تتقارب ذكرى المولدين النبويين الشريفين محمد والمسيح عليهما الصلاة والسلام كما تقاربت من قبل بعثتهما، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: “أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِابْنِ مَرْيَمَ، الْأَنْبِيَاءُ أَوْلَادُ عَلَّاتٍ، وَلَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ نَبِيٌّ” (رواه مسلم برقم 2365) وفي ذكرى المولدين الشريفين للنبيين محمد والمسيح – عليهما الصلاة والسلام- نيمّم وجوهنا شطر كتاب الله تعالى لنطالع حديث القرآن عن المولدين الشريفين.. أول ما نلاحظه أن القرآن الكريم قد تحدّث باستفاضة عن ميلاد المسيح – عليه السلام - حتى إن القرآن تحدث عن ميلاد أم المسيح مريم البتول – رضي الله عنها - ففي ميلاد مريم، ولزومها المحراب، وكفالة نبي الله زكريا – عليه السلام- لها، وكيف كان يأتيها رزقها رغدًا بغير حساب، يقول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ، ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ، إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (آل عمران). وفي ميلاد المسيح عيسى بن مريم – عليه السلام- يقول الله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا، فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا، قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا، قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا، قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا، قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا، فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا، فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ؛ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا، فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا، وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا، فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا} [مريم: 16-26]. فنجد أن القرآن قد تحدث عن ميلاد (مريم) أم المسيح في سورة «آل عمران» وعمران هذا هو والد مريم وجد عيسى – عليه السلام - وينتهى نسبه إلى الخليل إبراهيم - عليه السلام - وميلاد المسيح – عليه السلام - ذُكر في سورة «آل عمران» (الآيات: 45-51) وفي السورة التي حملت اسم أمه (مريم) أي أن ميلاد المسيح ونسبه مبسوط بسطًا في سور القرآن آيات وتسمية. أما عن ميلاد سيد الأولين والآخرين محمد رسول الله – صلى الله عليه وسلم - فلا نجد سورة تحمل اسم أمه – صلى الله عليه وسلم - ولا آيات تتحدث عن ولادته الشريفة في القرآن، وهو من نزّل عليه القرآن؛ وما ذلك إلا لأن ميلاد المسيح كان (آية) ضل فيها اليهود والنصارى فكان التفصيل فيها لصحة الاعتقاد، بينما كانت ولادته صلى الله عليه وسلم طبيعية لا آية فيها إلا ما تعلّق بها من أحداث. ومما تعلّق بمولده الشريف وتحدّث عنه القرآن حادثة الفيل، والتي وقعت قبل مولده صلى الله عليه وسلم بخمسين يومًا أو بخمسة وخمسين يومًا، فقال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ، أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ، وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ، تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ، فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} «سورة الفيل» وهذه الحادثة عدّها شيخ الإسلام ابن تيمية (661-728ه = 1263-1328م) من آيات النبوّة فقال في كتابه (الجواب الصحيح لمن بدّل دين المسيح): "وقد تواترت قصة أصحاب الفيل، وأن أهل الحبشة النصارى ساروا بجيش عظيم، معهم فيل، ليهدموا الكعبة لما أهان بعض العرب كنيستهم التي في اليمن؛ فقصدوا إهانة الكعبة وتعظيم كنائسهم، فأرسل الله عليهم طيرًا أهلكهم، وكان ذلك عام مولد النبي صلى الله عليه وسلم، وكان جيران البيت مشركين يعبدون الأوثان، ودين النصارى خير من دينهم". فعُلم بذلك أن هذه الآية لم تكن من أجل جيران البيت حينئذ، بل كانت من أجل البيت أو النبي صلى الله عليه وسلم الذي ولد به في ذلك العام عند البيت أو لمجموعهما، وأي ذلك كان فهو من دلائل نبوته، فإنه إذا قيل: “إنما كانت آية للبيت وحفظًا له وذبًّا عنه؛ لأنه بيت الله الذي بناه إبراهيم الخليل، فقد علم أنه ليس من أهل الملل من يحج إلى هذا البيت ويصلّي إليه إلا أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ومحمد هو الذي فرض حجّه والصلاة إليه، فإذا كان هذا البيت عند الله خيرًا من الكنائس التي للنصارى، حتى إن الله أهلك النصارى أهل الكنائس لما أرادوا تعظيم الكنائس وإهانة البيت، عُلم أن دين أهل هذا البيت خير من دين النصارى، والمشركون ليسوا خيرًا من النصارى فتعيّن أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم خير من النصارى، وذلك يستلزم أن نبيّهم صادق، وإلا فمن كانوا متبعين لنبي كاذب فليسوا خيرًا من النصارى بل هم شرار الخلق}. وإذا كانت سيرة كل إنسان تبدأ عند مولده، فسيرته صلى الله عليه وسلم بدأت قبل مولده بقرون عدّة حينما تضرّع أبو الأنبياء الخليل إبراهيم وولده الذبيح إسماعيل – عليهما السلام - بالدعاء وهما يرفعان قواعد البيت {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} «البقرة: 129» وقرّر النبي صلى الله عليه وسلم هذه الحقيقة في قوله: “إِنِّي عَبْدُ اللهِ لَخَاتَمُ النَّبِيِّينَ، وَإِنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمُنْجَدِلٌ -أي كان بعدُ ترابًا لم يُصَوَّر ولم يخلق - فِي طِينَتِهِ، وَسَأُنَبِّئُكُمْ بِأَوَّلِ ذَلِكَ دَعْوَةُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ، وَبِشَارَةُ عِيسَى بِي” «صحيح لغيره- رواه أحمد في مسنده برقم: 17150». رحم الله أمير الشعراء أحمد شوقي (1285-1351ه = 1868-1932م) حينما قال: وُلد الهدى، فالكائناتُ ضياءُ وفمُ الزّمان تبسُّمٌ وثناءُ الرُّوحُ والملأُ الملائكُ حَولَهُ للدِّين والدنيا به بُشراءُ والوحيُ يقطرُ سلسلاً من سلسلٍ واللوحُ والقلمُ البديعُ رُواءُ يا خير من جاءَ الوجودَ تحية من مُرسلينَ إلى الهدى بك جاؤوا وقال شاعر الرسول حسان بن ثابت – رضي الله عنه: أغَرُّ، عَلَيْهِ لِلنُّبُوَّةِ خَاتَمٌ مِنَ اللَّهِ مَشْهُودٌ يَلُوحُ ويُشْهَدُ وضمَّ الإلهُ اسمَ النبيّ إلى اسمهِ إذا قَالَ في الخَمْسِ المُؤذِّنُ أشْهَدُ وشقّ لهُ منِ اسمهِ ليجلهُ فذو العرشِ محمودٌ، وهذا محمدُ نَبيٌّ أتَانَا بَعْدَ يَأسٍ وَفَتْرَةٍ منَ الرسلِ، والأوثانِ في الأرضِ تعبدُ فَأمْسَى سِرَاجاً مُسْتَنيراً وَهَادِياً يَلُوحُ كما لاحَ الصّقِيلُ المُهَنَّدُ وأنذرنا ناراً، وبشرَ جنة وعلمنا الإسلامَ، فاللهَ نحمدُ وأنتَ إلهَ الخلقِ ربي وخالقي بذلكَ ما عمرتُ فيا لناسِ أشهدُ تَعَالَيْتَ رَبَّ الناسِ عن قَوْل مَن دَعا سِوَاكَ إلهاً، أنْتَ أعْلَى وَأمْجَدُ لكَ الخلقُ والنعماءُ، والأمرُ كلهُ فإيّاكَ نَسْتَهْدي، وإيّاكَ نَعْبُدُ فاللهم صلِّ وسلم وبارك على نبيّك محمد ونبيّك عيسى عليهما السلام، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.