الحديث عن هجرة العقول حديث ذو شجون خاصة في زمن الحروب والصراعات، عالم اليوم مليء بالمشاحنات والمحسوبيات والإرهاصات بسبب الخلافات السياسية والفكرية والمذهبية التي مهدت لتوسيع الهوة بين تلك الكوكبة المثقفة، والسياسات القائمة على القمع والبطش في كثير من الدول العربية، ليس غريباً أن يكون الخبز قبل العلم، ولكن المعرفة دائماً هي الطريق الأمثل الدال على الرقي الإنساني والاجتماعي والحضاري، فالشعوب الحضارية الراقية لا تُقاس إلا بالمنتج المبدع والمتميز حاضراً ومستقبلاً بين الأمم والشعوب، فالعالم اليوم رغم الرقي والتقدم العلمي والتكنولوجي والتقني ما زال يعيش أدنى معدلات الأمية الأخلاقية والقيمية بسبب الأوضاع الاقتصادية المتردية والاجتماعية الساقطة، والأفكار المنحرفة، فالمعرفة عندما تُقيد بقوانين وأعراف بالية لا تواكب روح العصر والإبداع، ودينامية التطور والتحديث تصبح معول هدم ودمار لكل ما هو مُبدع، المؤسف حقاً أن هناك الكثير من النوافذ الثقافية والمعرفية والأدبية العربية مازالت مغلقة، ومحجور عليها لأسباب سياسية أو فكرية أو عقائدية، وما أحرانا أن تُشرع تلك الدول من تلقاء نفسها بفتح هذه النوافذ المغلقة والتسامح مع إبداعات العقل الإنساني دون تحريم أو تجريم، خاصة بعد سقوط الحواجز الحديدية بفضل التقدم العلمي والرقي الحضاري، وثورة الاتصالات والمعلومات في شتى مجالات الحياة، فالعالم اليوم قد أصبح قرية كونية صغيرة. علينا أن ندرك أننا نعيش اليوم في عالم متغير الإيقاع، بالغ السرعة، ثمة تكنولوجية فائقة الدقة وثورة اتصالات متجددة عبر فضاء مفتوح، كل هذا لا يمنع من أن يظل الحرف المكتوب محتفظاً بمكانته المرموقة، ووجوده الفاعل كمصدر أساسي ومحوري للمعرفة والثقافة والإبداع، رغم أن هناك تحديات عديدة تتمثل في الخلافات والأيديولوجيات المتباينة في معظم الأقطار العربية، لكن علينا أن ندرك أن انتشار المعرفة والثقافة والحضارة لا تحمل إساءة لأي قطر عربي طالما هناك قيم ومبادئ تسير عليها، بل تزيدها رقياً وتقدماً وازدهاراً.. صفوة القول: لكي نصل إلى طريق الرقي والتقدم العلمي والثقافي والحضاري والخروج من الأزمات التي تعيشها معظم الأقطار العربية لابد من إعادة النظر في النظام التعليمي القائم اليوم، نريد نظاماً تعليمياً يعتمد على تحفيز الإبداع والبحث لشحن الملكات المهنية بالعلم والمعرفة والثقافة، بدلاً من التلقين الممل، والحفظ الرتيب، يكفي الواقع المأسوي العربي الذي تعيشه معظم شعوب الدول العربية بسبب السياسات السلبية ما أدى إلى هجرة أكثر من مليون عالم ومهندس وطبيب عربي يشكلون في بلاد المهجر رقماً قياسياً صعباً في حين دولهم في أمس الحاجة إليهم.. إن مشكلتنا في ذاتنا فنحن لا ننظر إلى عواقب المستقبل، بل نظرتنا دائماً عاطفية مفرطة، وتمجيد وتعظيم للماضي بلا هدف ولا مضمون أياً كان، وهنا مكمن الخطورة لابد من النظرة العقلانية المحايدة، والنقد الهادف، ونترك ثقافة التعصب وعدم قبول الآخر التي تؤدي إلى التشاحنات والصراعات والغوغائية، وهذه ظاهرة غير طبيعية بدأت تطفو في سماء العالم العربي والمؤسف المُعيب أن تنطلق من حملة الشهادات العليا الذين يمثلون ذروة العلم والمعرفة والثقافة في تلك الدول.. فيض الخاطر: ثورات العقول لا تُقاس بالخلافات والصراعات والمهاترات، وإنما تُقاس ببقاء أثرها في ضمير الأمة والأجيال سلوكاً وأخلاقاً وقيماً ومبادئ، لأن الخلافات مهما علا صوتها سرعان ما تندثر وتزول.. لذا علينا أن نقرأ التاريخ بحصافة وتأنٍ وتدبر بعيداً عن التأثيرات الفكرية والانتماءات الأيديولوجية لكي نكون منصفين في أطروحاتنا الفكرية والثقافية والعقائدية، والمسؤولية تقع أولاً وأخيراً على عاتق واضعي التاريخ الأكاديمي والتعليمي حيث إنه من المُعيب أن نجد بعض النخبة يسردون أحداثاً تاريخية زائفة، بل هناك من يحرف أحداث التاريخ لأغراض أيديولوجية وعقائدية، وهنا تكمن الكارثة، فالأمانة العلمية مقدسة، ولها حرمات وليس كل طارق يفتح له. نافذة شعرية: أهذه الآلام..؟! وهذه السجون والأصفاد.. شهادة الميلاد، يا خيام.. في هذه الأيام..؟! دفنت رأسي في الرمال.. ورأيت الموت في السراب.. فقير العالم الجواب.. ينام على الأبواب.. يمد لي يديه في الظلام.. ويقرأ التقويم بالمقلوب..