دخلت الحرب في مالي بين القوات الفرنسية والجيش المالي والقوات الإفريقية من جهة والجماعات الإسلامية المسلحة من جهة أخرى، أسبوعها الثالث على التوالي وسط تحول استراتيجي في مسار المعارك، وبدء أطراف التدخل الترتيب لجملة من الإجراءات الهادفة إلى تقصير أمد الحرب وتقليل خسائرها . على المستوى الميداني حققت عملية "القط المتوحش"، الاسم الكودي، للتدخل العسكري في مالي، تقدما غير متوقع، فخلال الأسبوعين الماضيين كسبت القوات الفرنسية والجيش الحكومي المالي جبهتي الوسط والغرب وتوغلت في جبهة الشمال محررة مدينتي "تمبكتو"، و"غاوه" من دون خسائر تذكر، وحتى قبل وصول القوات الإفريقية إلى أرض المعارك، فقد أدى القصف الفرنسي المركز لمقار الجماعات الإسلامية في المدن، ومراكز التموين والإمدادات إلى إخلاء الجماعات المسلحة مدن الوسط والغرب والشمال، واستغلت القوات الفرنسية والمالية الوضع وتقدمت بشكل سريع نسبياً إلى مدن الشمال التي دخلت معركتها مرحلة الحسم، وذلك على مشارف مدينة "كيدال"، آخر معاقل الجماعات الإسلامية المسلحة في أقصى شمال البلاد . ويؤكد خبراء عسكريون في نواكشوط أن الطريق باتت ممهدة أمام القوات الفرنسية والإفريقية للدخول إلى "كيدال"، وإحكام القبضة على جميع مدن الشمال المالي (إقليم "أزواد") التي كانت تقع تحت سيطرة الجماعات الإرهابية منذ 9 أشهر، خاصة أن دخول هذه المدن تم من دون عمليات قتالية تذكر بسبب انسحاب الإسلاميين منها . مع الأسبوع الثالث اتضحت معالم خطة تحرير الشمال المالي، الذي يمثل 65% من أراضي جمهورية مالي، أي ما يعادل مساحتي فرنسا وبلجيكا معاً، فقد عمدت القوات الفرنسية والجيش المالي إلى تطويق هذه المدن من جبهتي الجنوب، عند مدينتي "أدوينزا" و"أسونغو" ومن الغرب حيث محور مدينتي "اديبالي - ليره"، وبذلك ضمنت القوات الدولية خطوط الإمدادات والعمل على تلافي الثغرات التي يمكن أن يتسلل منها الإسلاميون إلى الخطوط الخلفية للقوات المتقدمة نحو الشمال . وفي هذه المرحلة انتهى امتحان دخول "غاوه" و"تمبكتو"، فيما يبقى الوضع بالنسبة إلى مدينة "كيدال"، 1500 كلم من العاصمة باماكو، وأقصى مدن الشمال المالي، هو محل التساؤل، خاصة أن الجماعات الإسلامية المسلحة (أنصار الدين، وتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، وجماعة التوحيد والجهاد في غربي إفريقيا)، اتخذت تحصيناتها داخل الجبال والمناطق الوعرة في ولاية "كيدال"، وتراهن على انطلاق عملياتها من تلك المناطق وفق خطة الاستنزاف طويلة الأمد التي أعلن عنها قادة هذه الجماعات وخاصة إيا آغ غالي ويحي أبو الهمام، اللذين أكدا أن الانسحاب من المدن هو انسحاب تكتيكي لترتيب أوراق العملية، وأكدا العودة إلى المدن في وقت قريب . ويوضح الخبراء العسكريون أن انسحاب المقاتلين الإسلاميين من جبهتي الوسط والغرب بعد الأيام الثمانية الأولى من المعارك الطاحنة، لم يجعل هذه الجماعات تخسر جبهتي الوسط والغرب وأجزاء كبيرة من الشمال، فحسب في هذه الفترة، بل حوّل مهمة القوات الفرنسية والإفريقية - في المرحلة الحالية - إلى مهمة سهلة عسكرياً قياساً إلى ما كان متوقعاً، حيث تقدمت بسرعة فائقة نحو الشمال الاستراتيجي، مع احتياطات هائلة من الألغام والكمائن، ولم يعد إذاً، تحرير كامل مدن الشمال يمثل تحدياً عسكرياً، حيث استفادت هذه القوات من عملية إخلاء المدن التي قامت بها القاعدة في مناطق الوسط والغرب ومدن الشمال . ما ميز هذه المرحلة أيضاً من الحرب هو قلة الخسائر البشرية في قوات التدخل، فلم يعلن الجانب الفرنسي ولا المالي عن خسائر في الأرواح بعد اليوم الأول لانطلاقة المعارك في محور "سفاري - كونا" (وسط) وتالياً معركة "اديابلي" (غرب)، كما لم يعلن عن خسائر لافتة في المعدات (طائرات أو دبابات)، وبدا وكأن المرحلة المنصرمة من الحرب هي الأنظف من حيث قلة الخسائر، دون إغفال أن القوات الفرنسية المشاركة في العملية (2500 عسكري)، هي في أغلبها من القوات الخاصة، ومعروف أن هذه القوات لا تعلن خسائرها البشرية نظراً لطبيعة اختيار أفرادها اجتماعياً (الفيلق الأجنبي) . وإجمالاً يمكن القول إنه باستثناء اليوم الأول لم تخسر فرنسا سوى "الذخائر"، فيما وصلت تكلفة العمليات خلال أسبوعين إلى 30 مليون أورو، بحسب وزير الدفاع الفرنسي . كما أشرنا في تحليلنا الأسبوع الماضي، أدى نجاح التدخل العسكري الفرنسي في مالي إلى وقف تقدم الإسلاميين نحو الجنوب، بل واندحارهم إلى أقصى الشمال، وإلى تسريع التدخل الإفريقي، ومع دخول الحرب أسبوعها الثالث خسرت الجماعات الإسلامية المسلحة أكثر من 90% من الأراضي التي كانت تسيطر عليها وتم تحرير 7 مدن، ووصلت أغلب القوة الإفريقية المشكلة من ثماني دول، واتخذت القوات الإفريقية مواقعها في المدن التي تم تحريرها، فيما أسند للقوات القادمة من النيجر والتشاد تأمين مدن الشمال، ومعروف أن القوات النيجيرية والتشادية هي الأفضل من بين القوات الإفريقية الأخرى، كونها تملك تجارب ميدانية في الحروب ومواجهة جماعات التمرد . ويجب ألا نهمل هنا أن "الإيكواس" دعت إلى زيادة القوات الإفريقية في مالي عن العدد المقرر (6 آلاف عسكري)، بهدف ضمان تسريع تحرير الشمال المالي . شكّل انسحاب الجماعات الإسلامية من المدن وسط وشمالي وغربي مالي، مفاجأة لبعض المراقبين الذين توقعوا معارك مدن وحرب شوارع طاحنة على غرار ما حدث في مدن "سفاري، كونا، اديابلي"، وقد طرحت سيناريوهات عدة تفسر هذا الانسحاب، الذي ظهر لاحقاً أنه انسحاب تكتيكي ذو أهداف مزدوجة . يرى محمد محمود ولد أبو المعالي، أحد أبرز المختصين في شؤون الجماعات الإسلامية المسلحة في منطقة الساحل "أن هذا الانسحاب يأتي في إطار حرب العصابات التي تعتمدها هذه الجماعات، لأنه من خلالها تتفادى مواجهة الجيوش المنظمة، وتحاول تفادي أكبر كم من الخسائر في صفوفها خاصة في مواجهة قصف الطيران، لذلك قامت الجماعات المسلحة بإخلاء المدن، وهي الآن تحاول استدراج القوات إلى كمائن، وإطالة خطوط الإمدادات، عبر توغل القوات إلى الداخل المالي حيث يسهل على مقاتلي الجماعات الإسلامية تنظيم عملياتهم ضمن خطط حرب العصابات" . ويرى أن الهدف المتبقي من هذه الحرب هو الأصعب، لأنه مرتبط بتحرير كامل تراب "أزواد" (الشمال المالي)، وطرد هذه الجماعات من هذا الحيز الجغرافي، الذي انتشرت فيه بشكل متفاوت منذ عشر سنوات، واحتلته نهائياً منذ 9 أشهر . ويشير إلى أن الجماعات الإسلامية مازالت تتمتع بقوة كبيرة وتسليح جيد، ورغم أسابيع من القصف، فلم يعلن عن مقتل أي من قادتها، كما أنها الآن في أقصى الشمال، أي معاقلها الرئيسة، الأكثر ملاءمة لعمليات الكر والفر والاختباء . ويرى أن الأسابيع المقبلة ستعطي صورة أوضح بعد استقرار القوات الفرنسية والإفريقية في الشمال في مواجهة المقاتلين الذين يتبنى بعضهم قضية تحرير "أزواد" . نحو كسب الطوارق "المعتدلين" الجانب الفرنسي والقوى الإقليمية والدولية، لم تكتف بالعمل العسكري المباشر ضد الجماعات المسلحة في شمال مالي، بل ظهر جليا أن الأطراف المشاركة في الحرب والداعمة لها، ركزت منذ الأسبوع المنصرم على إخراج "المعتدلين" من الجماعات الإسلامية المسلحة من أرض المعركة، خاصة الطوارق والعرب الماليين . وحققت هذه الجهود تقدماً معتبراً بعد أسبوعين من بدء عمليات القتال، فتم الإعلان عن أول انقسام في صفوف "حركة أنصار الدين"، كبرى الفصائل المسلحة في شمال مالي، والمؤلفة أساساً من طوارق إقليم "أزواد" . وقاد هذا الانشقاق الزعيم القبلي البارز" الغباس اغ انتالا"، الذي أعلن هو ومقاتلوه تأسيس "حركة أزواد الإسلامية" ورفضهم لأي شكل من أشكال الإرهاب والغلو، ودعوا إلى المفاوضات مع الحكومة المالية والتوصل إلى "حلّ سلمي" لمشكل شمالي مالي الذي شهد محاولات انفصالية عدة خلال العقود الماضية . وحسب مراقبين ميدانيين، فإن الفضل في هذا المجهود يعود إلى الجزائر، التي حاولت إمساك الملف القبلي لمنطقة شمالي مالي منذ فترة، ونجحت في كسب العديد من كبريات العشائر العربية والطوارقية التي تعتبر الأكبر والأهم في منطقة الشمال، وذلك في محاولة لعزل متطرفي "أنصار الدين" المتحالفين مع القاعدة، عن وسطهم الاجتماعي، خاصة عن قائد الحركة "إياد آغ غالي"، الذي تحالف مع الجماعات الإرهابية، ودشن الهجوم ضد الجنوب المالي . ويضاف هذا النجاح إلى ما تحقق سابقاً عبر جهد "جزائري موريتاني فرنسي" مشترك، من كسب علمانيي العرب والطوارق ("الجبهة الوطنية لتحرير أزواد"، و"الحركة الوطنية لتحرير أزواد") وقبولهم للحل السلمي في "أزواد" . وقد وفرت دول الجوار، وخاصة: الجزائر وموريتانيا وبوركينافاسو، مناطق آمنة في أراضيها لمقاتلي هذه الحركات، إلى حين أخذ الأمور مسارها النهائي على مستوى العمليات العسكرية بين القوات الفرنسية والإفريقية وبين الجماعات الإرهابية . وتؤكد المعلومات المتوافرة في نواكشوط أن فرنسا وأمريكا تباركان "المشروع الجزائري الموريتاني البوركينابي"، المتمثل في قيام "صحوات" من طوارق وعرب مالي لتأمين المدن التي يتم تحريرها وعزل الجماعات الإرهابية التي كادت تقلب الموازين في منطقة الساحل لولا التدخل العسكري في مالي .