ما أكثر ما استغرب المحققون من الرواية التي تواصى بها جمع من المفسرين عبر قرون من الزمن وأصروا على جعلها سبباً لنزول قوله تعالى:(مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِين ..) ونصها (لما حضرت أبا طالب الوفاة دخل عليه النبي (ص) وعنده أبو جهل ، وعبد الله بن أبي أمية ، فقال : “ أي عم ، قل : لا إله إلا الله . كلمة أحاج لك بها عند الله “ . فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية : يا أبا طالب ، أترغب عن ملة عبد المطلب ؟ .. فقال النبي (ص): “ لأستغفرن لك ما لم أنه عنك “ فنزلت (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ..)– رواه أحمد- لقد شكك المحققون في صحة هذه الرواية كون موت أبي طالب كان في آواخر العهد المكي في حين أن الآية وردت في سورة التوبة وهي من السور التي نزلت في آواخر العهد المدني –تفسير القرطبي- ،، ولعل هذه الرواية من آثار الصراع الدائر بين السنة والشيعة وخلافهم حول مصير أبي طالب ،، وهل مات على التوحيد كما تدعي الشيعة أم مات على الشرك كما تدعي السنة ،، ولا يخفى مكانة أبي طالب من الإمام علي أول الأئمة المعصومين في تراث الشيعة. لماذا لا يتعلم فقهاؤنا من الفقيه الثائر (سعيد ابن جبير) ، لقد وقف عند قوله تعالى (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِّلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ ? ... ( التوبة 114- ،، وبالرغم من الحوار الطويل الذي ساقه لنا القرآن بين إبراهيم وأبيه وإصرار الأخير على كفره مصحوباً بالتهديد والوعيد لابنه إلا أن (سعيد ابن جبير) رأى أن تبيُن إبراهيم من حال أبيه أنه عدو الله كائن يوم القيامة وليس في الدنيا عندما يرى وجهه عليه غبرة -تفسير الطبري- لقد خاض (سعيد بن جبير) صراعاً سياسياً ضد الحجاج فيما عُرف بثورة العلماء وكان أشبه بالصراع الديني الذي خاضه إبراهيم مع قومه وتعرض ابن جبير ورفقائه الثائرين لحملة تشويه ممنهجة من قِبل الأمويين خلال عدة سنوات سهلت للحجاج إعدامه دون أن يتحرك للمسلمين ساكن أو يُسمع لهم صوت ،، لقد فقه ابن جبير أن الصراع حين يدخله كبراء القوم وأصحاب المطامع يختلط فيه الحق بالباطل ،، والدين بالسياسة ،، فيحتار أكثر البسطاء وتكاد تعمى أعينهم عن رؤية الحقائق الواضحة . - ومن (سعيد بن جبير) إلى فقيه المدينة والمتفرد بالفتوى فيها (عطاء بن أبي رباح) ،، فقد نافست فيه روح الداعية قسوة الفقيه ،، فحمل الاستغفار المنهي عنه في قوله تعالى: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِين ..) على صلاة الجنازة ووافقه غيره - تفسير ابن كثير-،، ولعله قرأ في السير أن المشركين خرجوا لقتال النبي (ص) يوم أُحد فقتلوا سبعين من أصحابه وبالغوا في الاعتداء عليه بنصل سيوفهم حتى أسقطوه في حفرة وهم حريصون على قتله فرد عدوانهم بروح الداعية ملتمساً لهم الأعذار (اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون) –متفق عليه- ،، إنهم في نظره معذورون رغم مرور أكثر من عقد على دعوتهم ونزول القرآن فيهم. - لقد ساقت لنا كتب التراث حيرة أذكياء الفقهاء حول مصير أهل الفترة ، والمقصود بهم المشركون الذين لم تبلغهم دعوة عيسى - عليه السلام- ولم يدركوا دعوة محمد -ص- فرأى جمعٌ منهم أن أمرهم إلى الله يوم القيامة ، وجزم آخرون أنهم في جنة الخلد،، كل ذلك بالرغم من وجود حنفاء في مكة أمثال (قس بن ساعدة) ووجود متنصرين فيها أمثال (ورقة بن نوفل) إضافة إلى انتشار اليهودية في جزيرة العرب والمسيحية في اليمن إلا أنهم لم يعتبروا ذلك كافياً لإقامة الحجة على المشركين ووصول البلاغ إليهم ،، وذلك لأسباب قومية وعنصرية وسياسية متعلقة بطبيعة الأحبار والرهبان وبالعلاقة بينهم وبين المشركين ،، وهذا ما قرره القرآن في قوله تعالى (لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) –السجدة 3-. وإذا كان الفقهاء قد احتاروا في حال أهل الفترة فقد كانوا أشد حيرة في مصير أولاد المشركين كونهم يقعون تحت تأثير آبائهم (فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ وَيُمَجِّسَانِهِ) البخاري، فرأى بعضهم أنهم مع آبائهم يحشرون ،، ورأى آخرون أن أمرهم إلى الله ،، ومال المحققون منهم مع ميزان القرآن فرأوا استحقاقهم للجنان النووي شرح مسلم، ولم ير الفقهاء في نقاشهم هذا تعارضاً مع النصوص التي تحكم على الكفار باستحقاق النار لأن الحكم بالكفر واستحقاق النار مقيد بتوافر شرط ذلك من قيام الحجة وارتفاع الشبهة ،، كسائر الأحكام الشرعية المقيدة بقيام أسبابها وتوافر شروطها وانتفاء موانعها. إن الخلاف حول أهل الفترة وأطفال المشركين يفتح لنا الباب على مصراعيه لمناقشة مسألة من تربوا وترعرعوا في محاضن ومدارس وجامعات ومنتديات وبيئات وبلدان مسيحية أو وثنية أو غيرها مما لا صلة بالإسلام ،، وفوق ذلك يجهلون الإسلام ، بل ربما غرست فيهم الأحقاد الصليبية والمؤامرات الصهيونية العداء للإسلام ورسوله ، وصورته لهم أنه دين العنف والوثنية ..إلخ ،، مستغلة حالة الوهن والضعف والغيبوبة التي يعيشها المسلمون. - وختاماً ،، لا أعلم أين مصير مانديلا يوم القيامة ،، إلا أن مآثره الخالدة تدفعني للترحم عليه على مذهب عطاء ،، وحسن الظن بالله على مذهب ابن جبير ،، وألهج بابتهال عذب على مذهب أستاذنا شوقي القاضي (اللهم إني أسألك وأنت أرحم الراحمين ، أن تتقبَّل منه نضاله وصلاح فِطرته ، وأن تتغمده برحمتك وعفوك فإنا يا الله وشعبه بجميع أديانهم ومعتقداتهم نحبُّهُ ونبكي عليه ، ونأسف لرحيله ، لكنا يا الله لا نقول إلا ما يرضيك ،،ونسألك يا الله أن تهدي رؤساءنا وملوكنا وأمراءنا وسلاطيننا ، الذين يتآمرون علينا ، وعلى بلداننا ، وعلى نهضة شعوبنا ، واستقرار أوطاننا ، أو نسألك أن تجعلَ لعنتك عليهم ، وتَهُد أركان مُلْكِهِم ، وتُزلزلَ عروشهم ، وتُمَزِّق عائلاتهم وأُسَرَهم ، .. آمين .. اللهم آمين).