استقلال أي شعب من الشعوب إنما يعني في بعده السياسي سيادة هذا الشعب على أرضه ومقدراته وامتلاكه لخياراته الحرة في بناء ذاته والتفاعل الايجابي مع الآخرين وبما يخدم تطوره وتقدمه. هذا ما نستحضره في الذكرى ال 45 ليوم الجلاء ال 30 من نوفمبر 1967م حينما رحل قسراً آخر جندي بريطاني عن مدينة عدن الباسلة وتحرر جنوباليمن من الاستعمار بعد ثورة اختطت الكفاح المسلح والعمل الفدائي من يوم انطلاق شرارتها في 14 اكتوبر 1963م من جبال ردفان. إن الاحتفاء بهذه المناسبة إنما هو احتفاء بقيم ومبادئ وأخلاقيات جعلت هذا اليوم استثنائيا في تاريخ اليمن الحديث ومن الثورة اليمنية واحدة من الثورات الكبرى في التاريخ لما أحدثته من أثر في مجرى الحياة اليمنية المثقلة بأعباء التخلف والتواءات الطريق والصراع الإيديولوجي. إن التضحية والإيثار والشجاعة النادرة التي جسدها الثوار والمناضلون من جميع فئات الشعب في أنحاء اليمن الطبيعية حرية بنا واليوم وغداً أن نجلها ونقدرها ونتمثلها ونعلي من شأنها ونجسدها في سلوكنا اليومي لأجل يمن موحد ينعم بحريته وسيادته في ظل ثقافة وطنية جوهرها الإيثار والتضحية من أجل تحقيق مصالح الشعب والوطن وأمنه واستقراره ووحدته وتجاوز المحطات السلبية التي تمثل استثناء في تاريخ اليمن واليمنيين والانطلاق بصدق وإخلاص مع النفس ومع الآخرين من أجل التفاهم والحوار وبناء مستقبل اليمن المشرق على أسس العدل والإنصاف بدءاً بالوفاء لكل من أسهم وبطريقة ما في صنع حرية الشعب من الاستبداد والاستعمار وبذل الجهد في سبيل تحقيق مبادئ وأهداف الثورة التي ضحى من أجلها الشهداء وصنعوا بدمائهم تاريخاً جديداً. إن الإنصاف كقيمة بين تشكيلة القيم السامية من الضروري أن تومض في كل نواحي الحياة اليمنية التي يكتنفها القلق وتداعيات الصعوبات والتحديات والأحداث التي حصلت وتحصل الآن كامتداد لمشكلات متراكمة وأخطاء عبر مسيرة العمل الوطني من الثورة إلى الوحدة وصولاً إلى الأزمة الراهنة. فالإنصاف كما ينظر إليه الفقهاء صورة من صور العدل الاجتماعي في ديننا الإسلامي الحنيف ويذهبون في تفسير معناه بإزالة الظلم والقهر الذي يقع على الأفراد بشكل أو بآخر من خلال منحهم كامل حقوقهم ومنها الحقوق المعنوية والمادية والاعتبارية والإنسانية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية وغيرها من الحقوق. ووفاء للثوار ومبادئ وأهداف الثورة تأتي ضرورة الانتصار للغايات التي قامت من أجلها الثورة: العدل والمساواة والحرية والكرامة الإنسانية لكل يمني والسيادة للشعب. ولقد آن الأوان للتنافس الحقيقي في سبيل تحقيق مالم يحققه المناضلون من هذه الغايات وذلك من خلال إبراز قيم التضحية والإيثار والشجاعة في الإقدام على المشاركة في مؤتمر الحوار الوطني والدفع بقوة باتجاه إقناع الناس وطمأنتهم خاصة الذين ينتظرون تنفيذ النقاط العشرين المتفق عليها في اللجنة التحضيرية لمؤتمر الحوار الوطني سواء ما يتعلق منها بالحراك الجنوبي أو مشكلة صعدة أو النقاط الأربع ذات الصلة بالقضايا الأخرى وتجعل من جملة النقاط جرعة وقائية لحوار وطني في مناخ صحي. إن اليمن اليوم صفحة مفتوحة نقرأ فيها ماضياً حضارياً ومجيداً ومآثر عظيمة إنما تشكلت هذه الحضارات في ظل الأمن والاستقرار ودول قوية ومع أن التاريخ بدولة المتعاقبة ترك أيضاً سطوراً سوداء من التمزق والاستبداد والانكشاف أمام الأطماع الخارجية وفشل الرهانات على الخارج للاستقواء به ضد غزو أو احتلال أجنبي فمن الانصاف أن يلتقي اليمنيون اليوم على طاولة الحوار لبحث ودراسة وتشخيص المشكلات والأمراض ورواسب الأمور المخيفة التي تفرض حلولاً دائمة وعلاجاً شافياً يوجبه واقع العصر وظروفه ووعي أبناء الشعب بدلاً من إحياء نزعات سلبية وهويات صغيرة طائفية أو مناطقية أو قبلية. إن المعاناة من اختلال بنية الدولة اليمنية بالهروب من واجب المشاركة الإيجابية والفاعلة في عملية التغيير والتمترس خلف ولاءات أدنى من الولاء الوطني ليمن 22 مايو إنما يعكس وعياً منقوصاً بالتاريخ اليمني والآثار المدمرة لصراعات حقبه القريبة وعلة السياسات العامة في العقدين الماضيين وامتداد الفهم القاصر لمعنى التغيير المنشود والذي عجزت النخب والأحزاب والجماعات عن رسم طريقه فترمدت في الكثير من الأحلام والطموحات في مجرى العملية الثورية في زمن التشطير كما عجزت الدولة عن إزالة آثار الماضي وصياغة مشروع حضاري جديد لدولة ينتقل باليمن إلى المستوى اللائق بها بين الأمم والشعوب في النهج الديمقراطي الذي بدأ في أجواء عكرة وتقاسم للسلطة بين شريكي الوحدة ،الآن وقد اتفق اليمنيون والتقى العالم على كلمة سواء حول الأزمة اليمنية وسار الناس خطوات نحو المحطة الأهم وهي محطة مؤتمر الحوار الوطني الذي سيقوم بمراجعة شاملة لكل ما مر به اليمن من فتح طريق التغيير في عمق الذهنية للإنسان اليمني وبناء المصوغات القانونية والسياسية والأخلاقية الضامنة للإنسان كي يغادر مربع الأوهام والأحلام الكاذبة ويتوجه إلى تحقيق فاعليته كمواطن يمتلك ناصية الأمر باعتباره محور الخير وغاية التنمية ووسيلتها وهو مالم يستطع تحقيقه خلال عمر الثورة اليمنية حين كانت تتخطفه الموروثات السلبية والحركات والجماعات والأحزاب والقوى التقليدية المتنفذة وسلبت إرادته بل وتجعله ضحية لصراعاتها الإيديولوجية وركنه هو ذاته إلى لغة السلاح وطال به الحال لمستهلك أفكار المستفيدين بين الصراعات والطامعين إلى السلطة ومجاراة الواقع الذي ضحى الثوار وبذل المناضلون كل غال ونفيس من أجله: الحرية والعدالة والمساواة والوحدة والديمقراطية وقبل كل شيء الكرامة الإنسانية، فهل هناك من لا يعي اليوم معنى التضحية والإيثار من أجل بناء يمن مغاير لا يبتلع نظامه خصوصيات الجماعات والمناطق وحقهم التنافس من أجل مستقبل أفضل؟.