من السهل إبادة الخراف، وبفضل الذاكرة وحدها تغدو إبادة البشر عملاً مستحيلاً. الاحتلال الذي يدير صراع وجود يخشى الآثار ويستهدف وجودها بقدر استهدافه لوجود البشر المقاومين. هذا ما فعله المستعمر الأوروبي مع الهنود الحمر، وهذا ما يحاوله الاستيطان اليهودي الأوروبي في فلسطين، وهذا ما تفعله الجماعة الأممية (الإخوان المسلمون) في مصر منذ تسلمت الحكم. ومع الاحترام لكل الفروق بين جماعة سياسية يحمل أعضاؤها الجنسية المصرية وبين احتلال أجنبي؛ فهي تشترك مع الاحتلال الاستيطاني في زاوية واحدة على الأقل؛ هي إدارة الصراع على أساس المغالبة، أي تحويل الصراع السياسي إلى صراع وجود. وفي مواجهة هذه العقيدة القتالية لدى الجماعة، لا تصلح ذاكرة الخراف، ولا عذر لسياسي يفقد ذاكرته في هذا الزمان، إذ يمكن لفاقدي الذاكرة الاستعانة بجوجل الذي يعرف كل شيء. وعندما تذهب الشخصيات التي تصدرت مشهد المعارضة السياسية وتوقع وثيقة جديدة في الأزهر دون أن تتذكر وثائقه السابقة تكون قد اختارت الخروج من التاريخ هي والشيخ الجليل أحمد الطيب شيخ الأزهر. وهو يمتلك الكثير من النوايا الطيبة، والكثير من الاستنارة، ولا يشبهه من الموقعين على الوثيقة الجديدة سوى محمد البرادعي، الرجل الذي قدم غطاء أخلاقيًا لثورة الشباب منذ تقاعده وعودته إلى مصر أوائل 2010. ' ' ' الحكمة، بحاجة إلى ذاكرة تحميها من الزلل. وقد سبق لشيخ الأزهر أن قدم مبادرات مشكورة، أولها في يونيو 2011 بشأن المبادىء الحاكمة للدستور، وفي أكتوبر من ذات العام قدم وثيقة 'إرادة الشعوب العربية' وفي يناير 2012 تقدم الشيخ الطيب بوثيقة جديدة حول الحريات، وفي ختام 2012 تقدم بمشروع وثيقة حقوق المرأة، عطلها رفض الإخوان. وثائق الأزهر موجودة، وفيها الكثير من النوايا الطيبة لدولة مدنية مستنيرة، ولا أثر لتلك المباديء في الدستور الذي يمثل حالة اختطاف وسرقة بالإكراه، ولا أثر لها في خطاب الجماعة العنصري ضد الأقباط والتكفيري ضد المسلمين الآخرين. ولا يمكن أن يكون الدكتور الطيب قد نسي وصاياه السابقة المغدورة، لأن وثيقة المرأة عمرها شهر واحد وظلت محل جدل لم توقفه إلا الأحداث الأخيرة، لكن شيخ الأزهر الذي يحمل دكتوراة من السوربون يميل فيما يبدو إلى صفته الأخرى؛ فهو ابن عائلة، لها كلمتها في الصعيد، وكلمته من بعد كلمة أبيه لها كل الاحترام في حل نزاعات عائلات الأقصر من خلال جلسات الصلح العرفية. لكن حتى الجلسات العرفية لها تقاليدها القائمة على الذاكرة، فلا يصح أن يبدد صاحب المكانة مكانته بالتوسط في قضايا متكررة لطرف يدمن نقض العهود. ولو عاد الطيب إلى وثائقه السابقة، سيندهش من حجم التطابق في ديباجة التقديم التي تنطوي على تمجيد حكمة الموقعين عليها، بما في ذلك وثيقة نبذ العنف، ولكن الظرف الذي صدرت فيه هذه الوثيقة الأخيرة ينزع صفة 'الحكمة' عن الموقعين. ' ' ' جاءت الوثيقة الجديدة بعد عنف راح ضحيته العشرات، خصوصًا في بورسعيد والسويس. وهناك استحقاق قانوني يجب أن تدفعه جماعة الحكم؛ فالحاكم إما أن يكشف عن مرتكبي الجرائم أو يعلن فشله ويرحل احتجاجًا على الفوضى الخارجة عن سيطرته. ووجود أحد المتنازعين في السلطة ينزع الشرعية عن جلسة الصلح العرفية؛ فالمعتاد في الذاكرة الجمعية أن جلسة الصلح تكون بين طرفين لا يملك أحدهما أدوات الدولة. والأدهى من التحكيم بين غير متساويين أن بنود الوثيقة تعفي السلطة من الخطأ، لأنها تشير إلى جماعات متعاركة (بدلاً من عائلات كما هو الحال في مضافة عائلة الطيب بالأقصر) وهذه المساواة تعني ببساطة: أولاً: تبرئة السلطة من مسئولية تورطها في القتل سابقًا ولاحقًا. ثانيًا: إعفاء السلطة من مسؤوليتها الأصيلة في الكشف عن المتهمين. ثالثًا: اتهام الثوار بممارسة العنف، لأن روح الوثيقة تؤكد أن العنف صار آلية الحراك السياسي، بينما هو في الحقيقة إجرام يخططه أصحاب المصلحة لتلويث الثورة وتخليصها من سلميتها، أي باختصار يستهدف اغتيال آلية الحراك السياسي، منذ موقعة الجمل مرورًا بمذبحة مدرج كرة القدم في بورسعيد إلى المذابح الأخيرة. والوثيقة فوق كل ذلك تدين موقعيها؛ فمن يرى في نفسه الكفاءة لوقف العنف يسهل اتهامه بتأجيجه. ولكن الجميع يعلم أن الغضب لا يمكن أن ينتهي إلا بعلاج أسبابه، وهذه الوثيقة ليست سوى نوع من إبراء الذمة، وخضوع طوعي من جبهة الإنقاذ لسلطة تتهمها بتهييج الشارع وإثارته. مبالغة يعرف الإخوان فائدتها، والوقائع تقول إن التحكم في الشارع تهمة لا تستحقها قيادات جبهة الإنقاذ وشرف لا يمكنها أن تدعيه، يستوي في ذلك الرجل النقي محمد البرادعي مع السياسيين القدامى المخلصين لطريقتهم المثلى التي جربوها مع مبارك 'معارضة البين بين' من أمثال السيد البدوي مع نماذج جيل الوسط التي تبدو واثقة في مؤهلاتها العلمية أكثر من اللازم مثل عمرو حمزاوي. الغضب الشعبي يطلب استحقاقات الثورة كرامة وخبزًا. وكل من له عين ترى يعرف أن الشارع بلا قيادة، ويسبق كل السياسيين منذ مقتل الشاب خالد سعيد في يوليو2010وحتى الموجة الحالية من الثورة المصرية. والمضحك أن يخرج الموقعون ليعلنوا أن الوثيقة التي تدعو للحوار لا تمنع مشاركتهم في مسيرات الغضب! فاز الإخوان بالمردود الإعلامي الدولي لوثيقة بلا رؤية ولا قيمة، وفازت المعارضة بتأكيد صورتها كجماعة فاقدة الوعي، بينما هتاف الميادين المزلزل: ارحل! والوثيقة الجديدة ستنام مع سابقاتها، لكنها الأخطر في وصايا الطيب المغدورة، وأكبر خطرها على جبهة الإنقاذ نفسها، التي تتحول من تحالف لإنقاذ الوطن إلى جماعة لإنقاذ جماعة الإخوان، بفضل انعدام الذاكرة ونقص الفطنة السياسية.