في زمن التفرعات التخصصية في العلوم التطبيقية والنظرية، تعددت وتنوعت مناهج ومدارس النقد الأدبي فهناك المنهج الفني والمنهج التاريخي والمنهج النفسي، وهناك أيضاً النقد الذاتي (التأثري) والنقد الشكلي (البنيوي) والنقد البراغماتي (الوظيفي) والنقد الظاهراتي (الوجودي) والنقد الثيمي، وغير ذلك من المدارس النقدية التي أفرزها تطور مناهج النقد الحديث وتشعباته، والسؤال المطروح هنا هل قدّم النقد العربي في ضوء هذه المناهج خدمة حقيقية للأديب أو للقارئ المهتم، أم أن النقد العربي في واد والأديب في واد والمتلقي هو الآخر في واد؟ لقد تأثر العديد من النقاد العرب بمناهج النقد الغربية كالبنيوية والتفكيكية والوجودية والبراغماتية، إلا أن العديد من التجارب النقدية أثبتت فشل هذه المدارس في إظهار القيمة الحقيقية للمنتج الأدبي العربي ومفاعيله التأثيرية، وقد حرضت هذه المناهج على وجود أدب أشبه ما يكون سريالياً أو فوضوياً أو مادياً (خالياً من الروح) يتلاعب بالصور والألفاظ غريباً عن البيئة العربية والذوق العربي، وتم تغرير العديد من الشعراء الشباب ليكتبوا دون أن يفهموا هم أنفسهم القصد أو الغاية مما يكتبون، وقد ظهرت في الغرب كتابات وآراء عديدة تنتقد البنيوية والتفكيكية خاصة وقصورهما، فهل من يرفع صوته أمام بعض النقاد العرب التائهين في مضامير النقد الغربي ويقول لهم ارجعوا إلى الذائقة العربية؟ إن ذائقة القارئ العربي على مر العصور أكبر ناقد وأصدق حاكم محايد، فمنذ ألف عام والمتنبي يتربع على عرش الشعر، والجمهور هو الذي حفظ قصائده وتغنى بها قبل أن يسمع آراء النقاد وتحليلاتهم، بل إن الناقد العربي غالباً ما يتلمس تأثر الجمهور وإعجابهم ليوجه في ما بعد نقده إلى الأسباب التي أتاحت لهذا الشاعر أن ينفذ إلى القلوب . فالقارئ بحسه الوجداني يستطيع أن يتلقف حالة الإبداع ويترجمها مع نفسه ولواعجه بطريقته الخاصة، وهو لا يحابي ولا يجامل، فتراه يعشق هذا الشاعر أو ذاك ويهمل هذا أو ذاك عن قصد، فما هي المعايير التي على الناقد أن يستخلصها من ذائقة الجمهور وعلى مر العصور؟ قد يقول قائل: وإذا كان مستوى الجمهور ضعيفاً هل يعد ذلك مقياساً يصلح للنقد؟ أجيب: ولنبق على مثال المتنبي (مالئ الدنيا وشاغل الناس) . . هل الجمهور في أواخر العصر العباسي الذي ضعفت فيه الأمصار وصارت عبارة عن دويلات وعم الضعف في أرجاء المعمورة، هل كان الجمهور في ذلك العصر جاهلاً ليرفع المتنبي إلى أعلى المراتب، أم إن الشعر الحقيقي ينفذ إلى قلب الإنسان مهما كانت ثقافته بسيطة، للأسف قليل من النقاد يعير أهمية لهذا الأمر وصار مقياس نجاح الشاعر رضا الناقد فلان أو علان عنه ولا يعلم هذا الشاعر أنه هو والناقد يغيبان عن الجمهور إذا غاب الشعر الحقيقي المؤثر والمدهش والذي يلامس الشغاف . ليس مدعى كلامي هذا أن نهمل النقد بل نطوره ليواكب حالة الإبداع المتواصل بروح عربية تنطلق من بيئتنا وتراثنا العربي ومعاييرنا النقدية لا المعايير المستوردة . هناك أمران لا ثالث لهما يدمران التجربة الشعرية للشاعر المبتدئ أولهما النقد المحبط الذي يهمل معيار الموهبة ويسلط الضوء على المعايير النقدية الصارمة، والثاني التشجيع المفرط الذي يصيب الشاعر بالغرور ويتصور أن طريق الشعر مفروش بالورود . وهنا لابد لي من إيراد الملاحظات التالية: إن دور الناقد أمام شاعر مبتدئ يحتم عليه قبل كل شيء أن يتلمس (الموهبة)، فإذا ما أحس بوجودها يمسك بيد الشاعر ويدله على مواقع الضعف عنده بشكل هادئ، يشجعه على تلافي الهنات ويوضح له سبيل الاهتمام من خلال برنامج للقراءة وبرنامج لتعلم أساسيات العروض والنحو العربي، وفي كل مرة يعطيه جرعة من التشجيع المناسب، وأرى ألا يحثه على الظهور السريع خاصة أن بعض نقاد الأماسي من لا يميزون بين شاعر عمر تجربته لا يزيد على عامين وشاعر آخر يزيد عمر تجربته على ثلاثين عاماً، الظهور الأول يجب أن يكون بنص معبر عن موهبة الشاعر وخالٍ من الأخطاء التعبيرية والنحوية قدر الإمكان . أما بالنسبة للشاعر أو لنقل للشاب الذي يطمح أن يكون شاعراً ولا تتوفر لديه الموهبة الحقيقية فعلى الناقد أن يستثمر حبه للأدب ويوجهه إلى فنون أدبية أخرى للبحث والدراسة، وهي ميادين كثيرة وواسعة قد يجد موهبته في واحدة منها . إن أهم أدوات الأديب هي اللغة، واللغة العربية علم، بل مجموعة من علوم النحو والصرف والبلاغة وفقه اللغة، وغيرها، وأشد ما يخيف الشاعر الشاب هو النحو والصرف لكون قواعدهما صارمة لا تتحمل الخطأ، والخطأ عيب في اللغة لذلك يهرب بعض الموهوبين بالشعر إمّا إلى الكتابة باللهجة العامية أو يهجرون الكتابة، إن تخصيص وقت من الشاعر لدراسة النحو والصرف يطوّر اللغة، وهناك مراجع عديدة ومبسطة لدراسة النحو وفهمه، وبمرور الزمن تتطوّر عند الأديب الشاب اللغة ولا يخشى الخطأ، بل يشعر بارتياح وهو يكتب ويعرف تصريف الكلمة وموقعها من الإعراب، يلاحظ أن أساليب تدريس اللغة العربية ومناهجها لم تكن كالسابق عميقة ومتدرجة، بل صارت في أغلبية بلداننا العربية عبئاً على الطالب وأدى ذلك إلى ضياع الكثير من المواهب في الأدب .