بشرى المقطري حداد المدينة.. السواد الذي خيم على روح المدينة، كان يشي برحيلك، منذ آخر زيارة قمت بها لرؤيتك في غرفة الطوارئ وأنا ألمس وجه الموت في كل الأشياء التي أصادفها، في الأخبار، وشاشة اللابتوب، وصوت اسمهان، والكتابة العقيمة، وضحكات الأصدقاء، وجوههم المتربة ونقاشهم المتعب في أروقة المقر.. كل الإشارات التي تدب حولي منذ أيام تقودني إلى هذه الحقيقة، حقيقة رحيلك هكذا قلت لنفسي قبل أن يؤكد اتصال أحد الأصدقاء من المستشفى الدولي ظني الملتبس ليأتي صوته الفج كمسمار يدق في رأسي. ضغطت على رقمك (.. 771928153 ) وكأني أحاول أن أتشبث بقشة تنقذني من الغرق؛ لكن صوتك أيها الطيب لم يأتِ من ردهة الجهاز الصيني البليد، لم يأتِ صوتك القروي ليلقي قصيدة جديدة، أو سؤالاً عن الحياة والأوضاع، لم يأت أبداً صوتك، كان ابنك مطر على الخط يسرد هول الفاجعة، كيفية رحيلك؟. فجأة هكذا أغمضت عينيك وأدرت ظهرك للعالم بعد أن مللت من البقاء هناك. انقطع تنفسك.. ونبض القلب توقف، أغلق الطبيب عينيك وبكى من كان في الغرفة. هكذا رحل الشاعر محمد عبدالباري الفتيح في يوم الخميس الموافق 13-6-2013م رحل وحيداًً ودون لغط.. رحل متعباً من الخذلان والجحود. آٍه. يا فتيح لتبكِ عليك المدينة والطرقات والشوارع والأزقة.. لتبكِ عليك القرى والجوالب ومواويل القرويات وخرير الساقية. لتبكِ عليك الحياة التي خذلتك كثيراً وغرست في قلبك نصل المرارة. أنت حيّ ونحن الموتى. محيي الدين جرمة كان الفتيح برقّته لمن عرفه عن قرب يُلهم حتى الجمادات في النطق. يعد الشاعر محمد عبدالباري الفتيح من أبرز شعراء قصيدة التفعيلة الغنائية بالفصيح واللهجة العامية في تعز مقارباً لهجات يمنية أخرى استلهم عبرها ومن خلالها المعطى الفني والإبداعي للأغنية اليمنية المكتوبة، مضيفاً إليها نكهة خاصة وبعداًَ إنسانياً تضوعت بعطره عاطفة وكلمات النشيد والمواسم والحب والعوالي، وجسد معاناة مجتمعه في أجمل صورة تعبيرية كما عكستها قصائده وأمسياته وغنائياته والتي من أبرزها “واقمري غرد ما عليك من هم” التي صدحت بها حنجرة الفنان عبدالباسط عبسي كأقرب ما يكون إلى مزاج وأسلوب فهم طبيعة أغنية الشاعر الفتيح، من يودعنا اليوم ليبقى هو ونرحل لأننا لم نلتفت إليه، كأنما فقدنا برحيله مزية الحب وصفة الشاعر الإنسان. وكان الفتيح من طليعة مؤسسي اتحاد الأدباء والكتّاب اليمنيين في السبعينيات ومن رموز الحركة الثقافية اليمنية وأعلام الفكر الوطني ومن الأدباء الذين أسهموا وكانوا في طليعة المؤثرين والمعبرين عن تطلعات وهموم اليمن عبر شعريته العالية وألفته وصداقته وأريحيته لا ضيقه بالناس، حيث كان متفتحاً بوعيه الشعري تجاه ما يكتب كأنما تحاكيه زهرات الفصول في حميمة تفتح براعمها، نشيداً سيبقى الفتيح للأغنية والحب تتلمس أنات الفقراء والكادحين حيث الوجع غنوة في تجربته تتلمس احتياجات الناس في اليمن وجرحهم الكبير برحيله، وحيث تجربته كمدرسة وخصوصية تغنى ودندن على رنات سواقيها وكلماتها شعراء ورواد قصائده ومراثيه العاطفية الباكية,كما مثل مدرسة فريدة في الشعر العامي وتغنى بكلماته عدد من الأصوات. يشار إلى أن الشاعر الفتيح كان صاحب تجربة إبداعية كبيرة أثرى خلالها الساحة الفنية والثقافية بعطاء شعري، وغناء كلماته,التي تستيقظ وتفزع خالدة كدمعة الغيوم' ومرثية المطر,ويبقى الإشارة إلى أن الشاعر الراحل الفتيح من التجارب القليلة التي منحت أفقاً رغم جحود الجهات المتشدقة بإسم رعاية الأدباء والمبدعين وتجاربهم في اليمن,حيث كان من أبرز أعلام الشعر العامي والغنائي في اليمن.