قبل عام كنت أتحدث عن ينبوع الثقافة اليمنية.. تعز. أتحدث عن “موكا كوفي”.., عن جدران القلعة و حكايا المارة في “سوق الشنيني”..,عن مسجد معاذ ابن جبل ..,عن الأشرفية ومسجد بني الرسول.., عن ابن علوان ..عن أهل الكهف ومسجدهم الذي يحتضنهُ عملاق المدينة الأكبر “صبر”, أتحدث من أعماق روحي عن مدينة سكنت فؤادي وخيمت فيهِ. والآن أصبحت أتكأكأ بنطق عبارة “تعز عاصمة الثقافة اليمنية”.., ليس لأنني غيرت رأيي فيها بل لأني عشقتها حتى الثمالة وانصدمت بواقعها المرير, حتى اقتنعت بعبارة “أحياناً إكرام الحب دفنهُ”. تعز ..كانت بالنسبة لي الأكسجين الذي أستنشقهُ على الدوام, أصبحت اليوم مدينة الغاب, لا يسري فيها غير قوانين الهمجية والبلطجية وعصابات التقطع والمافيا.., أصبحت شديدة العتمة يخيم فوقها كابوسان: كابوس التخلف وكابوس انطفاء الكهرباء. أطُلق عليها المدينة الحالمة وكانت بؤرة ومنبع الثقافة اليمنية, أخرجت من بين أحشائها نخبة مثقفة برزت خلال ثورة 26ستبمبرو14أكتوبر و11فبرير.., منها خرج عبد الفتاح إسماعيل “مؤسس تيار الاشتراكية” وعبدهُ محمد المخلافي “مؤسس تيار الإخوان” وعيسى محمد سيف “أحد مؤسسي التيار الناصري” والكثير الكثير ممن كأن لهم تأثير في الرأي العالمي والمحلي. لكنها اليوم لم تعد سوى غريقة مكلومة لم تستطع أن تنطق بأبجدية الاستقرار والأمن. لم يعد من تعز الثقافة غير متحف تحول إلى قسم شرطة وسينما أصبحت سوقا للأسماك, ومسرحا شبه عار إلا من خيوط العناكب, وأسواق ترتدي الطين والمجاري أضف إلى ذلك نكهة الظلام الدامس الذي يضع البصمة النهائية للمأساة لنعش في عالم الخيال و اللا معقول, ولربما نصبح جزءاً من برمودا الرعب القادم. كانت تعز اُحجية تتردد على مسامع كل إنسان ..عندما يمر في أحد الأسواق القديمة ويسمع صوت المؤذن.., وصوت الباعة, وخطى النساء الملتحفات بالسواد, والأغاني القادمة من مذياع لا يتعب... واليوم أصبحت مدينة تشبهُ أهلها في التعب والبؤس, مدينة تحمل خطايا الجميع وتغادر مع وجع الذاكرة. تتزاحم الجُمل في ذهني, كل تلك التي لم أتوقعها.., فتمطر الذاكرة فجاءة, فأبتلع قهوتي على عجل.. وأشرع نافذتي لأهرب منها إلى السماء الخريفية.. إلى القلعة والقباب والمارة.., فأجلس وُجهةَ الوطن.. وتتسلق نظراتي طوابق الحُزن.. ويرغمني التمدد خلف شرفة الذهول.. لأتابع بنظرة غائبة شعبي وقومي الممتهن في سياسة القوة والنفوذ التي مازالت إلى الآن تمارس نفس الثقافة الهمجية لتجعل من تعز مدينة الجهل والتخلف. فهل سيعي الساسة مغبة ما يُجهضون من حُلم ,ويعودون إلى رشدهم..؟؟! لأننا لا نريد منهم شيئاً سوى أن يدعونا وشأننا ولنا في التقدم خيار.