بعيداً عن البحر قريباً من القمر كانت تغني قصيدة صيفية بزاوية فمها.. عن حب لم يكتمل بسبب حرب طارئة عن ظلال القهوة البنية وكيف اغتسلت بلون الدم.. جدتي الثمانينية ترقص كعشرينية قرب بحرها؛ ذلك البحر الذي ليس سوى وعاء كبير لغسل الملابس.. كانت تحكي عن حبيبها الأول والثاني دون خجل من تراب رجلها الأخير وتخبرني الريح أن رجالها كلهم لم يكونوا سوى واحد ذهب في حربه الأولى ولم يعد بأية حياة؛ بل عاد بزيه العسكري الذي كفن به.. ذات وهج حزين لغروب يومي؛ سرقت جدتي قطرة من السماء وسكبتها فوق عيونها.. بصوت واهن يشبه الريح قالت أنها تكره وطن الموت. بصوت مرتعش سألتها وهل ثمة أوطان للموت وأخرى للحياة؟! كلا....قالتها بصوت ممطوط؛ الموت والحياة تصنعهما ذات اليد ويسرقها الوطن! جف تراب جدتي؛ وماتت حكاياها النابتة على ضفاف الشوق؛ بعد أن تخطت التسعين قررت أن تستسلم للوطن ليهبها موتاً ما يقيها انتظار شيء لن يأتي أبدأً.. ابنتها التي هي أمي؛ ماتت وأخي في عسر ولادة في قرية نائية لا يراها الوطن كما تقول جدتي.. ووالدي الذي هو سندها الأخير كما تقول ستلتهمه الحرب قريباً بعد أن دقت أبوابنا بعد سنين.. سألت جدتي: كيف تأتي الحروب؟ أمن موسم مطر قاحل.. أم لعله غضب الله كما يقول إمام المسجد الذي استشهد قبل عام... استشهد؟! يقولون أنه استشهد؛ حتى إمام الجامع الآخر استشهد.. الاثنان توفيا بلقب شهيد؛ احدهما يرتدي عمامة؛ والآخر قبعة عادية؛ كلاهما يحملان كتاباً ذا غلاف بني؛ وكلاما بحبر كثيف... لكن أحدهما أبأس من الآخر يظن الحق في جيبه يوزعه كيف يشاء بذريعة دمه المقدس! كلاهما ذهبا إلى الجنة أو الجحيم كما تقول جدتي؛ لا يهم؛ الحكاية المؤلمة لم تنته فصولها بعد. الحرب؛ إنها الحرب كلما دقت طبولها لم تسعفن بأن نتجهز لها بمشاعر معينة؛ كل شيء يأتي فيها بغتة؛ الدمار؛ الرحيل...أو الموت. ذهب أبي قبل ثلاث ليال؛ اخبرنا أنه سيدافع عنا قبل أن يصلوا؛ لم تدمع عليه جدتي...كل ما عبرت به هو نهدة طويلة حملت الكثير من الحديث؛ وغاب... غاب بعد أسبوع كامل إلى الأبد. صباحاً جدتي تغني وتطربنا بأغانيها القديمة؛ ولكنها الحرب.. تقول أختي الكبيرة: جنت جدتي لموت أبي...! وتقول جدتي أن موعدها رقصها على الشاطئ مع أحبتها الكثر قد اقترب.. تشتد الحمى على بنيتها الضعيفة؛ لا يسمح لنا بأن نخرج من قفص الموت هذا؛ نبكي بدموع عجز مبكر؛ ونهدهدها بأغنياتها القديمة.. هذا الصباح كفّنّا جدتي بفراشها البالي الذي لا نملك سواه؛ وبقيت قرب النافذة أغني لبحرها الصغير وأرقص بكلماتها علها تأتي أو أبتدي بأغانيها الجميلة أزمنة أخرى قد يطرب لها الوطن ويكف عن الحرب.