي ذكرني بما كان الفتيح قد قاله لي ذات مساء من نوفمبر 2009م أمضيته حتى وقت متأخر من الليل عنده وكان قصده كتاب ونقاد كبار أهداهم ديوانه " مشقر بالسحابة " فلم ير منهم أي كتابة عن شعره سلباً أو إيجاباً لأنه يريد أن يرى نفسه في حروفهم بأي صورة تكون .
انتابني هذا الإحساس على إثر نبأ رحيل الفتيح .
ما أسوأ أن يشعر المرء قبل رحيله : أنه لن يصله شئ من الاطراء الذي سيلحقه بعد انطفاءة عينيه.
اليس صحيحاً أن فائدة الكتابة عن مبدع بعد وفاته اشبه بفائدة نزول القطر بعد وفاة الضمئان ؟
يخالجني شعور ربما يكون صحيحاً : أن من جملة اسباب تقهقرنا الحضاري اننا لا نعرف قيمة العظماء بيننا .. ولا نذكر قيمتهم إلا على إثر غيابهم الأخير .. وهو طبع سائد فينا ولا يكاد يتزحزح بعد رحيل كل مبدع كأن نقول باقي مبدع هناك مازال حياً يجب رد اعتباره وتكريمه قبل رحيله هو الأخر وهو حزين على حالات التجاهل ، و اللاتقدير لعطاءاته وابدعاته .
كالفتيح .. نعم كأبو مطر الذي عاش كثيراً على هذا الوطن الذي بادل عشق وإخلاص الفتيح بالقسوة ، المعاناة .. تارة يفرض عليه الحرمان ، وأخرى الظلم ، وتارة يبخل عليه بأقل ما يستحقه من شروط الحياة المستقرة الهانئة اللائقة وحجم مكانته النضالية وإمكانياته العلمية ، المهنية المتعددة ، وعطاءاته الابداعيىة .. يا له من وطن قاس .. يمنحه الفتيح وأمثاله كل حياتهم فيبخل عليهم بكل شئ ، وليت الأمر يقف عند مستو البخل بل أنه يمنحهم كل القساوات والأوجاع .
ومع ذلك سأكتب عن الفتيح لا للتسجيل حضور كبعض من كتبوا لهذا الهدف ليس أكثر ، وإنما لأنني أولاً : سبق أن كتبت عنه قبل سنوات لأكثر من مرة ، وثانياً : قدمت عنه قراءة بحضوره في منتدى بتعز بمقر الحزب الاشتراكي (نسيت أسمه) وأخذ الدراسة مطهر الشرجبي لطباعتها ، وهو أدبياً ملزم بنشرها بأقرب وقت ، وثالثاً : ثمة أمانة وعدته بها أنني لن أكتب استقراءاً لسيرته إلا بعد وفاته حتى لا يعتبر ما سيرد فيها لكأنه بإيعاز منه ، ورابعاً لتصحيح كثير أخطاء وردت في مواقع وصحف ، ووقع فيها كثير من الكتاب الصحفيين بشان سيرته غلبت عليها لغة الانشاء التعبيري على الاستقراء الحقيقي الذي يفضي إلى مقاربة حقيقية تجربته الشعرية بعمقيتها الفلسفية على نحو انساني خلاق .
وقبل أن اكتب شيئاَ أجدني ملزماً كل الإلزام بتوضيح في غاية الأهمية .. يبين من ناحية مبررات الانقطاع عن الفتيح في العامين الأخيرين ، ومن ناحية تالية علاقتي بالفتيح التي تطورت إلى حد جعلته لا يخفي عني مكانتي في نفسه بالتوازي مع أسماء اخرى حيث قال لي :
أنت ومحمد عبد الوكيل جازم ، ومحمد الشيباني ، وعلى المقري ، وبشرى المقطري .
أنتم الأربعة وبشرى ( فقط ) اراكم الشجرة التي أستظل تحتها ، وأردف يقول :
شوف يا منصور انا أرى نفسي شجرة لكل هذا الجيل يستظل بها إلا أنت ،......... محمد ، ومحمد ، وعلي ، وبشرى الشجرة التي استظل بظلالها الوارف .
تبرير في الوقت الضائع
كم أنا حزين الآن على مواقف فاتتني كان يفترض الانتصار فيها على الظروف التي تهدهدني وتكاد تأتي على ما تبقى من مقومات وجودي .. ظروف لا تقف تبعاتها عند حدود التقصير بشأن التزاماتي نحو مشروعي الفكري الذي يتجاوز العقد والنصف ويشكل الفتيح والجابري والصريمي والفضول وعبدالله سلام ناجي وعلى بن علي صبره ولطفي جعفر أمان وغيرهم كثير جزءاً من مكونه البنائي ، وإنما وصلت تبعات تلك الظروف إلى تهديد عملي ، واستقراري الأسري .
أقول بهذا ربما للتبرير في الوقت الضائع للفتيح الذي كان يعلم بتكالب الظروف ضدي .. فقد كان يتصل بي ويسألني إلى أين وصلت بحل مشاكلك في العمل؟
لا جديد ياعم محمد
شوف يا إبني حاول أن تنتصر على العقبات أنت لست مثلي ظروفكم هذا الجيل غير ظروفنا نحن الجيل الذي يسبقكم .
هذه حقيقة كان يعلم ويقول لي : أنتم هذا الجيل من المبدعين لا يستطيع الجمع بين الخيارات .. خيارات الوظيفة والنضال ، والأدب ، والكتابة المتعددة .. لا يستطيع أحدكم الجمع بين هذه الخيارات سوى المحظوظين وبشرط التخلي عن أهمها " النضال " الذي يعد ركناً اصيلاً في تأصيل الإبداع .
المقالة التي جعلته يبحث عني
كنت قد كتبت عنه مقالة صغيرة في صحيفة المستقلة عن قصيدته " الليل يا بلبل دنا " ، فاتصل بالصحيفة يسأل عني ، ويذكرني بكلمات أطرتني كثيراً وكأنها وسام يعلق فوق صدري بتساؤله : ألست السروري الذي يكتب في صحيفة الثقافية تلك المقالات الرائعة عن الفكر النهضوي ، وعن أيوب طارش ، وعن الشعر الغنائي ،,,,,,، ,,,,,,, ؟
اجبته بالإيجاب فعبر عن سعادته لما كتبته عنه في المستقلة و سألني : لكن قلي كيف اكتشفت أنني اصور بهذه القصيدة خيبت أملي بثورة سبتمبر ؟
أجبته النص : واضح
" سنأتي على تفاصيل ذلك في موضع لاحق من هذه المقاربة التوثيقية لتجربة حياة الفتيح الإبداعية ، والنضالية ، الكفاحية ."
وطلب مني أن ألتقي به عندما ياتي إلى صنعاء لحضور اجتماع اعضاء مجلس المكتب التنفيذي لاتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين الذي كان أحد ابرز اعضاءه لدورات عديدة ، عند خروجه من الجلسة تمعن في وجهي بذكائه الحاد وهو يصافحني : عرفتك صورة بدون اسم من فترة طويلة ، وعرفتك كاتباً بدون صورة .. مش (ألست ) منصور الذي يزور دائماً الفنان هاشم علي ؟ ، وما ان هززت رأسي وانطويت أقبله في الجبهة حتى أسقط دمعة وهو يقول : مازلت أتساءل : كيف اكتشفت أنني صورت بقصيدة (الليل يا بلبل دنا ) خيبت أملي بثورة سبتمبر ؟
نعم كتبت هذه القصيدة بعد أحداث أغسطس 1968م التي أكلت الثورة فيها أبنائها المناضلين وفي مقدمتهم البطلين محمد مهيوب الوحش ، وعبد الرقيب عبد الوهاب.
ومنذ هذا اليوم من عام 2007 م الذي تأصل في منزل أديب عزيز يحبه الفتيح كثيراً (محمد عبد الوكيل جازم ) فقد استضافنا أنا و الفتيح ، والكاتب صادق غانم احد الذين سرد عليهم الفتيح سيرته الذاتية على الغداء والمقيل الذي بعد ذلك حضره الأديب أحمد ناجي أحمد ، ولما كانت الليلة شتائية ، وقد قِدم إلى صنعاء ببذلته السفاري (نصف كم ) ولأن جاكتي كبيراً على جسدي ، ويتناسب معه خلعته ، وبإلحاح شديد مننا جميعاً ارتداه ، ورافقته حتى محل نزوله عند ابنته خلف مبنى اليمنية ، وكانت المفاجئة أنه ترك الجاكت عند (محمد جازم ) ثاني يوم فأي طراز من الناس كان هذا الفتيح ؟
استمرت تواصلنا لا يأتي صنعاء لحضور جلسات المكتب التنفيذي لاتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين أو لزيارة ابنته المقيمة في صنعاء دونما ألتقيه ونجلس معاً ، ولا أمر على تعز دونما أزوره وإن لساعة زمان ، بل أن العلاقة تطورت إلى حد أنه استضافني والزوجة وصغاري لمرات عديدة ، ولا أتذكر كم مرة بت عنده في طريقي إلى صنعاء .
وعودة على ذي بدء انقطعت عنه خلال فترة الثورة ، لا أدري كيف أعبر ظروفي استاءت إلى حد بته مشذوخا تائهاً حتى أنني لم أسطع الحفاظ على كل موبايل اقتنيه ( 6 موبايلات مابين مسروقة وضائعة ) ، ولما يتصل بي ، ويجد خطي مقطوعا يضطر للاتصال بالزوجة لأن رقم تلفونها معه ، والعكس رقمه معها .. يتصل ليسألها عني ، ويسألها عن صحتها ، والأولاد ويبدي عليها خدماته .
نصيحة الفتيح الذهبية للشعراء
ومن فرط إعجابه بشخصيتها التي لمس منها تقديرا كبيرا ، وحباً جماً له أنه أهداها كل إصدارات مؤسسة السعيد الثقافية عندما وجدها تقرأ ، وأذكر أنني عرضت عليه بعض نصوص غنائية ادعيت أنها من كتاباتها لمس بعض الأبيات وكأنها زائدة أو مقحمة على النص نصحها نصيحة لا يجب أن أكتمها فكل من يكتب الشعر في مسيس الحاجة إلى تلك الجملة التي قالها لأم زكريا :
شوفي يا بنتي تخلصي من بيت أو بيتين لتُخَّلد القصيدة ، وتخلصي من قصيدة أو قصيدتين ليخلد ديوانك .
وكما قلت رحلتي مع الفتيح كانت قصيرة لكنها كانت طويلة بالقياس إلى كثيرين عايشوه واستفادوا منه معنوياً .
جلسنا ذات مرة ليلتان معاً الأولى : قرأنا ديوان " مشقر بالسحابة " كاملاً أسر لي مناسبة كل قصيدة ، ومضمونها ، والليلة الثانية سرد لي أهم المحطات من سيرته التي قال لي عنها تستطيع ان تكتب عنها ولكن بعد أن أموت ، ولا أخفي أنني حينها سجلت بشريط ، وبالموبايل معظم ما قاله .. كنت قد فرغت الجزء الأول من ذلك الحديث الذي سآتي عليه تالياً ، ويوثق للنصف الأول من سيرته الكفاحية ، وفقدت الجزء مع ما يقارب 13 ألف عنوان من كتب ومجلات ودوريات وصحف ظللت أجمعها على مدى ربع قرن ألتهمتها حروب الحصبة أثناء الثورة الشبابية ، وهي أسوأ كارثة أعتبرها في حياتي راحت فيها كل كتبي ، وأرشيفي الصحفي ، وحتى كتاباتي المؤرشفة ومسودات الكتب التي كنت أعدها للنشر ، ومؤهلاتي ، وشهاداتي الدراسية والتقديرية ، والتكريمية .. كل ذلك انتهى تماماً .
ومن معاني هذه السطور احتجبت في الآونة الأخيرة ، وانقطعت عمن حولي حتى عن القرية والأهل عدا بعض المرات التي أجريت فيها عددا من الحوارات الصحفية وطباعة دراسات كانت مخطوطة تفضلت صحيفة الجمهورية ونشرت الحوارات ودراسة قبلها ، و هاأنذا أعود للكتابة كرة أخرى من بوابة غياب الفتيح .. ملتمساً من مطر ، وأم مطر ، وبقية أفراد الأسرة الكريمة قبول الاعتذار مني ومن أم زكريا عن الانقطاع الذي كان خارجاً عن إرادتي وقصته طويلة.
ولدت سنة مقتل المُفَضَل
ذات يوم من أيام العام 1932 م يلقي أحد عمال الإمام يدعى المُفضل مصرعه بإحدى قرى قدس على ايدي مواطنين لتعنته المستمر ، وعنجهيته عليهم وظلمه في فرض (الخراج زكاة الغلة / الثمار ) بالزيادة عن السنوات السابقة ، وفي موسم اتسم بالقحط والجدب ، وانقطاع الغيث عنهم ، وإذا كان أهالي قدس يتناقلون هذه الحكاية بقدر كبير من الزهو ، والفخر جيلا بعد جيل فلا ريب أن الفتيح يكون أكثر فخراً ، وزهوا وهو يحدثك قائلاً : ولدت سنة مقتل المفضل .
مقتل عامل الإمام في الحجرية كانت بمثابة الشرر الذي أشعل حنقه وغضبه ، ودونما يتوان وجه أميره في تعز بتجهيز حملة عسكرية على منطقة قدس لرد الاعتبار ، وإلقاء القبض حتى على من يشك بأنه ساعد أو خطط على قتل المفضل .
وقبل وصول حملة عُكف الإمام غادرت مجاميع من المواطنين والشباب القرى خصوصاً قرية المكيشة التابعة لقدس وهي (عزلة مكونة من خمسة وعشرين محلة أو قرىً صغيرةٍ إحداهن قرية حنحن ) التي غادرها عبد الباري الفتيح إلى مدينة عدن .
وبينا كانت أقدام العكف الحافية تطرق مخالف ، ودروب قرية المكيشة يصرخ مولود بإحدى بيوتها صرخة التمرد الأولى .. صرخة ليست بكائية بقدر ما هي إعلان الحضور إلى دنيا الله .. صرخة ستظل على مدى ثمانون عاما مرفوعة بأكثر من شكل ضد الظلم والأخطاء ، وضد كل ما هو قبيح أو لا يمت إلى جمال الحياة بأدنى صلة .
تلك الصرخة هي صرخة الوليد محمد عبد الباري المطل على الوجود دونما يلقي عليه أبيه نظرة إلى وجهه ، أو حتى يسمع صوته .
لم يكد ينقضي الأسبوع الثاني من عمر الطفل حتى خشية عليه امه من عساكر الإمام المترددة على القرية للبحث عن أبيه فاضطرت على تقميطه داخل قماشة ، وقبل أن تتبين خيوط الفجر البيضاء من بقايا خيوط الليل السوداء خرجت حاضنة لحمته الطرية بين ساعديها إلى عند أهلها بقرية المعامرة شمال شرق قدس .
لينمو الطفل محمد ويترعرع في كنف أخواله ، وبين روابي ، وأودية قدس الخضراء والطبيعة الساحرة التي يصفها بالغير عادية كلما تذكر مرحلة الصبا .
بين تلك الروابي ، والشعاب ، والأودية ، والأحوال ، وشواجبها ، وأسوامها ، والغيول ، والمواشي ، والعيل / الحمام ، والطيور المختلفة الأشكال والألوان ، والتي انقرضت مثل كل شئ جميل في هذا الوطن .. وبين مهاجل الزراع ، وزوامل العمار المنتشية ، ورقصات الأفراح ، وأغاني الرعيان الحزينة .. بين ومن كل ذلك تشكلت عبقرية الأماكن ، وكائناتها الطبيعية في ذاكرة الصبي إلى حد التناغي والتماهي .
في العارضة عرفت عنترة والبهلوان والزير سالم
وكما أكد لي " كانت أسرة أخواله مستنيرة " .ولذلك من الطبيعي أن تكون والدته امتدادا ، وحاملاً لصفات اسرتها فما أن خَسِر أول أسنانه حتى ألحقته بالمعلامة بقرية العارضة التابعة لبني حماد ، وهي قرية تقع بين الصلو وقدس عند الفقيه على محمد الحميدي الذي يعتبره الفتيح أول من زرع فيه القيم ومعاني الحب والخير والجمال .
وبفخر ممتزج بحنين يؤكد أيضاً أن أمه كانت أول من شجعه على حفظ الشعر فكانت تعطيه كل شهر ريال ليحفظ قصائد عنترة بن شداد .
يقول : كانت القصائد الرائعة لعنترة هي التي جذبتني جذباً ، وشدتتني إلى الشعر ، وإلى جانب الفقيه كان على محمد عمر أحد أقاربه يقوما بتحفيظي الشعر الشعبي والقصائد الأسطورية لعنترة ، وحمزة البهلوان ، والزير سالم ، وقصائد المقداد .
توكل على الله دوَّر على والدك
وهو يقلب الورقة الحادية عشرة من عمره اختتم قراءة القرآن في المعلامة ، وفي ليلة ربيعية من ليال 1943 م عصفت به عواصف الشوق إلى حبيب يسمع عنه ولكنه لا يعرف حتى ملامح وجهه .. يسمع من امه ، وأخواله أنه يشبه أبيه كثيراً .
عن أبيه الغائب خلف البحر منذ إثتى عشرة سنة دار نقاشه مع أمه ليلتئذ التي ظلت تتطلع صوبه ، وكأنها تتملى فيه مكامن الرجولة .
الله يا اخي كأنها كانت تتحفظ كل شئ بي عن ظهر قلب .......... (يمسح دمعة لم يستطع مواراتها ) .
قلت : المعذرة يا عم محمد أرجو ألا أكون قد نكئت مواجع الذكريات .. ما رأيك نغير الموجة ؟
لا لا لا .. بالعكس أنا فرح بزيارتك لي ، وأنتظر هذه الجلسة معك منذ وقت طويل .. أنت من القليلين الذين أسمح لهم " يبجشون يفتحون ) دفاتر الذكريات .
واستتلى مواصلا ذكرياته :
المهم يا خي قامت من جانبي ، وفتحت حقها الصندوق الخشبي ، وأخرجت منه ريال ماريا تريزا مدته لي ، وهي غير قادرة على حبس دموعها قائلة :
والله يا بني رحيلك من أمامي صُعِيب .. صُعيب على قلب الأم مفارقة الولد ، لكن هذه إرادة الله ، وأنت قدك راجل .. توكل على الله ، وسر دور على أبوك ، هذا ريال ماريا تريزا خذه حُرستك » .
محمد .. الله
لم يقوى على سرد تفاصيل الوداع الأول مع أمه لذلك .. توقف متملياً .. وهو يضحك بملء أساريره .
قلت له : أيوه من بكاء إلى ضحك ............. فازداد ضحكاً .
أصلاً حاولت الهروب موقف توديع أمي يوم سافرت إلى عدن .. واستذكرت موقف اللقاء الأول مع أبي ، وهو موقف أبكى كل من كان موجود بالمطعم .......... يطرق بوجهه إلى قاع الغرفة ، يجتر نهدة من أغوار قلبه المترع بالصدق والحب ، وأوجاع بضعة وستون سنة .
عندما وصلت عدن .. نزلت بمطعم .. ولم يكن أبي عنده خبر أنني سآتي إلى عدن .. وفجأة ظهر رجل مربوع القامة أمام المطعم .. انتابني يا أخي إحساس غير كل كياني ، كنت أكلم نفسي .. لماذا هذا الشخص الوحيد الذي شدتني كل المشاعر ناحيته .. وتمليت في ملامحه .. تذكرت من انني اشبهه .. غير أنني فشلت عن تقدير الشبه .. دارت بي الدنيا والأشياء ، ولم أصحو إلا على صوت صاحب المطعم ، وهو يقول له : معك ضيف .
ضيف ؟
ضيف عزيز لأول مرة تشوفه .
تطلع الرجل في كل الذين بالمطعم بانتباه ، ونباهة ، وبأناقة لم أراها على أحد قبله أو بعده حتى استقر وجهه فوقي ، وفجأة برقت فوق فمه ابتسامة اتسعت لتشمل كل وجهه ، اضاءت كل شئ تلك اللحظة قدامي خاصة عندما بوقت واحد احمرت عينيه ، واتسم فمه ونطق لسانه اسمي :
مُحمد ... الله
لم تسعني الدنيا .. كنت أريد ان أنطقها قبله .. أبي .. لكنني استعجمت ، واعتقرت فوق الكرسي .. إلى أن قال لي صاحب المطعم .. قم سلم على أبوك ... خطونا نحو بعض ، واحتضن كل واحد منا الأخر بشدة .. لم أكن مصدق أنني أخيراً رأيت وجه أبي وسمعت صوته ، وشممت رائحته ، وأنا الذي كان يرسمه بصور لا حصر لها منذ بدأت أعي أن لكل طفل أب .
من طالب إلى أُسطى
ذلك الموقف لن أنساه والموقف الثاني عندما أراد تسجيلي في أحدى مدارس عدن ، ورفضت المدارس البريطانية قبولي لأنني كنت من ابناء الشمال ، لا تقبل غير مواليد عدن فقال لي :
والله لَقَطَّع من جسمي لحم وابيع من أجل تدرس .
هذه الجملة ظلت تسايرني وتلاحقني طيلة سنوات عمري .. أبن ما أقيم يجب ان اواصل دراستي .
أخيرا استقر به المقام الجديد في حضن والده الذي كان يقوم إلى جانب عمله مؤذناً في جامع أبان ، والتحق بمدرسة النجاح بحارة الزعفران بعدن المرحلة الابتدائية ، ولأنه كان يجيد القراءة والكتابة ، وعمليات حساب الجمع والطرح التي سبق أن تعلمها في معلامة القرية فقد اختبرته المدرسة ، وأدخلته الصف الرابع الابتدائي يكمل الابتدائية العام 1946 م ، ولما تكن هناك مدارس إعدادية حينها لقبول أبناء الشماليين في عدن اضطر التوجه للعمل في مجال البناء ، والبلاط ، ومن زملائه الذين كانوا أساطية وظل يتذكرهم بوفاء منقطع النظير عبد الرب علوان الذي صار من كبار موظفي وزارة الخارجية ، و الاستاذ علي نعمان ، وعبد الجليل قائد حيدر الذي كان يحفظ اشعاره كما لم يحفظها هو نفسه حد تعبيره .
وفي هذه الفترة المبكرة تفتقت مداركه الأولى على الحياة ، وتشكلت علاقاته الاجتماعية .. تعرف على محمد مرشد ناجي في الشيخ عثمان ، وعلى صحيفة الفضول ، وغيرها من الصحف التي كانت تصدر في عدن ، و حضر بعض فعاليات حركة الأحرار اليمنية التي كانت تنشط في عدن ، وقرأ أدبياتها .
العودة إلى القرية
مع مطلع الخمسينيات يعود الأب عبد الباري الفتيح إلى القرية بعد ان اطمئن أن الابن قد صار شاباً ، وأسطى للبلاط في عدن ، ويتمتع بشخصية اجتماعية ، ومحبوبة من قبل الجميع .. عاد الأب بعد أن طوى النسيان ، والسنوات في أعطافيهما حكاية مقتل المفضل ليمكث في القرية مدة ليست بالقصيرة تعويضاً للسنوات الغياب التي عاشها بعيداً عن أسرته .
وفي ليلة من ليالي منتصف عام 1952 م ، وبينا قرية حنحن ترقد في حضن جبل الكدرة عزلة المكيشة بصمت وديع ما عدا نباح كلاب راحت تقض سبات القرية الهادئ على إيقاعات خطوات شاب راح يخترق ممرات القرية المتعرجة بثقة العارف بطرقها المتعددة .
أخذت الكلاب تزفه ، وتتكاثر ، وترابط خلف الحوية رافعة من ثورة نباحها ضد الغريب القادم .
نحى ( الزربة قطعة من شجرة شوكية يابسة ) جانبا ليدخل فناء الحوية ، وقبل أن يطرق الباب تريث قليلاً لأخذ قسط من الراحة .. يسمع صوتها من الداخل :
تقول : على من الكلاب الليلة تنبح ؟ ......... كانت أمي تسأل والدي .
الله يعلم على من ؟
أقولك : المِحفى اليوم ما فارقش يدي من العصر
إن شاء الله يكون خير .
ابتسمت لسماعي حواريهما الدافئ ، وتواً طرقت الباب طرقة واحدة .. وكأنها كانت تنتظرني رغم أنني حاولت ما أردش من أول مرة وهي تسأل : منو عند الباب ؟
أنا .. أنا
هذا كأنه صوت إبنك .
محمد
بشحمه ولحمه .
ونزلا الاثنان يفتحان الباب ..................... تخيلت معه الموقف وذهبت أشاطره البكاء والدموع الصامتين ......... يكمل قصة عودته .
شوق جارف ، تخيل تركتها وأنا عمري 12 سنة ، وأنا طفل ، وعدت إليها في سن بالعشرين .. شاب مضلع ملء هدومه .. يوم ودعتها كان طولي ذراعين ، وعودت إليها وأنا بالشارب واللحية وبأناقة .
احتضنتني وأخذت تقبلني إلى حد أن عمك عبد الباري الفتيح قال لها :
يكفي خلي لي قليل معك منه .
استيقظ البيت ، والبيوت المجاورة ، ولم نبت تلك الليلة .
بعد ثلاثين سنة ، وأثناء قيام الفتيح باستذكار هذا الموقف قام أحد المذيعين باستلهامه وكتابة نصه وتأدية دور بطله في حلقة إذاعية درامية واحدة استمرت تبث بين وقت وأخر على مدى عقد الثمانينيات من إذاعة تعز .
وعندما سألت الفتيح عن سر تطابق تلك الحلقة الإذاعية مع نفس حكاية عودته من عدن لم ينفي استلهام الكاتب بالإذاعة القصة من حكايته مع فارق بسيط هو أن الكاتب لم يحدد فقط اسم القرية ولا الأسرة .
منظر ووصية لا ينسيان
لم تدم فترة إقامته في القرية كثيراً ، وبعد مشاورة ذاتية استشار أبيه بما نوى عليه .. الهجرة إلى السعودية .. فقد كانت المؤشرات بائنة .. الذين يهاجرون إلى دول الخليج أمورهم ، ومظاهر حالات أهاليهم المعيشية ميسورة على نحو أفضل من الذين يعملون في عدن .
الأمر الأخر هو أن الشاب يطمح بمواصلة دراسته التي انعدمت فرصها في عدن .
في نفس الوقت كان أبيه يتهيأ للعودة إلى عدن للعمل .
وبمرارة الشجن يتحدث الفتيح عن ذلك اليوم الذي خرجا فيه راحلين هو إلى السعودية ، وأبيه إلى عدن .
كان الاهالي فوق سقوف دور القرية ، ومنازلها يتطلعون صوب الأب ، والإبن المهاجرين فبين ملوح يديه بالوداع ، وبين داع ( الله يرجعكم سالمين غانمين ) .
الله يا خي .. لن انسى منظر ذلك اليوم خصوصاً منظر أمي التي أبت واستكبرت إلا بالخروج لتوديعنا إلى خارج القرية .. كم أشفقت عليها وهي تعانقنا عناق الوداع وهي بحال لا أقوى على وصفه الآن .
وحتى لا تسمع وصيته ، أو ترى منظره ابتعد بي بضعة خطوات عنها ، وقال : شوف يا إبني ، وبحق حبك وطاعتك لهذه الإنسانة لا تكسر قلبها ، وتغيب كثيراً حتى لا تعيش حياتها مكسورة القلبها مرتين .
في بداية شبابها حرمت من زوجها ، فلا تحرمها بقية عمرها من ابنها الوحيد .. يكفي أن تغيب سنتين فقط ثم ارجع لنفرح ، ونجبر قلبها بتزويجك .
القرار الذي أودى بمشروعه الاستثماري
لم يك الشاب محمد الفتيح ممن يضيعون الوقت فما نزل بالسعودية حتى وجد لنفسه عملاً في الجص ، راح يضع الريال فوق الريال إلى أن توفر مبلغاً لا باس به ، واستدان فوقه مبالغ أخرى من يمنيين فتح به معمل من عدة مكائن ، وأقمشة للخياطة ، وما أن بدا في العمل حتى صدر قرار ملكي قضى ذلك العام بسحب التراخيص ومنعها لغير السعوديين .. اضطر إزاءه ببيع المعمل بنصف القيمة لإعادة المبالغ التي كان قد استلفها .
ومع ذلك انتصر
صحيح أنه تأثر عند تطبيق القرار المجحف غير انه لم ييأس أو ينهزم فقد انتقل إلى منطقة الشرقية وهناك يستقر به المقام بمدينة الخبر حيث يعمل في مهنتي البناء ، والبلاط قبل أن يتفرغ للأخيرة التي صار فيها معلماً محترفاً ، وفرصها اكثر إذ كانت السعودية حينها في بداية نهضتها العمرانية .
ينتصر الفتيح على الظرف العابر لأن الغاية عنده إلى جانب العمل كانت كبيرة .. مواصلة الدراسة بدليل حرصه على أخذ شهادات دراسته في عدن التي تثبت إكماله للمرحلة الابتدائية .
يلتحق بالمعهد الثقافي بمدينة الخبر 1954م ، وكمعلم أو اسطى للبلاط فقد كان يأخذ مقاولات خاصة به تعتمد على حجم الإنجاز ، لا على الدوام .. استطاع الجمع بين العمل والدراسة .
ومع نهاية العام الدراسي الذي أكمل فيه بنجاح الصف الأول الإعدادي ، وكان قد وفر مبلغاً محترما .. ولما لا تكاد وصية أبيه يوم غادر القرية تفارق ذهنه .. يفزع إلى تجهيز نفسه للسفر ، وكما يقول حتى لا أكسر قلب امي " الله يرحمها " .
يوم قاد الفتيح اول مظاهرة عمالية في السعودية
يعود الفتيح ثانية إلى السعودية بعد ترك خلفه في اليمن أبيه الذي قال له وهو يودعه :
لا داع لأن تعود للعمل في عدن .. ستصلك (صدارة ) كل أول شهر تعيشك أمير .. خليك هنا في القرية تباشر احوالك وشعابك ، وترعى الوالدة ، والزوجة ، وحلفته يمين ألا يعود لعدن من اجل العمل .
يعود الأسطى إلى الشرقية .. ينهمك في الدراسة فيكمل ثاني ، وثالث إعدادي ، ولأن طبيعة مهنته لا تتطلب دواما انظباطياً فقد كان يصرف أوقات الفراغ فوق قراءة الكتب الثقافية .
وفي هذه الفترة قرأ كتب التراث وأصولها ، وآدابها .. ليغدوا احد اهم الشباب اليمنيين المثقفين في الشرقية ، ومن الذين يرجع إليهم لأخذ مشورتهم .
يعلم متأخرا بموت والده فقد كانت ظروف التواصل والمراسلات ذلك الوقت مرتبطة ب ( الطبل) أو المسافرين .
يقرأ في صحيفة سعودية مقالة هاجم فيها كاتباً العمال اليمنيين ، بالسب والتنقيص .
موقف لم يروق للفتيح المعجون من عصارة التراب اليمني ، والكفاح الإنساني ، والسمو الاخلاقي ذو الرواسب الحضارية الممتدة في اطناب العصور والدهور .
يتساءل : لماذا يسب هذا الصحفي اليمنيين ؟ إذا كان لا يوجد لهم وطن يعزهم بسبب حكامه ، ومحتليه فلا يحق للصحفي أن يقلل من شأنهم .
ذهب للصحيفة ، وطلب مقابلة الصحفي فقط لمناقشته ، وعندما رفضوا السماح له بمقابلته أو تقديم اعتذار لليمنيين عاد ، واخذ يلملم العمال في الشرقية ، ويستحث فيهم العزة والكرامة حتى تجمع عدد لا يستهان به في دولة يحرم فيها التعبير بالتظاهر والاحتجاج أو باي شكل من الأشكال ، وتواً اتجهوا إلى امام بوابة الصحيفة مطالبين الصحيفة ، والصحفي بنشر اعتذار عن السب .
ألقي القبض على الفتيح وبعضاً من الذين ساعدونه آمرينهم بمغادرة ارض المملكة على وجه السرعة .
ليكتب أول قصائده السياسية التي يعتز بها أيما اعتزاز معبراُ فيها بشجاعة ، ووطنية نادرتين وهي قصيدة غير مطبوعة في ديوانه المطبوع ، ومن شدة حبه لهذه القصيدة لم ينساها بتاتاً .. بل أنه وهو يقراها يخرجها بجرس موسيقي يمزج بين الحب ، والاعتزاز بالوطن ، والكرامة ، والهامة المرفوعة الراس .
" سأعود يا أنشودتي "
سأعود يا أنشودتي لا تعجلي
سأعود يا حلم الفؤاد
ويا رؤى المستقبل .
سأعود فالفجر المؤمل يا مناي لاح لي .
أنا من دمي قد صغت فجري
كي أعود لمنزلي .
رصي عقود الفل يا هذه
وتيهي .. هللي .
واستقبلي الزحف المظفر زغردي للجحفل .
ها نحن نبعث من جديد فابشري وتفائلي .
ها نحن نطوي الليل .. ليل الظلم .. ليل الباطل
ليل يمتص دمي باسم الكتاب المنزَّلِ
بنوا القصور لهم ، وللدخلاء .. لكل مضلل
هم شيدوها من رغيفي .. من كفاحي الأنبل
من بؤس من قد هاجروا .. من كبريائي السائل
ليخططوا فيها رغائب من عليهم يعتلي .
ليمزقوا فيها العروبة كي أعيش بمعزل .
لن تخلو نار الحقد في قلبي .. فهاهي تصطلي
إلا إذا ديست جباه العابثين بأرجلي .
وغداً
وغداً
وغداً سأعود
لأنني سأموت إن لم اقتلي
..............................
وحين يكمل الفقرة الأخيرة .. يعقبها قائلاً : الفقرة الاخيرة استلهمتها من شعر عنترة بن شداد إعتزازاً بشعره ، وامتثالاً لشجاعته وليس لطشاً كما يفعل كثير من شعراء هذه الأيام .
وكانت عودته إلى اليمن مع نهاية عقد الخمسينيات .. مكث عاما ، وعدة شهور في القرية يقوم خلالها بتدريس أبناء القرية دروساً غير تقليدية كما كان سائداً في الكتاتيب / المعلامة .. حيث درسهم القراءة والعمليات الحسابية الأساسية إلى غير ذلك مما كان يسمح به مقتضى الحال ، وإلى جانب التدريس يبتل ، ويحرث ويسقي وينقي ، ويجهش ، ويحصد ثمار أحواله ، ويجالس فيه أعمامه ، وأخواله ، والرعية ، ويتعلم منهم حساب الزراعة ، ونجومها ، ومعالمها ، وتواقيتها علاوة على استلهام موروث الأمثال الشعبية ، الزوامل ، والمهاجل إلى اخر ذلك من مكونات وتشكلات ذائقته الشعرية المعجونة من عرق الجبال ، ورائحة الأمطار ، وأصوات الغيول ، وحنين الحقول ، ورقصات الاشجار ، ونشوات العمار ، و دوادح الرعيان ، ومواويل الأبتال ...............
باستثناء العام 1959 م الذي قضى معظم شهوره في قريته كما أسلفت يكون عمره 26 سنة عاش أكثر من نصفها .. 14 سنة متجرعاً مرارة الهجرة و الاغتراب في عدن ، وبعدها السعودية يدرس ، ويعمل ، ويثقف نفسه ، ولم يهنأ باجتماع يشمله مع كل اسرته سوى أوقات من السهل حصر عدد أيامها .
12 سنة طفولة مع امه ولا يعرف وجه أبيه .. ثم بضعة سنوات مع أبيه دون امه .. فغربة عنهما الاثنان معاً .. وما أن يحاول إلزام أبيه بالبقاء في القرية يغادره دونما يودعه الوداع الأخير .. ومثلما لم ير ابيه وجهه حين جاء إلى الحياة غادرها دونما يكون وجهه أخر من يودعه .
العودة إلى عدن
يعود محمد عبد الباري الفتيح إلى عدن عام 1960م بعد أن مكث عاماً في القرية ، يعود إليها بمستوى معرفي وثقافي أكبر مما كان عليه حين ودعها قبل سنوات ثمان .
وتواً يعود إلى مهنته كأسطى ، ومتعلم ، وكشاعر معتبر .
يلتحق بالمناشط والمنتديات الأدبية كشاعر ، وبالفعاليات النقابية كعامل ، وينضوي في النقاشات الوطنية ، والسياسية كسياسي تأطر بحزب الشعب الاشتراكي (فرع حزب البعث باليمن ) الجناح اليساري الذي خرج فيما بعد من جسد البعث باسم حزب الطليعة الشعبية في الشمال والجنوب ، وبعد ذلك اندمج الفرعين الأول في حزب الوحدة الشعبية مع بقية فصائل اليسار في الشمال ، والأخر مع الجبهة القومية في الجنوب .. ليندمج الجميع في إطار الحزب الاشتراكي اليمني ( فقط استدللنا بذلك لإثبات نضاله السياسي في إطار الحركة الوطنية ) .
وعلاوة على كل ما سبق أن تناولنا في سيرته كان الأصل فيه أنه خلق ليكون متمردا على ما هو خطأ بطريقته الخاصة .
في هذه الفترة تقوت أواصر العلاقة بينه ، وبين الشاعر الكبير محمد سعيد جرادة ، وإدريس حنبلة ، وغيرهم من الشعراء وتوطدت علاقته بالفنان محمد مرشد ناجي اكثر واتسمت شعريته في هذه المرحلة بالسمة السياسية المصبوغة بلهجة تعزية لا تتناسب مع القصيدة السياسية الغنائية التي كانت مطلوبة في عدن في تلك الأيام تحديدا ، وهو ما يفسر عدم غناء الفنان المرشدي له حينها ، والذي كان يبحث عن قصائد يغلب عليها طابع الفصحى ، أو اللهجة العدنية ناهيك عن أن مدة إقامته في عدن لم تصل حتى ثلاثة سنوات كان يتخللها العودة إلى القرية والمكوث فيها لفترات طويلة خصوصاً في موسم الصراب / الحصاد ، وهي فترة عاشها الفتيح متوزع بين العمل ، و المثاقفات الأدبية ، والنضال النقابي ، والسياسي .
وكانت الأحداث خلال هذه الفترة على اشدها على كل الاتجاهات والمستويات الوطنية ، والقومية ، والحركات التحررية تتسع وتتعاظم في أوساط الجماهير الواعية خاصة العمالية ضد الاستعمارين الداخلي ، والخارجي .
وكان الفتيح واحداً ممن تجرعوا مرارات كلا الاستعمارين وظلمهم ، وربما من القليلين الذين دفعوا الفاتورة من حياتهم ، وحياة أهاليهم كما عرفنا في الحلقات السابقة من سيرته الكفاحية .
التنبؤ بثورة سبتمبر
أما عن كيفية تنبؤه عن ثورة سبتمبر بقصيدة الزحف استشفها من الأنباء القادمة من تعز بشكل متصل منذ شهر ( يعني في أغسطس ) 1962 م ، وكلها تؤكد انفجار الوضع داخل المدرسة الأحمدية في تعز ، وأن الشباب تهتف ضد الإمام وتناد بالجمهورية ، وان الإمام أغلق المدرسة على الطلاب الذين يتحدونه ، وان المواطنين وقفوا بشجاعة إلى جانب أبنائهم وبالذات النساء ، والتجار الذين بادروا إلى إمداد المعتصمين بالماء والغذاء .
وقد ارخ لتلك الأحداث الأخ العزيز محمد محمد المجاهد في كتابه " تعز غصن نظير في دوحة التاريخ العربي "
وقبل اسبوع تقريباً من ثورة سبتمبر أعلنت إذاعة صنعاء أن الإمام “مات ” .
ويوم 24 سبتمبر أذاع عبد الرحمن جرجرة الله يرحمه بيانا بعد نشرة الساعة الثالثة عصراً ينذر اليمنيين الشماليين بالحبس تمهيداً لترحيلهم للشمال إذا لم يشاركوا بالزحف على المجلس التشريعي للحيلولة دون ضم مدينة عدن للاتحاد السلاطيني .
وكان معي ذلك الرجل العظيم عبد الله علي مرشد .. كتبت بجانبه القصيدة مباشرة بعد استماعنا لبيان " جرجرة " .. قصيدة تعبوية تصف هذا التهديد بأنه قيد من القيود أشبه بقانون فيلوز الذي يمنع المظاهرات والإضرابات .. ، وفي الساعة السابعة مساءً توجهنا الاثنان معاً ألى ساحة المؤتمرات وهي من القصائد غير المنشورة في ديوان مشقر بالسحابة قلت فيها :
قصيدة الزحف
هم قيدوني وانا من قيدهم با سخر
بازحف ، وزحف الكادحين هيهات ان يقهر
بازحف ، وباتحدي الاستعمار والعسكر
بازحف ، وباتحدى من انكرني وأستكبر؟
بازحف لِأني على عيش الهوان ما اقدر
بازحف لأني بشر باقابل الشر بالشر .
ليش باهادن ؟ و ليش باذعن ، و باتصير؟
وهذي بلادي وانا في خيرها أجدر
والقصر قصري ، وانا اللي افرش المرمر
وانا اللي ابني الحجر ، وانا اللي اتكسر
وانا اللي أهده يوم ما اغضب ويوم ما اثأر
على رؤوسهم ، ومن حذر فقد أنذر
ليتك معي اليوم يا بومبل في المحشر
ليتك تشوف طاقات الجمهور تتفجر
تهتف تردد نشيد صباحها الأزهر
حبي لشمسان ما يوصف ، ما يتصور
موتي على رمل صيرة حلمي الأكبر
ليش بالبيانات تنذرني وتتبختر ؟
بيانك الزفت عن رأيك
فقد عبر
أما ابن صيرة اخي .. ضلعي اليمين .. ضلعي الأيسر
يُرِدنِي .. يهتف
لا شيخي .. لَا أبو معجر
وإنما الشعب هنا صحى ليتحرر
و احنا ملايين وقت العد خمستعشر
من الصليف ربعنا حتى الجبل لخضر
وربعنا هذا ما يُزرع ولا يُعمر
إلا بكد الشريف الصابر الأسمر
.......................................
مش انت يا لص .. مش جوشي ولا فشار (الجوشي هو الهندي في عدن )
غداً أحبائي بانغضب ، و بانزأر
و بانهز الدنا كالريح إن صرصر
غداً مصيرنا هنا يا قوم يتقرر
هنا .. هنا .. مش بلُندن مش بمانشستر
يا شعب أمنت بك جبار لا يقهر
يا شعب عابرت بك بركان يتفجر
و جيت اشعل فتيل جيت لك اشعر
قطعت عهدي معك اني ما بتاخر
عنك ، وانا
ابنك وحاشا الابن يتنكر
فا شهد على ابن الفتيح شمسان إن قصر
الفتيح ضمن الطلائع الاولى لحماية الثورة
وبعد يومان اسقط الضباط الأحرار الإمام البدر في صنعاء ، وزحفت جماهير الشعب لحماية ثورة سبتمبر ، وكان الفتيح ضمن الذين عملوا على تعبئة الجماهير للالتحاق بالثورة ، ومن أوائل الطلائع التي اتجهت إلى تعز تاركين أعمالهم من أجل الدفاع عن الثورة والنظام الجمهوري ، وتدرب ضمن مجموعة من الشباب في صالة اتجهت صوب صنعاء .
بعد بضعة شهور اختير الفتيح الذي كان يحمل مؤهل الإعدادية مع أمثاله من الشباب ابتعثوا للدراسة في مصر في الكلية الحربية ، بدراسة مكثفة اقتضتها طبيعة المرحلة تلك
بنفس الفترة التي ضمت (عبد الرقيب عبد الوهاب ، ومحمد مهيوب الوحش ، واخرين ) ممن حصلوا هناك على التدريب والتأهيل في المعادي .
يقول الفتيح على الرغم من انه حاول التكيف مع الحياة العسكرية في مصر غير أن المضايقات التي تعرض لها لكونه كان بعثياً جعلته يتجه صوب دمشق بحثاً عن فرصة مستقبلية افضل .
كان أينما يتجه يحمل شهاداته بحقيبته .
من القاهرة إلى دمشق إلى المجر
سجل في إحدى مدارس دمشق الثانوية وتقريباُ اجتاز أول ثانوي ، وثاني ثانوي " 63/64 "
بعام واحد تقدم في السنة التالية لإختبار البكالوريا/ الثانوية العامة .
وما ان أعلنت نتيجة اختبارات الثانوية العامة حتى كانت هناك عدد من المنح من دولة المجر مقدمة لرابطة الطلاب العرب المقيمين في سوريا حصل على واحدة منها إلى جانب طالب من سلطنة عمان ، وطالبين من فلسطين ، وتواً اتجه إلى دولة المجر التي درس في جامعتها بقسمين .
التحق عام 65 / 66 م ب «قسم التاريخ والآداب السامية » ، وأضاف في العام التالي « قسم الآثار » إلى تخصصه ليتخرج من الأول في 69 م .
حتى وهو في المجر يدرس في جامعة " أدفش لورند " كان الطالب اليمني وربما العربي الوحيد الذي يعمل ليسد النقص من احتياجاته !
وهناك تعرف على الفنان التشكيلي ، والشاعر "عبد اللطيف الربيع " الذي يصفه بمبدع كان يمكن أن يكون علامة فارقة في الشعر الحديث وبموته في بداية التسعينيات خسر الوطن واحداً من أبرز المبدعيين اليمنيين .
مع الفيلسوف جيورجي لوكاتش
قاده الحظ في المجر إلى ان يتعرف على الفيلسوف العالمي جورج لوكاتش أحد أهم الفلاسفة في القرن العشرين وأحد أهم علماء الجمال والنقد الأدبي في العالم ، ناهيك عن أنه كان وزيرا للثقافة في المجر عام 1918م ، ومن المنظرين الماركسيين الكبار .
يقول الفتيح :هذا الرجل ساعدني كثيراً على تذوق كل ما اراه من شئون الحياة ومن عوامل ، وعناصر الطبيعة بملاحظاته .
وعندما تعرف الفتيح على لوكاتش كان الأخير قد تجاوز الثمانون عاماً ، وعلينا أن نتخيل نتائج الجلوس مع أحد فلاسفة العصر وأدبائه ومفكريه على من يجلس إليهم .
لهذا كنت من المحبين الجلوس مع الفتيح ، والجابري لما يتحصلون عليه من جهاز ثقافي كبير ، يمكن أن نطلق عليه جهاز الحكمة .
توجيه لوكاتش للفتيح بتذوق جمال عناصر الطبيعة هو الذي جعله يمتزج بكل شئ عاشه في حياته .. هو الذي جعله يختط أسلوبه الشعري على النحو الذي لا يشبه أحدأ فيه .. أسلوب اختطه في فلسفة محمولات قصائده الغنائية والاجتماعية ، والمعبرة عن انعكاسات مواقف الحياة عليه .
تجلت كل تراكمات تجارب حياته المصبوغة بالكفاح ، والنضال ، والغربة ، والتحصيل المعرفي ، والاختلاط مع الحضارات والثقافات في عمقية نصوصه التي بدا يكتبها في السنوات الأخيرة من عقد الستينيات خصوصاً بعد أن التفتت الثورة ناحية أبنائها الحقيقين تلتهمهم كالقطة وهم الذين حرسوها وضحوا في سبيلها بدمائهم .. يؤكد الفتيح على ذلك بقصيدة " الليل يا بلبل دنا "
يقول الفتيح لم يكتب هذه القصيدة دفعة واحدة ، وإنما على مراحل .. المطلع " الليل وا بلبل دنا / غلس واسمر عندنا " استوحاه في العام الذي مكث فيه بالقرية 59م ، ومقطع " الرجال أنووا الرحيل " كتيه وهو يدرس في سوريا "
وبقية المقاطع تخمرت على إثر احداث أغسطس 1968م في صنعاء والتي تآمرت فيها القوى التقليدية على طلائع التغيير الثورية وراح ضحيتها خيرة ابناء اليمن بين قتيل ، وهارب ، وسجين .
لقد ترجم الفتيح بعدد من الكلمات ملحمة الخيبة الوطنية الكبيرة التي مني بها التواقيين للتغيير حينما قال :
" كلنا سقى وبتل( أي جميعنا حرث واهتم بإرواء حقله)
كلنا كان له أمل يجني من كده عسل
وما جنى غير الضنى .
وكلنا ( أي جميعنا) تعني الشعب .. سقى / تعني أروى بدمه الأرض ، والأرض هي اليمن ، والحرث هنا هو النضال ، و كان له أمل يجني من كده عسل (أي يحصد من كد النضال والتضحية عسل الحياة أي لذيذ حلوها ،وما جنى غير الضنى أي ما حصد غير التعب .
وهذه القصيدة تعد أحدى أولى القصائد الرائعة التي قدمت الفنان الكبير عبد الباسط عبسي للجمهور بلون جديد راق من حيث الشكل ، والمضمون الشعري الغنائي غير مسبوق في الأغنية اليمنية .
البلبل يعود إلى وكره
رغم حصوله على مقعد مجاني لدراسة الدكتوراه غير أنه عاد إلى اليمن على جناح السرعة .. فقد كانت وصية والده لا تكاد تفارق وجدانه وليال أيامه
" لا تجعل قلب هذه المخلوقة يعيش الحرمان مرتين .. مرة حين فقدت زوجها في شبابها ، ومرة حين تفقد ابنها في كبرها " .
يعود أبن الثامنة والثلاثون عاما بينها قرابة ربع قرن عاشها مهاجراُ مغترباً جامعاً بين العلم ، واكتساب المعيشة ، والأداب ، وتعارفات للبلدان وثقافاتها وحضاراتها وموروثاتها ، يعود الفتيح الذي من عدن تعلم الإنكليزية إلى جانب لغته العربية ، ومن المجر باللغة الهنغارية يعود البلبل إلى وكره ليس كما غادره أول مرة .
يعود في العام 1970م أثناء رئاسة القاضي عبد الرحمن الإرياني البلبل محمد عبد الباري الفتيح بمؤهل جامعي وصادفت عودته تشكيل لجنة النقد اليمنية التي كان رئيسها أبو الاقتصاد اليمني د . عبد الغني علي الحروي ، وإلى جانبه الزعيم الوطني خالد الذكر عبد القادر سعيد الأغبري وعدد أخر لا يتناسب المقام هنا لذكرهم .
كما صدور قرار جمهوري بنفس العام نص على تأسيس البنك المركزي اليمني ، تقدم الفتيح على إثره بملفه للجنة النقد التي اختارته ليكون ضمن الفريق المكلف بتأسيس أول فرع للبنك بمحافظة تعز بالتزامن مع تأسيس البنك المركزي في صنعاء عام 1971م .
بمجرد تأسيس البنية الأساس لفرع البنك بتعز بقيادة عبد القادر سعيد الأغبري ، اختير الفتيح ليقوم إلى جانب عدد من الموظفين بتأسيس فرع الحديدة الذي تجاوزت اهميته المركز الرئيس بالعاصمة لكون الحديدة الميناء الأول للجمهورية العربية اليمنية ، ومركز حركتها التجارية .
لكنه لا يلبث غير مدة قصيرة ثم يرجع إلى المجر لتقديم بحث التخرج في " قسم الأثار " الذي بموجبه نال بموجبه مع تخصصه السابق درجة الماجستير.
و لأنه كان قد ترك زوجته الأولى في بداية الستينيات كإنسان يعلم ان مستقبله هو الكفاح بكل ما تحمله هذه اللفظة من معاني شاملة الكفاح ضد الظلم ورموزه ، والكفاح من اجل العلم ، والكفاح من أجل القيم السامية ، والكفاح في التعبير الادبي العضوي ، وهي صفات تجعل كثير من المبدعين يطلقون الحرية لزوجاتهم حتى لا يتعذبن معهم بنضالاتهم اللانهائية .
وأمام إصرار أمه على ضرورة تحقيق رغبتها في الزواج يتزوج الفتيح ، ويستقر به المقام في مدينة الحديدة .
الفتيح يدخل السجن السياسي
اتسمت الفترة بين 1971م ، و 1975م بالفساد السياسي ، وما يترتب على هذا النوع من فساد من انعكاسات تعم كافة جوانب الحياة الأمر الذي فرض على القوى السياسية أن تعمل في السر ضد ذلك الواقع .
وكان طبيعي أن يكون الفتيح من ناحية المتمرد بطبعه ضد الظلم والواقع الفاسد ، والمسكون بحب الطبيعة الإنسانية الجميلة ، والطبيعة الربانية من ناحية ثانية ، والسياسي المنتمي إلى فصيل قومي اشتراكي من ناحية ثالثة ، والمؤهل علمياً في دولة اشتراكية شرقية (المجر) ، وتعرف على أحد كبار فلاسفة القرن العشرين جيورجي لوكاتش وعلى فلسفته ، وأدبه وثوريته .من ناحية ثالثة ، ولكونه أديباً ثائراً من ناحية رابعة .
من كل تلك النواحي والاتجاهات كان طبيعي أن يكون الفتيح واحداً من الرافضين للواقع ومن يتحكمون في إدارته .
فكان يلتقي بالسياسيين المنظمين في إطار حزب الطليعة اليساري في الحديدة ، وينظم الحلقات الفكرية والتربوية ما جعل السلطات تلقي القبض عليه ضمن الخلايا الطلائعية السرية عام 1972 م بحجة تحريم الحزبية كما كان سائداً في تلك الفترة.
شاعر يكتشف فنانا
اثناء ما كان الفتيح يعمل في البنك بالحديدة ، وعبر أحد اصدقائه تعرف على شاب يعزف على العود ، ويمتلك صوتاً ممتزج بعبقرية الطبيعة .. صوت يعكس برنينه الموسيقي ترجيعات الحنين ، وعرق الحقول ، وكدح وتعب البتول ، واناشيد الرعيان ، وأشجان واحزان المتفارقين .
كان هذا الصوت هو الفنان الكبير عبدالباسط عبسي الذي كان يعزف ، ويغني بعض اغاني الفنان المرحوم / محمد أحمد بشر الذي يعد من أوائل مؤسسي اللون الغنائي التعزي كأغنيتي " لمه لمه ، و ياليت شعري " ولم يكن قد غنى أغان خاصة به ، ومن ألحانه .. يقول الفتيح كان شاباً يحمل صوتاً وجدت نفسي فيه ، ومكانه الطبيعي ان يكون فناناً وليس في " تلحيم الذهب " حيث كان عبد الباسط يعمل في معمل لصهر الذهب أو صياغته ، وفيه خطر على صوته فأصررت على ضرورة تركه ، والإهتمام بالفن ، وأعطيته نصوص هي " وقمري غرد ، والليل وا بلبل دنا ، والليلة من ألف ليلة " فام بتلحينها فأعجبتني ألحانها .
وعندما أقول اكتشف الفنان عبدالباسط عبسي فمن منطلق ان الأخير عندما أطل على الجمهور أول مرة كفنان متميز أعطاه الجمهور شهادة الإعتراف بأنه فنانا يستحق الإستماع إليه كان بقصائد الفتيح .
وفي حوار للفنان عبدالباسط عبسي لصحيفة المستقلة رد على سؤال : مالذي لم يقله عبدالباسط من قبل ؟
رد : ( جاءت فرقة فنية من تعز إلى الحديدة ، ومنهم عبده الزغير الله يرحمه وكذلك نجاح أحمد لا أدري أين هي الأن ؟ المهم أخذنا واحد إلى عند الفرقة وقلهم هذا لازم يشارك فكان رئيس الفرقة لا يريد أحداً يشارك ، وكان يعرفني ، وله وجهة نظر .. حاولوا معه على شان اشارك ، ولما شدّدَ عليه منسقوا الحفل قال لي : أنا با سير أتعشى ، وأنت جاء دورك تغني اغنية واحدة فقط ، وتنسحب ، وقدمنا لأغني بعد فنان مشهور يومها اسمه الفنان عبدالجلبل القدسي ، وهدفه أنني لما اغني بعد هذا الفنان سأحترق .
وغنيت اغنية " وقمري غرد " وبسرعة دخلت الأغنية الثانية والثالثة دون توقف ، ولما عاد وأنا جالس مكاني " شلنا من القفى بالشميز ، وكان واحد عملاق وكبير ، وبقيت معلق أنا والعود حقي أمام الجمهور ، وهو يقول لي : مش أنا قلت لك تغني اغنية واحدة بس " .................. الجماهير طلعته للكواليس ، وعملت بني وبينه حاجزا وقالوا لي : غني " فعمل لي نجاح ما كنت أتوقعه ).
نستشف من هذه الحكاية أن الجمهور حينها تذوق كلمات " وقمري غرد " وقصائد الفتيح التي عبرت بصدق ولامست وعيه وواقعه بكل ما يحمله من مفارقات الفرح والحزن ، والغربة ، والعودة ..............
تعديل كلمة بقصيدة حسنك لعب بالعقول
يقول عندما اسمعني الفنان عبدا لباسط عبسي القصيدة تفاجئت بالمقطع الذي يقول في نهايتها :
هات الشهود العدول شاكتب أخر قضية .
فقلت لعبد الباسط غَيِّر لفظة قضية بوصية حتى يستقيم المعنى .
وأضاف لم يرفض عبد الباسط وجهة نظري فهو لمّاح (ذكي) ، ويمتلك ذائقة لغوية وموسيقية نادرة ، وإنما كان متردداً إلى أن يستأذن من الفضول بإجراء هذا التعديل احتراما لقامة الفضول ناهيك عن كون الفضول كان متشدداً في هذا الجانب ، ومع ذلك أصررت عليه إصراراً كبيراً قائلاً : بيت النعمان متاثرين بكتابة الأحكام والصلح بين المتشاريعين (المتخاصمين ) .
وراح يشرح لي ويتساءل : بالله عليك كيف ستستقيم الصورة عندما تقول " حسنك لعب بالعقول ، وأنت مروح ضحية " ثم تشتي تكتب أخر قضية ؟ المعنى لا يستقيم .. أنت مروح ضحية كيف با تقدر ترجع وتكتب قضية .. الصواب شاكتب اخر وصية .. لأن الحسن الذي لعب بالعقول اوصلك لأن تكون على وشك الموت لتطلب الشهود لكتابة أخر وصية ، وفعلاً قام الفنان عبد الباسط باستبدال اللفظة .
شاعر يكتشف شاعراً
وبينما كان يقوم بتحرير صفحتي الثقافية والقراء في مجلة الكلمة التي كانت تصدر في السبعينيات بالحديدة وصلت قصيدة من شاعر مغمور نشرها .
وبعدها التقى بشاعر القصيدة فإذا به طالب يدرس في المدينة ، ويعمل في البناء اسمه سلطان الصريمي ، طالب وعامل ، وشاعر ، وسياسي بنفش الحزب الذي ينتمي إليه ( ثمة تشابه كبير بينهما) هذا التشابه جعله يأخذه معه إلى الفنان الشاب عبد الباسط الذي اعطى له قصيدة " مسعود هجر " قصيدة أكدت حضور الفنان بين الجماهير وفرضته على نحو أكبر .
وخلال هذه الفترة يتداعى الأدباء ، والكتاب اليمنيين في الجنوب والشمال لعقد أول مؤتمر عام يكون بمثابة أول نواة وحدوية لليمنيين ليكون الفتيح والصريمي هناك إلى جانب عمالقة الأدب والفكر اليمني مع ( البردوني ، والفضول ، وصبرة ، والجاوي ، وعبدالله فاضل ، وعبدالله سلام ناجي ، واحمد قاسم دماج ، والشحاري ، وزيد مطيع دماج ، ومطهر الإرياني ، وعباس المطاع ، ومحمد سعيد جرادة ، وإدريس حنبلة ، عبدالفتاح اسماعيل ، والسقاف ، وعشرات من الأسماء الكبيرة ) ليكون الفتيح من أوائل مؤسسي الإتحاد ، ومن أعضاء مجلسه التنفيذي .
تعز الاغتراب الداخلي
أسباب كثيرة أدت إلى انتقاله إلى تعز .. ويبدو أن الحراك السياسي السري الذي كانت تشهده الحديدة حينذاك ومنها (حزب الطليعة الشعبية) كان له الدور الرئيس في انتقاله إلى مدينة تعز .
غير ان الفتيح لا يخفي أن الطفرة التي حدثت اثناء حكم الحمدي شجعته على نقل وظيفته من البنك إلى وزارة الثقافة التي يتبعها قطاع الآثار والمتاحف حيث يكمن فيها تخصصه العلمي .
ثمة دلالات في أشعاره التي كتيها في مستقر إقامته الأخير بتعز منذ العام 1975 م حتى تقاعده عن الوظيفة عام 2002 م ، وحتى وفاته .. دلالات تبين آصالة الفتيح وعمقيتها الإنسانية النبيلة كقوله
شَأكل حلال ..... من غالي زندي ...... الريال يملأ يدي . .. هذا المقطع من قصيدة غناها الفنان محمد صالح شوقي
في أول شريط نزل له إلى الأسواق .. هذا المقطع يدل دلالة على ان الفتيح لن يأكل الحرام وإن كان متاحاً أمامه باشكال وصور لا حصر لها .
مقطع يعبر عن الظروف التي جبلته على العودة إلى ( عُدة البناء ) التي لم يتخلص منها لأنه يعلم أن الزمن جائر ، وهاهو يجور عليه مع فارق بسيط أنه لم يشتكي من هذا الجور .
فضل ان يعبش في الظل وفي مقدوره أن يعيش الشهرة التي كانت تطرق بابه .. استعصت آصالته الخنوع للشهرة المزيفة .. عصيان كانت كلفته باهضة التي من صورها الحكم عليه بالغياب مع وقف التنفيذ إلى حد أن الكثيرين كانوا يظنوا أن الفتيح قد توفي بينما هو على قيد الحياة .
كان في مقدور الحياة أن تمنحه عوضاً عن الفقر الغنى إن هو سار على درب الكثيرين الذين نكصوا المبادئ القيمية الكبيرة التي عاهدوا أنفسهم على تجسيدها في واقع الناس ، ولكنها بمقابل الفقر منحته غناً أخراً .. ثروة امتلاك الأحاسيس المرهفة ونبل الأخلاق وابتسامة التفاؤل بالمستقبل ، والكرامة ، وعزة النفس ، والأخيرة حدت به أن يحيا مرفوع الهامة دونما ينتظر من أحد وساطة تحسن مركزه الوظيفي او المالي اللذين يستحقيهما بجدارة .
لقد كان عام 1981م من أتعب الأعوام التي عاشها الفتيح .. حيث تكالبت عليه المشاكل من كل الاتجاهات ، وصلت إلى حد تهديده بالقتل هو و أم مطر من بعض الموتورين في تعز غير انه ابو مطر وقف امامهم وقفة جبل صبر وانشد يقول :
أبو مطر حبَّك يا كحلا واخلص
وغازلك و شقَّرك و عرقص
ياويل من عابك أوبك تربَّص
والله العظيم لا فلقه بمفرص
وا راعيه قولي لشارح الحول
في الوصل قول الفصل والقوة والحول
الفعل شذهبنا والرد مش قول
لا تسكتيش خلِّي السكوت لا بو الهول
هذا هو هو الفتيح يقسم بأنه سيفلق إلى فلقتين كل من يحاول إلحاق العيب بالكحلا أو حتى مجرد التربص ، وفعلاً انتصر الفتيح على أعداءه حينها .
وأكد على قساوة تلك الظروف التي استهدفته وظيفياً ، وسياسياً ، واجتماعياً ، وأدبياً بالقصيدة التي كتبها كوصية عند ولادة "مطر " يقول فيها بثقة :
يا أم مطر
إن مزّقني الفاشست
غداَ أو بعد غد
لا تبتئسي
كوني كقدر
كوني زمزمة لرعودي
كوني عربدة لرياحي
كوني سيلاً شلالاً
للمطر القادم
يا أم مطر
****
يا أم مطر إني راحل
لكن رحيلي
سيهزّ شيوخ القيعان
وشبان الساحل
ويمزق هذا الليل
وحراس الليل
يخلي عاليهم سافل
إني راحل
علاقته بالفضول ، وأبو ماهر
عندما سألته عن علاقته بالشاعر الكبير عبدالله عبدالوهاب نعمان "الفضول" هل نشأت علاقة بينهما في تعز أتذكر أنه جر نهدة ، وقال :
الفضول كان رجلا غير عادي .. الفضول كان فلتة من الفلتات ، بعد فشل ثورة 48م التي أعدم الإمام فيها أبيه الشيخ "عبدالوهاب نعمان " لم يستسلم الفضول بعد هذه المآساة الكبيرة .. استطاع ان يلملم جراحاته ، وأحزانه من العدم تعرف كيف من العدم ؟ الذين يعرفونه سيذكرون الطريقة التي يطرح بها الفتيح أسئلته يهز رأسه ويحرك يديه لأعلى وأسفل ، وبجرس صوتي موسيقي لا يمتلكه إلا أديب وأديب حقيقي تنثال مفردات سؤاله إلى وجدانك وعقلك لا تستطيع حيالها ذاكرتك إلا أن تعلقها كلوحة جدراية على أحد حيطان غرفها المؤرشِفة لأجمل الذكريات التي تأبى النسيان .
يستتلي متحدثاُ عن الفضول :
لقد مثلت جريدة الفضول فتحا جديدا في تاريخ الصحافة اليمنية باسلوب رصين واكثر من ساخر .. عندما كنت في عدن كان يطالعنا بكل عدد بروائع ، وبدائع تجعل كل من في عدن يحجز نسخته منها قبل صدورها إلى درجة أن الاحتلال في عدن أوقفها بإيعاز من الإمام نفسه .
ويؤكد لا أظن في الاربعينات والخمسينات من القرن العشرين أن هناك من كان يماثله في هذا الاسلوب غير الدكتور سعيد عبده في مصر وقلة من الشام والعراق .. أما في اليمن فلم يكن للفضول مثيل
وهو يرنو إلى جدار غرفته الضيقة :
إن الحديث عن الفضول ذو شجون ، وإنصافه يحتاج الى مجلدات ، سيظل الفضول الحاضر الغائب بيننا .
وعندما كررت له السؤال عن علاقته بالفضول ؟ أدركت أنها اخذت تتطور على إثر تاسيس اتحاد الادباء والكتاب اليمنيين ، فقد كانا الاثنان من مؤسسيه ، وتحديداً عند انتقاله العام 1975 م من الحديدة إلى تعز غير أنها ظلت علاقة متقطعة كالمناسبات الاجتماعية المختلفة التي تقوم في المدينة ويحضرها الاثنان أو اللقاءات الخاصة بحسب مقتضيات الحال التي تسمح للفتيح بالجلوس مع الفضول بين وقت و اخر إذ كانت ظروف الاثنين مختلفتين كان الفضول في هذه الفترة متقاعدا أو شبه متقاعد عن الوظيفة بدرجة وزير بينما كان الفتيح موظف لا تتجاوز عدد سنوات وظيفته بضعة سنوات هذا جانب وجانب أخر كان الفضول أكثر استقراراً من ناحيتي الدخل المادي والاستقرار المعيشي على عكس الفتيح الذي أخذ دخله المادي يتدهور على إثر نقله لعمله من البنك المركزي الذي تتوفر فيه مزايا إضافية لا توجد في عمله الجديد بمكتب الآثار بتعز خاصة بعد وصول (صالح)للسلطة عام 1978م الذي عمل على إهمال قطاع الآثار وموظفيه إهمالاً متعمداً كان الفتيح واحداً من ضحاياه الذين أخذت إيراداتهم المحدودة تفرض عليه الانقطاع عن مواصلة اهتماماته الإبداعية ، وعن المشاركة في الفعاليات الأدبية أو اللقاءات والجلسات المتواصلة مع الشعراء ، والمبدعين المقيمين في تعز .
ومع ذلك كما أكد الفتيح لي كانت تحدث لقاءات ، وجلسات متقطعة مع الفضول ، وكان الفضول يأخذ بملاحظاته على بعض المفردات أو الصور الشعرية أو كما يقول الفتيح نفسه " كنت أحياناً أُسمكر أصلح بعض القصائد التي يسمعنيها الفضول " الله يرحمه وكذلك فعلت مع بعض قصائد عثمان أبو ماهر .
هاشم علي يستوحي من قصائده بعض لوحاته
وفي هذه الفترة بتعز توطدت علاقته بعميد الحركة الفنية التشكيلية ومؤسسها الأول في اليمن الأستاذ (المعلم ) هاشم علي .
استقامت العلاقة بين الاثنين على تناغم إيقاعي بين عنصرين مشتَرَكين بين الشاعر ، والرسام هما فن الخيال اللغوي ، وفن الخيال التشكيلي .. الأول يرسم صور وصفية من المفردات اللفظية على الصفحات ، والأخر يرسم صور وصفية ولكن من الألوان على القماش ، وبحسب تأكيد الفتيح في إحدى جلساتي إليه ( عكس هاشم علي في بعض لوحاته الفنية عددا من الصور الشعرية لي ، ولمطهر الإرياني .. عكس من أعمالي الشعرية لوحات فنية في لوحات " الليل وا بلبل دنا ، والإنسان والأرض ، وقصيدة سيل الفجر " و للإرياني عكس قصيدته الشهيرة " حارس البن " في واحدة من لوحاته حملت هذا الإسم ) .
في استطلاع لمجلة " العربي " عن اليمن بداية عقد الثمانينات ذكرت فيه ان الفتيح واحد من قلائل جداً ممن يحملون شهادة الماجستير ويعملون في مهنة البلاط ، وهي إشارة تؤكد أنه كان يعيش شظف العيش وقلة المؤنة يحدثني الفتيح عن هذه الفترة من عقد الثمانينات بأنها كانت أصعب وأتعب فترات حياته على الاطلاق وما أتذكر من حديثه سوى المضمون منه والمصحوب بينه بعضاً من جمله ومما قاله حينها أن هذه الفترة حقاً ترجمتها جملة من قصائده .
العفيف تنفض التراب وجهه
حين احتفت مؤسسة العفيف بمرور"20 عاماً من التنوير والإيداع دشنت برنامجها السنوي لعام 2009م بشعار " "الشاعر مُشقر بالسحابة"
كان الدكتور الصريمي متماس بالوفاء حيث وصفه بصديق عمره وبأستاذه ، وبالشاعر الكبير والإنسان الرائع .. وأنه كان أول من قدمه للفنان عبد الباسط عبسي .
موقف كأن الفتيح لم يكن يتوقعه من الصريمي قي مثل هكذا مناسبة ، كان ينتظره منه بأي أسلوب حتى بتصريح عابر .. لكن الإنسان الكبير القيم والكثير الأخلاق يدخر الاعتراف بالتقدير إلى اللحظات الكبيرة التي يقع فيها امتنانه لشخص ما بالتقدير موقع الدواء الناجع على الجراح الناكئة وبينما كان الصريمي على المنصة يقرأ ورقته بدفء الصدق ، وطقوس الوفاء كانت عيون الفتيح تصب وابلاً داخل سائلتي خديه ، فاشلاً عن كبح أزيز صدره الناشج بهمسات الشكر للصريمي .
في اليوم الثالث يتكرر مشهد انهمار المطر من عيني أبو مطر الذي منح فيه درع مؤسسة العفيف بينما كان يقول : أشكر مؤسسة العفيف الثقافية ، ورئيسها الاستاذ القدير والمناضل أحمد جابر عفيف .. أشكركم جميعاً واحداً واحداً لأنكم نفضتم الغبار عن وجهي وراح يقرأ مجموعة من قصائده .
انحيازات الفتيح الأخلاقية للإبداع وتقديم المبدعين
تجلت مواقفه في كل محطاته بتأكيد سمو قامته الكبيرة ، وحرصه على تأكيد انتماءه للأدب والإبداع والمبدعين خصوصاً الذين يحاولون أن يقهروا الواقع المزري .. الواقع الرافض التصالح مع المبدع .. الواقع المتعالي بخساسته ، وخبثه ، وبلادته المترعة باللؤم عن الثقافة ، والمستعلي بنقائصه عن المثقفين الذين حطموا توابيت الجبن ، وحواجز الخوف المَشِيدة من لَدُن أدوات النظام المعادية للإبداع في تعز.
وأقصد بهم أعضاء الحركة الإبداعية التي عبرت عن نفسها عام 2007 م باسم حركة أو جماعة " العراطيط " في تعز .. حركة لمّا لم يجد أعضاءها المبدعين من كتاب الشعر ،والقصة ، والنقد ، والفنون الجميلة ، .... الخ منابراً يستطيعون من خلالها ترجمة إبداعاتهم لجئوا إلى الشارع العام لإحياء الفعاليات المسرحية ، والشعرية ، والفنية .
وفي إحدى الأمسيات في مقر جمعية " الاستشاريون اليمنيون " ب 20 نوفمبر 2007 م
التي استضيف فيها إلى جانب الزكري والفقيه .. ! فاجأ الفتيح الجميع بإعلانه الانضمام للعراطيط
مفصحاً عن فرحته الغامرة لمشاركته في هذه الأمسية قائلاً لي : "صدقني أنني شعرت بنفسي بينهم كما لم أشعر بها في أيّ مكانٍ آخر حتى في الفعاليات التي كانت تستضيفني من المؤسسات الرسمية.
والله هكذا قلت لهم ......... يحرك كوفيته على رأسه ويهمهم (أيواااااااااه) ويردف وقلت لهم " أعلنُ عن انضمامي إليكم وبأيّ مرتبة تحبون .. فأنتم امتدادٌ لنا .. "
وهذا الموقف ليس إلا واحد من مواقفه التي تجسد أصالة السجايا القيمية التي يستمتع بها الفتيح في دعم المبدع ، والإبداع .
وحين يدير الندوات والمسابقات الأدبية بنوعيها الشعر والقصة يقوم بتقديم المبدعين نحو الكاتب الذي يعد اليوم واحد من ألمع الأدباء اليمنيين الذين تجاوز حضورهم دائرة القطرية إلى الدوائر الاقليمية هو الكاتب القاص والشاعر علي المقري ، اكتشف أديباً وكاتباً هو عز الدين سعيد أحمد الذي لو لم يكن يسكنه الأديب ورح الأدب لما صار واحداً من أهم المناضلين في مجال حقوق الانسان ليس على صعيد الداخل فحسب بل وعلى الصعيد العربي .
قدم فارع الشيباني وصاغه شاعراً وناقداً ، وزكى الشاعر الموهوب نجيب القرن للحصول على عضوية اتحاد الادباء .ولأن المشهد الثقافي مشلولاً على كل المستويات والاتجاهات والجوانب حكوميا ، ومؤسسياً ويستحيل أن يجد المبدع المنبر الإبداعي لعرض إبداعه يأبى الفتيح إلا أن يكون كالعادة مفتتحاُ للمبدع يلج عبره إلى فرض حضوره كمبدع حقيقي فقبل عام كتب مقالة في نشرتها ص / الجمهورية بعنوان عشاق تعز .. ساق جملة من الاسماء الكبيرة أمثال
الفضول , المرشدي , أيوب طارش , محمد عبد السلام , مبارك سالمين , سلطان الصريمي , محمد وأحمد المجاهد ، وهي أسماء كبيرة وحاضرة في الأوساط الابداعية الادبية والفنية والفكرية وحتى يقدم أسماء مبدعة قد تكون مغمورة ومطمورة يضيف إلى تلك الاسماء الكبيرة الاسماء المغمورة في مقالته كصفوان المشولي , صفوان القباطي , وأبو مطر ( يقصد نفسه) وآخر عشاق«تعز» هو الشاعر المبدع عبدالفتاح الأسودي الممتلئ صدره بشلالات من الجمال وقيمه الرفيعة والراقية.. فقد فاجأنا بقصيدته«في ربوع الحالمة تعز» من قرأها أعادته إلى أيام الصبا, ومن سمعها مغناة أخذته إلى عوالم من الفن الجميل والنبيل ............... ثم يثني عليه .. فبوركت أيها الأسودي المبدع ، ويسوق نص القصيدة اقتطف منها هذا الجزء
روح إبداعِ تجلتْ في مدينه
تمنح الأرواحَ أفياء السكينه
ذات حُلْمٍ تحفظ الدنيا حنينَه
منذ أهل الله أسموها(عُدَيْنه)
في (صَبرّ) لها مغاني
حافلاتٍ بالمعاني
ب(ابن علوان) اليماني
فمعروف عن الفتيح أنه من العازفين عن الكتابة منذ ما يزيد عن ثلاثون سنة إلا ما ندر ، وهذا النادر غالباً ما يكون الهدف منه تقديم مبدع وهو هنا يريد أن يقول لنا الأسودي شوفوا أديب ومبدع حقيقي .
كيف نقرأ تجربة الفتيح ؟
يؤكد شاعر اليمن الأكبر الأستاذ عبد الله البردوني في كتايه الشعر اليمني قديمه وحديثه أنه لتقييم أو قراءد تجربة إبداعية يجب أن تقوم على بعدين هما ( المعايشة للشاعر عن قرب ، و انتاجه الشعري المطبوع في دواوين ) ولا يعني هذا أن انعدام أحد البعدين هذين يمنعاننا من نقد أو قراءة تجربة الشاعر ، وإنما يجب الإعتماد عليهما كعاملين أساسيين إلى جانب العوامل الثانوية .
وأحسبني أنني باقترابي من الشاعر الكبير محمد عبدالباري الفتيح وجلوسي معه ، وكتابة هذه المقالة المطولة أكون من ناحية قادراً على استقراء تجربته الشعرية ، ومن ناحية ثانية قد ساعدت الباحثين على إبراز الجوانب التي كانت غائبة عنهم من سيرة الفتيح .
لقد اتسمت معظم الكتابات عن شعر الفتيح بالطابع الأدبي إلى حد أنها كانت أحيانا تحمل النصوص محمولات لا تمت بصلة إلى مضامينها اتجهت معظمها إلى القصائد الغنائية لانتشارها بأصوات الذين غنوها خاصة أغاني عبد الباسط عبسي لحضوره وشهرته بل أن كثيرين لم يسمعوا أو يعرفوا ألحان كل من أغنية الفنان " محمد العدادي " الذي انقطع عن الغناء ولم يعد يعرف له أثر وهي أغنية «أهيف إذا سار ».. وكانت إذاعة صنعاء وتلفزيونها تذيعها من وقت وأخر قبل الوحدة ، وكذلك أغنيتي الفنان محمد صالح شوقي « شمس الشروق بين الجبال لواهب .. شوقي أنا
تشرب ندى الاسوام و الشواجب .. شربة هناء
واسرب صبايا اقبلين مواكب .. خلالنا
يبرعين عمقان و الجواجب .. بأحلى غناء
وفيها مقطع في غاية الروعة «وأنا بعيني ارسم الحقيقة .. موش بالخيال"
وقصيدة أخرى غناها الفنان محمد صالح شوقي «راجع انا لك وادودحية .. راجع معي لك اغلي هدية .. اباشر الحول والحوية واهنا بعمري لايضيع عليّ » ، وكثيرين لا يعرفون أن هذه القصيدة غناها أيضاً عبد الباسط عبسي بتغيير لفظة (دودحية) إلى ( مذحجية ) مع حذف بعض الأبيات من القصيدة .
وغنا الفنان جابر علي أحمد «كذا فليعشقوا» والأغنية بلحنها الجميل من الصعوبة الحصول عليها .
من ذلك اقتصرت معظم الدراسات الأدبية لشعر الفتيح على التي تغنى بها عبد الباسط عبسي فقط ، ولم تتناول بقية قصائده التي فيها من العمقية ما لم تحمله قصائده الغنائية ، ويعزى السبب إلى انتشار قصائده بالقدر الكافي رغم طباعة ديوانه " مشقر بالسحابة " مرتين نفذتا كلية من الأسواق ، وبالمناسبة هذا العنوان اختاره كل من الأديبين «علي المقري ، ومحمد عبد الوهاب الشيباني » من جملة بإحدى قصائده هي « إلى شمسان الأشم » .
أيضاً للفتيح قصائد أخرى نشرت في الكثير من الصحف والمجلات ، وتناولته عدد من الإذاعات العربية في الستينيات وكان قد جمعها في ديوان بعنوان " سيل الفجر " دفع بمخطوطة منه إلى مطابع الهمداني في عدن بداية الثمانينيات وفص ملح وذاب ، ومن ضمن قصائده القصيدتان اللتين وردتا بهذه المقالة .
وعرض علي ذات مرة بحث بعنوان "أصالة شعرنا العامي وقضية الإنسان والأرض في شعرنا العامي "، واقترحت عليه تغيير عنوان إلى " الأرض والإنسان في أصالة شعرنا العامي " وكان في غاية السرور بهذا الاقتراح .. ولا أدري ما مصير هذا البحث ؟
وللعلم يحسب للفتيح أنه صاحب مصطلح ( الأرض ، والإنسان ) وحول هذا المصطلح ثمة دراسة أخرى مخطوطة عنوانها ( الأرض والإنسان في فلسفة الفتيح الشعرية ) أتحين اللحظة المناسبة لطباعتها ونشرها لتكون مع هذه المقالة اشبه ش يستفيد منه الباحثين من الأدباء ، والكتاب خصوصاً وأن لكل قصيدة من قصائده ظروفها الزمكانية الخاصة ، وحكاياتها المحتشدة بعمقية فلسفية سواء الغنائية مثل أغنية " لينه شتسافر وعندليب تذر بابك ورونقه ؟ " يرد بها على الشاعر أحمد الجابري الذي كتب قصيدة " أشتي اسافر بلاد ما تعرف الا الحب " وغنى القصيدتان عبد الباسط عبسي لكنه أخر قصيدة الفتيح اكثر من عشرين سنة ، وهي قصيدة واغنية تحتاج لحلقة كاملة لما فيها من عناصر و حكايات مترابطة ، وسواء القصائد الشعبية التي كان يرد بها على شاعر الريف والمدينة مقبل علي ، وعلى اصدقائه الأدباء خصوصاً الذين كان لهم موقف من الشعر العامي أو لا يعترفون به .
إن قراءة شعر الفتيح في منأى عن إدراك تجربته العملية والدراسية وعدم إدراك سعة ثقافته ومخزونها المتعدد المتراكم من التراث الشعبي والعربي ومعاصرته وممارسته لثقافة المرحلة،،.والنضال علاوة على ما أصابه من إجحاف لمؤهلاته وقدراته ، و ما لحقه من إقصاء و تهميش وتجاهل ولما تعرض له وأصابه من اعتداءات طالت أسرته إن كل هذا حال إغفاله يجعل الباحث المستقرئ لشعر الفتيح قاصراً ناقصاً..خصوصاً وإن من قصائده كانت معبرة برمزية عن كثير من تلك المعاناة..ناهيك عن أن قصائد الديوان لم تكن مرتبة تصاعدياً وفق تسلسل كتابتها أو تاريخ ميلادها..حيث يكون الباحث في أدب الفتيح محصوراً بين ظاهر النص ودلالات مفرداته فقط..أما أن يدرك المرجعية والمناسباتية التي حملت بالنص واستوى في المخيلة قبل تمخضه نصاً جاهزاً يقرأ فهذا ما قد لا يدركه إلا من يعرف الفتيح كل الفتيح.
أخيراً على وزارة الثقافة واتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين القيام بإعادة طباعة ديوان " مشقر بالسحابة " وديوان "سيل الفجر " وهي قصائده المجهولة غير المنشورة ، وكذلك بحثه " الأرض والإنسان في اصالة شعرنا العامي " كيما يتيسر لكل الباحثين ، الأجيال القادمة الوقوف على تجربته الإنسانية والإبداعية الغزيرتين بمعاني الكفاح والنضال والنزاهة والشجاعة والكرم ، والاستثنائية .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.