في العام 1877 ولد الفنان الإيطالي البرتو جياكوميتي، وتوفي عام 1966 . وهو حسب الدراسات النقدية الكثيرة التي نشرت عنه، يعدّ من أبرز نحّاتي القرن العشرين، حيث توزعت أعماله على العديد من متاحف العالم . بل إن دولة الفاتيكان لديها من أعماله عدد لا يستهان به، كما امتلكت مؤسسة مارغريت العدد الأكبر من منحوتاته الشبحية، لكن لم يكشف عن قامته الفنية كرسّام له أفكاره الخاصة، ولغته التعبيرية المميزة إلا مؤخراً، أي بعد مرور خمسين عاماً على وفاة الفنان الفرنسي الكبير هنري ماتيس الذي ولد عام 1869 وتوفي عام ،1954 حيث أوصى بأن لا تنشر مذكراته إلا بعد مرور خمسين عاماً على وفاته . وهو الذي يذكر في هذه المذكرات زيارة جياكوميتي إلى محترفه، ورسمه بالقلم الرصاص رسومات عدة، رأى فيها ماتيس ما لم يستطع أن يرى أي ناقد للفن، فقد قال عنها إنها براعة رسام سوف يسودّ الرسم الذي امتلأ منه واستوعبه . إنه يقترب من واحد من الهدفين فإما أن يتحول إلى النحت، أو يذهب صوب اللاصورة، أي عالم التجريد الذي يمارسه اليوم بعض الفنانين المتأثرين بالروسي كاندينسكي . إذاً نحن أمام قامة رسام مثابر، لا يكتفي بما يراه بل يحلّله إلى عناصر بصرية عديدة . فمن حيث اللون سنرى أن جياكوميتي يشتغل على مشتقات اللون الواحد في الغالب . وهنا تبرز أهمية الزيح الذي يصير بمثابة الهيكل العظمي لجسد اللوحة . لكنه حين يشعر بأن هذا اللون الواحد يأخذه صوب التصويرية المباشرة، يبدأ عملية السيطرة اللونية وهي عملية ليست سهلة، بالأخص عندما تصير اللوحة حالة صراع مفتوح بين الزيح واللون، ولكي لا يتحول هذا اللون إلى قوّة إلغائية، فإنه يكوّن الشكل المدغم منها، فيكون بذلك قد قسّم مسّطحه التصويري إلى جزأين أساسيين هما الجزء البنائي المكون من حالة الحضور القوي للأزياح مع وضوع الأشكال طبعاً، والجزء اللوني الذي يشكل بكليّته بناء شبه تجريديّ يتكامل مع الأجزاء السفلية . في التخطيطات الستة الذي نفّذها عن الفنان هنري ماتيس عام 1954 بالقلم الرصاص سيقدم صورة الفنان بلا خلفية لذلك يركّز على الشيخوخة، التي يصفها عبر رسوماته بالحكمة أو التجربة الكاملة . لكن عندما سيرسم ذاته في الفترة ذاتها وبأقلام الرصاص سنراه يبدأ بالتقسيم التكعيبي للوجه والقامة . وهذا ما دفع بالفنان موريس دوفلامنك إلى أن ينتقد جياكوميتي لأنه بدأ يغرف من غير صحنه مذكراً إياه بلوحته "الصورة الذاتية" التي رسمها عام 1921 وهي ذات بناء تكعيبي باطني، وضربات وحشية تجنح صوب تعبيرية عقلانية جديدة . وحين يعايش باريس، حيث يترك إيطاليا لفترة لسيت قصيرة، حيث يبدأ بالرسم على نهر السين مثل كل الرسامين المفتونين بالعلاقة بين النهر والعمارة والجسور في باريس، نرى أن المجموعة المنفذة بالألوان المائية تجيء خليطاً بين الأكواريل والغواش، إنه يسعى للوصول إلى الغايات النورانية للمنظر، فلا بأس من أن يستعمل في بعض المناطق المعتمة ألواناً ثقيلة . ومن داخل مرسمه وعبر المرآة التي يثبتها على يمينه يرسم سلسلة من أعماله التعبيرية، لكنه لا ينتبه إلى أن المرآة التي وضعها يمينه وبدأ ينقل عنها الصورة سوف تحيله إلى رسام أعسر . ربما لأنه لم يدرك أن اليد اليمنى تقابل اليمنى في المرآة وأن اليد اليسرى تقابلها اليد اليسرى . وفي العام ،1944 عندما بلغ السابعة والستين من عمره، يتعرّف إلى امرأة أربعينية . ويبدأ برسمها في مجموعة نادرة من اللوحات التعبيرية التي تنطوي على تشريح سطحي معلن . إنه هنا يسعى لأن يقدم نفسه كقوة تصويرية تتوسط بين التعبيرية الأوروبية الطالعة بعد الحرب العالمية الثانية، وبين الاختبارية التكعيبية التي كثّفها بيكاسو في جداريته الكبيرة "الجارنيكا" وهي التي كلّف بيكاسو بإنجازها من قبل الجمهوريين الإسبان . لم يهمل جياكوميتي في أغلب رسومه سواء أكانت صوراً لأشخاص أو مناظر طبيعية، أو حيوات ساكنة، التفاصيل التي تنبّه إليها وخدمته حتى في النحت . وتحت عنوان سنوات التصميم يكتب أيف بونفوي في كتابه الصادر عن دار "فلاماريون" الباريسية قائلاً: "إنه ابتداءً من يناير/ كانون الثاني عام ،1948 حتى بعد عامين من هذا التاريخ انطوى جياكوميتي في محترفه . وبدأ يخطّط لعدد هائل من التصاميم بعضها كان يتناول موضوعات بسيطة كالكرسي والطاولة أو محتويات المرسم، ولكن القسم الأهم من هذه التخطيطات كان لمنحوتات إنسية بدت وكأنها أشباح تطل من زوايا ميتة، وبدت وهي تمشي كأنها خرجت من قبورها" . كانت تلك المرحلة هي المدخل لمرحلة النحت الشبحي ومرجعيتها هو النحت الفينيقي للبحارة الذين كانوا يجوبون البحار، وكأنهم أرواح تهيم فوق أديم البحر ولا تحط إلا بالمرافئ البعيدة . جياكوميتي الفنان الذي ارتبط وجوده بالنحت الشبحي والذي يعتبر علامة من علامات القرن العشرين، شكّل الرسم عنده وجوداً أساسياً انطلق منه صوب التكامل النحتي .