أذّنّ إبراهيم عليه السلام في الناس بالحج ليلبّوا خالقهم ويتحرّروا من سواه، فهو نداء الحرية الأول الذي بلغ ما بلغه الليل والنهار.. فهرع الناس من كل فج عميق ملبين النداء وفي كل عام على صعيد واحد يتجدّد هذا النداء، فيلبون ليبقى حياً خالداًَ يصم آذان المتكبّرين ويشجي قلوب الموحّدين ؛ لأنه يحرّرهم من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ؛ ولأن الحرية فطرة الله التي فطر عليها الخلائق يهرع الملايين معلنين توحيدهم لله ورفضهم سواه من الأنداد والطغاة الذين يعبدون الناس لأنفسهم.فتقوم عليهم الثورات عبر العصور ويُطاح بهم من أجل الحرية.. فما أرسل موسى لفرعون إلا لأنه عبّد بني إسرائيل لنفسه وبغى عليهم.. فكل رسالات الرسل والمصلحين ثورة على الظلم والظلام. ...لبيك اللهم لبيك. لبيك لا شريك لك لبيك..إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك. فالحج تحرّر من عبودية غير الله كما هو إعلان مقاومة لكل عدو بشتى الطرق سواء بالإستعاذة منه ومجاهدة أراجيفه أوما يتعداها إلى الرجم الذي يتمثل برمي الجمرات.. إشارة لمناهضة كل الأعداء الذين يَحُولون بين الناس ومعتقداتهم وقيمهم التي شرعتها أديان السماء وأقرّتها قوانين الأرض ، فكل من يمتهن هذا الحق الذي به تحفظ الكليات الخمس وبه قوام الدين, وجب علينا أن نتخذه عدواً سواء من شياطين الإنس أو الجن .. فرمي الجمرات تقرير لهذه الحقيقة. الحج تجسيد لقيم العدل والمساواة وإعداد لتحمّل الشداد.. فالحجيج سواسية لا يتميز أحد على أحد ولا يحتاج هذا إلى تفصيل، كما أنه يرسم العدالة في أبهى صورها لايطغي أحد على أحد فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج، فإذا كان المباح محظوراًَ فمن باب أولى أن يُحظر سواه ..وهو كذلك إعداد لتحمل الشدائد وذلك بالجهد الذي يبذله الحاج في أدائه لمناسكه، فإذا أتمها خرج منتصراً كيوم ولدته أمه ليس عليه ذنب خرج متحرراً من كل أوهام الأرض وجواذبها.. منتصراً بقيمه على أعدائه، فهو تحرّر وانتصار. وأما العبودية والانكسار فهي: غاية الحج ومقصده. سئِل الإسلام عن الحكمة من المناسك فقال: تحقيق العبودية لله من خلال الامتثال والطاعة. فالحج يجعل العبد خاضعاً منكسراً مستسلماً لربه الذي دعاه فلبّى له وحده لا شريك له.. فإن الطالب للحج يعلن ذلك من أول إحرامه إلى منتهاه بقوله (لبيك اللهم لبيك لبيك، لا شريك لك لبيك ، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك),توحيد وامتثال يظهر في جميع المناسك , فتقبيل الحجر الأسود ورمي الجمرات والمبيت بمزدلفة ومنى والحلق والطواف والسعي واستلام الركن اليماني والذبح وغيره من النسك لها فوائد وحكم متعددة يعلمها الله ليس بالضرورة أن يعرفها العبد بكل أبعادها, وإنما يؤديها امتثالاً للأمر.. فهو يُحقق مبدأ العبودية لله وحده بالامتثال والأداء, فالله يريد من عباده الطاعة ليكونوا عبيداً له وحده لا يشركون معه أحداً وهذا مقصد عظيم , فكل ما لم يأمر به الله ولا رسوله مما يعظّمه الناس أو يعبدونه مما لا يضر ولا ينفع يكون فعله شركاً وكفراً، لأن الله نهى عنه.. مثل تعظيم الحجارة والذبح لغير الله وعبادة الأصنام والأهواء وغيرها, وكل ما أمر الله به ورسوله .. يكون تعظيمه أو فعله عبودية وتوحيداً (ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب) وذلك بامتثال العبد لأمر ربه مع علمه أن هذه الحجارة لا تضر ولا تنفع, فالذبح وتقبيل الحجر الأسود ورمي الجمرات التي هي حجارة والطواف حول بيت من الحجارة لا تضر ولا تنفع عبودية لله لأنه هو الآمر بذلك.. فالامتثال لأمر الله والانتهاء بنهيه هو العبادة التي ينجو بها العبد عند ربه والتي أرادها الله من خلقه..قال تعالى:(وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ), فالحج كله خضوع وطاعة من بدايته حتى يعود الحاج إلى بلده , فلا ينفق نفقة ولا يطأ موطأً ولا يصيبه نصب ولا وصب إلا كتب له به عمل صالح . فكل أحواله منذ أن يخرج من بيته إلى أن يعود عبادة خالصة لله. حنت لروض محمد صلواتي واستبشرت بلقائه نبضاتي وسرت بي الأشواق قبل مسيرتي فغدوت والأشواق في عرفات حُجّاج بيت الله من أوزارهم غسلوا القلوب بأنهر العبرات نادواإلهاًواحداً وجميعهم حطّوا الرحال بساحة البركات عرفات يحضنهم على عرصاته وعلى المحيّا بسمة الوجنات صلّى وسلم للملايين التي لبّت، وصلّت سائر الفلواتِ يوم مهيب باركته يد السماء وتجلّت الأنوار في العرصات عرفات يغشاه الجلال لأنه حضن الوفود ومورد الرحمات لله ما أحلى الوقوف بساحه والقلب يشرق من ضياء النفحات وترى الدموع على الخدود كأنها سيل تفجّر من لظى الزفرات تضفي على العبد المؤمّل راحة ليذوق صفو حلاوة العبرات تتزاحم الرحمات بين ضلوعه وتفيض بالخطرات والآيات رغم الحشود فكل قلب ناظر لله مجموع بغير شتات متبتلّاً متوجهاً لله من كسراً يروم المحو للسوءات فيعيش معنى القرب في لحظاته لله ما أحلاكِ من لحظات وإذا أفاض الناس بعد وقوفهم نزلوا (بمزدلفٍ) على الساحات ناموا على فرش الحصى فكأنها من سُندس الفردوس والجنات وتوجّهوا بعد المبيت إلى منى زمراً على الأقدام والصهوات نثروا دموع الشوق في محرابها رفعوا الأكفّ بأطيب الدعوات ذبحوا أطايب هديهم وتحلّلوا من بعد رمي كبيرة الجمرات لله ما أحلى لياليها مُنى ووددت فيها لو أعيش حياتي سأكون كالأملاك فوق ربوعها وأذوق طعم الأنس في سجداتي قلبي هناك معلّق بربوعها يا ليت حول ربوعها سنواتي طافوا الإفاضة والوداع وغادروا البيت الحرام بموكب الحسنات ليعود عبد الله بعد وقوفه كالطفل مولوداً بلا زلاّت حسناته قد أثقلت ميزانه وعلت به في أرفع الدرجات ملأت ببهجتها سماء فؤاده فإذا به متوثّب العزمات في همة موصولة بالله لا يلوي على الأوزار والشهوات ما عاد مثل الأمس ليس يهمّهُ سير الليالي وانقضا اللحظات بل همّهُ الأيام يعمرها التقى والذكر عبر دقائق الأوقات