تعيش مدينة تعز هذه الأيام تحت وطأة أزمة مياه غير مسبوقة، فاقمت من معاناة السكان في ظل شح الإمدادات وغياب الحلول المستدامة، ما دفع مواطنين للخروج إلى الشوارع احتجاجًا، مطالبين بتدخل فوري وجاد من السلطات المحلية لتوفير المياه، التي باتت منعدمة في العديد من أحياء المدينة. طوابير العطش..
المشهد يتكرر يوميًا في أحياء تعز؛ مئات المواطنين يصطفون أمام البقالات ومحطات بيع المياه، يحملون عبوات بلاستيكية فارغة على أمل الحصول على 20 لترًا من الماء. ومع ارتفاع درجات الحرارة، يتصاعد القلق من العودة إلى المنازل خالي الوفاض، وسط وعود رسمية لا تزال عاجزة عن إرواء عطش المدينة.
ولا يقتصر البحث عن المياه على ساعات النهار فقط، بل يمتد حتى أوقات متأخرة من الليل، حيث يتنقل الأهالي من حي إلى آخر بحثًا عن نقطة بيع متاحة، لكن غالبًا ما تتكرر خيبة الأمل، في ظل نظام توزيع هش، وعشوائية في الإمدادات، جعلت من المياه سلعة نادرة وشبه مستحيلة المنال.
يقول الحاج قاسم، وهو من سكان حي الجحملية: "لي أربعة أيام أبحث عن وايت ماء ولم أجد. وإن وُجد، يُباع للبقالات فقط ويختفي في دقائق. أصبحنا نخوض صراعًا يوميًا من أجل البقاء. لا ماء في الخزانات ولا في الشوارع ولا في المحطات".
تحرك أمني.. لكنه بلا حلول
أمام تصاعد السخط الشعبي، أمهلت إدارة أمن تعز أصحاب محطات التحلية 24 ساعة فقط لتصحيح أوضاعهم، وأطلقت حملة رقابية لضبط المخالفين ومتابعة توزيع المياه، معلنة أنها ستبدأ بتأمين كميات من الآبار التابعة للمؤسسة المحلية للمياه لتخفيف الضغط عن المحطات الخاصة.
ورغم أن هذه الإجراءات خففت الازدحام في بعض الأحياء، إلا أن كميات المياه المتوفرة لا تزال دون المستوى المطلوب. فالأزمة، كما يصفها الأهالي، أعمق من إجراءات مؤقتة لا تلامس جذور المشكلة.
في المقابل، يقول مالكو محطات التحلية إنهم يواجهون صعوبات كبيرة في تلبية الطلب المتزايد. يقول أحدهم لمراسل "الصحوة نت": "في الأيام العادية نحتاج إلى 10 أو 11 قاطرة يوميًا لتشغيل المحطة وتغطية احتياجات المواطنين والبقالات. اليوم، بالكاد تصلنا قاطرة واحدة، فكيف نغطي مئات البقالات؟".
وأشار إلى أن الجهات الأمنية شددت على أولوية تزويد البقالات أولًا لضمان عدالة التوزيع، لكنه أكد أن ذلك غير كافٍ ما لم يتم رفع عدد القواطر إلى خمس على الأقل يوميًا.
في الجانب الآخر، لا يخفي المواطنون شعورهم بالإحباط من صمت الجهات المعنية. يقول حمدي فتحي، شاب في العشرينات، وهو يقف في طابور انتظار منذ ساعات الفجر: "الساعة الآن التاسعة صباحًا، ولا توجد قطرة ماء في بيتي. لا نسمع سوى وعود فارغة، بينما الأزمة مستمرة ولا أحد يتحرك بجدية".
أما أحلام غالب، وهي سيدة مسنة تعاني من السكري، فوصفت حالتها الصحية بأنها تزداد سوءًا بسبب القلق والبحث اليومي عن الماء. وتقول: "كل يوم يرتفع عندي السكر من التفكير. لا يوجد في البيت حتى لتر واحد. رفعوا سعر الصرف، وزادوا الأسعار، والآن حتى الماء يحاصرونا فيه".
وأضافت أن أحد أصحاب المحطات رفض بيعها الماء، متذرعًا بتعليمات أمنية تلزمه بتزويد البقالات فقط، وتابعت بأسى: "حتى لما عرضت عليه قيمة الويت نقدًا، لم يقبل".
مأساة يومية تتكرر
المواطن زكريا الشرعبي يروي تجربة شخصية تلخّص حجم المأساة اليومية. بدأ رحلته بعد صلاة الجمعة من حي المسبح إلى وادي القاضي، حيث رصد طابورًا طويلًا أمام إحدى البقالات، لكنه أُبلغ لاحقًا بأن الكمية المتبقية لا تكفي، فغادر المكان خالي اليدين.
واصل زكريا بحثه في المساء متنقلًا بين عدة أحياء حتى شارع جمال، دون جدوى. وبينما كان على وشك الاستسلام، بادره أحد المواطنين بدبتين من مائه الشخصي، في موقف إنساني يعكس التضامن الشعبي وسط الأزمة.
وفي وقت متأخر من الليل، تمكن أخيرًا من تعبئة 20 لترًا من "ماء كوثر" بعد وصول وايت محدود إلى إحدى البقالات، وسط ازدحام شديد وسباق بين السكان.
يختم زكريا حديثه بالقول: "الخوف من فقدان مياه الشرب بات هاجسًا يوميًا. نعيش على الوعود، لكن الواقع أكثر قسوة".
أزمة تكشف هشاشة البنية وغياب الدولة
في ظل تدهور الخدمات وتراكم الأزمات المعيشية، جاءت أزمة المياه لتزيد من معاناة سكان تعز، الذين ما زالوا يدفعون ثمن الحرب والحصار والانهيار المؤسسي. وبين غياب المياه وغياب الدولة، يظل المواطن الحلقة الأضعف.
ويطالب الأهالي بتحرك حكومي عاجل لا يكتفي بالحلول المؤقتة، بل يبدأ بإصلاح شبكة المياه المتهالكة، ووضع آلية شفافة للتوزيع، ومنع الاحتكار، واستعادة حق أساسي من حقوقهم المنهوبة: الحصول على ماء نظيف يروي ظمأهم.