د. زيد علي الفضيل أسس النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع انتقاله للمدينة المنورة بوادر ما يعرف اليوم بالمجتمع المدني، من خلال ما قرره في صحيفة المدينة ابتداء، التي تمثل المرجعية الدستورية والوثيقة الضابطة للعلاقة ما بين مجتمع النبي من المسلمين مع غيرهم من اليهود وباقي القبائل العربية. في تلك الوثيقة الدستورية تبرز شخصية رجل الدولة في ذهنية النبي ومنطقه، وهو ما وضح تباعا في طبيعة تنظيمه لمجتمع المدينة، الذي مثلت الكفاءة الوظيفية بما تعنيه من بُعد مادي ومعنوي، القيمة المعيارية في التفاضل والاستحقاق بين أصحابه، في مقابل تضاؤل أي قيمة مجردة للرابطة الأسرية أو العشائرية، فالناس في عهده إما مهاجرون أو أنصار، لا فرق بين سيد ومسود وأبيض وأسود إلا بالعمل والتقوى. تلك هي بوادر المجتمع المدني التي تسمو إلى تحقيق قيم الحرية والعدالة والمساواة. على أن الأمر لم يستمر طويلا من بعد وفاته، حيث عاد المشهد العربي سريعا إلى ذهنية ومنطق القبيلة، فكان الارتكاز على عنصري التفاضل القبلي بين القيسية واليمانية سببًا في احتدام الحروب الأهلية خلال العهد الأموي وصولًا إلى العهد العباسي، الذي أدخل في الصراع أقوامًا أخرى كالفرس والترك المماليك وغيرهم من الأعراق والأجناس، وكلها للأسف قد دخلت في دائرة الصراع وفق ذهنية عشائرية وليس ذهنية مؤسساتية، ولم يتغير الحال على امتداد الدولة العثمانية التي سارت سياسيا على ما شرعه الأمويون والعباسيون، وليس وفق ما قرره الرسول عليه الصلاة والسلام. على أن الأمر لم يتغير كثيرا مع ولوج القرن العشرين وولادة ما يعرف بالدولة القومية، وتأسيس هياكل مؤسسات المجتمع المدني على الصعيد السياسي والقضائي والتشريعي، حيث ظلت الذهنية العشائرية هي المسيطرة على طبيعة اتخاذ القرار السياسي بشكل أو بآخر، بل تجاوز الأمر حدَّه حين تم النظر إلى الخلافات الفكرية والطائفية بعقلية القبيلة وليس عقلية الدولة، وهو ما تخلصت منه أوربا على أقل تقدير منذ إقرارها لمبدأ التسامح الديني، وإيمانها بالليبرالية كخيار حياتي، وبالتالي إدراكها لأهمية الالتزام بالكفاءة كقيمة مرجعية وليس غيرها، لتحقيق التقدم المنشود، بل وبناءها لسياساتها الخارجية بوجه خاص وفق ما يُحقق غاياتها العليا ومصلحة الأمة والإنسان الأوربي أولا وأخيرا. إنه منطق الدولة الذي كم نحن بحاجة إلى الركون إليه في مختلف قضايانا العربية والإسلامية المعاصرة، لا سيما على الصعيد الإقليمي، المنطق الذي لا عداوة فيه مطلقة ولا صداقات دائمة، ورحم الله الإمام علي حين قال: أحبب حبيبك هونا ما عسى أن يكون بغيضك يوما ما، وأبغض بغيضك هونا ما عسى أن يكون حبيبك يوما ما. [email protected] للتواصل مع الكاتب ارسل رسالة SMS تبدأ بالرمز (51) ثم مسافة ثم نص الرسالة إلى 88591 - Stc 635031 - Mobily 737221 - Zain