في غابر العصرِ والأوان، بعد أن لَفَتْ الرصاصة الزمان، كان ثمةَ “مِعزة” ترعى بين الجبالِ والوديانِ، يغشاها وصاحبها السكينةُ والأمان، نظف شخصُ بُندقهُ ونَسي اغلاق “الأمان”، فجاء صبي يلهو ب”البُندقِ” الفَتان، في ذلك الحين سُمِع نعيق الغِربان، وحطت ذبابةُ على أذنِ المعزةِ الظمآن، وكأنما حصلت لها على مستقرِ وعنوان، فإذا بالمعزة ترفع ساقها قربَ الأذنِ في دَوخان، وتلوك الهواءَ بالأضراس والأسنان، عسى الذبابة تطير بعيداً ويَعمُها النسيان، لكن الساقَ لا تصل عش الذبابةِ الطنان.. ولوكُ الأسنانِ ذهبَ هباءً بالمجان. والصَبيُ ما زال يلهو ب”البُندقِ” طيشان، إلى ان سَمِعَ “قارِحاً” هَزَ عُمق القريةِ والأركان. أنذاك عامت المِعزةُ في دمها الفائرِ كالبركان، واختفت الذبابةُ والصبي فجأةً كما يختفي الشيطان.. وحينَ حامَ أهلُ القريةِ المعانونَ من الحِرمان، حول المِعزةِ وصاحبها النكدان والتعبان، تساءلوا “كيف اخترقت رصاصةُ الساقَ وقرب الأذنِ في آن؟”، وظلَ السؤالُ سؤالاً لم يُجب عليهِ إنسُ ولا جان.. حتى دأبَ حكيمُ في التأملِ بتفان، وأدركَ سرَ الحادثةِ بإتقان، وقال “أجت الرصاصةُ معَ التِحكاكة، فهل أدركتَ يا زعطان ويا فَلتان..؟”.. وتناقل القوم من بعده هذا المثلَ بتقديرِ واستحسان.. حالنا في اليمن لم يَعد يرضي أحداً، لا صديقاً، إن كان لنا صديق، ولا عدو. وقوى التنفذِ والاقطاع التقليدية “تَشُط وتَمُط” الشعب، والجميع يدرك هذا، وبإمكاننا أن نشير إليها بالبنان ونعدها، لكننا نكتفي ب”الحشوش” عليها في المقايل، وما إن نخرج منها حتى نبدأ بالتفنن في توصف الأزماتِ التي نمر بها طولاً وعرضاً وارتفاعاً، فمنا من يقول أن الشعب هو السبب وآخر يقول أنه ابتلاء وأما المثالي مِنا سيقول أنها أزمةُ أخلاق لا غير، وكأن لا وجود لمراكز القوى والتنفذ التي يصبح الوضع الحالي أكثرَ ملاءمة لها كلما تَدهور وتأزم أكثر، وتتفنن في صناعة العراقيل والمعوقات أمام الحياة اليومية للناس، فبعدما رأوا البساط يسحب، أو أنه قد سُحبَ فعلاً، من تحت أقدامهم، بدأوا في تأزيم الوضع حتى يعودوا إلى واجهةِ المشهد من بوابةِ “المُساهمينَ في إنقاذ الشعب”، لكنهم ومع كل يوم يأتي ينكشفون أكثر وأوراقهم المفضوحة وتَّساقط عنهم الاقنعة التي لطالما تقمصوها.. لِذا ومن المُهِم لنا ألا نلقي بلائمةِ الأمور على المجهول، وألا نُضيعَ جهداً في تقزيمِ الأحداث، كل أزمةِ نمر بها هنالك سبب وجيه وراؤها، هناك من يريدون معاقبتنا، بل ويتلذذون بذلك. من الأحرى بِنا ألا نكون كأولئكَ الذين لَمهم الانبهار بمنظر “المعزة” وقد خرقت رصاصةُ واحدة أسفل ساقها وجوار أذنها، لقد بدأوا في البحث في حال الضحية، دون أن يكلفوا أنفسهم عناء السؤال عمَّن أطلق الرصاصة..وهكذا... مع التِحِكاكة. «أجت مع التِحكاكة» مثل شعبي قديم سمعتهُ ذات مرةِ من جدتي، ولم أسمعه بعدها إلا في الأيام الأخيرة.