مقتل "أربعة عمّال يمنيين" بقصف على حقل للغاز في كردستان العراق    مركبة مرسيدس بنز ذاتية القيادة من المستوى 3    "نهائي عربي" في بطولة دوري أبطال أفريقيا    اليوم السبت : سيئون مع شبام والوحدة مع البرق في الدور الثاني للبطولة الرمضانية لكرة السلة لأندية حضرموت    مقاتلو المغرب على موعد مع التاريخ في "صالات الرياض الخضراء"    الذهب يتجه لتسجيل أول خسارة أسبوعية في 6 أسابيع    جماعة الحوثي توجه تحذيرات للبنوك الخاصة بصنعاء من الأقدام على هذه الخطوة !    تقرير مروع يكشف عن عدد ضحايا " القات" في اليمن سنويا ويطلق تحذيرا !    القبض على عصابة من خارج حضرموت قتلت مواطن وألقته في مجرى السيول    لماذا يخوض الجميع في الكتابة عن الافلام والمسلسلات؟    الزنداني لم يكن حاله حال نفسه من المسجد إلى بيته، الزنداني تاريخ أسود بقهر الرجال    مقتل وإصابة أربعة جنود في اشتباكات مع مسلحين خلال مداهمة مخزن أسلحة شرقي اليمن    حادث مروع .. ارتطام دراجة نارية وسيارة ''هليوكس'' مسرعة بشاحنة ومقتل وإصابة كافة الركاب    كان يرتدي ملابس الإحرام.. حادث مروري مروع ينهي حياة شاب يمني في مكة خلال ذهابه لأداء العمرة    قتلوه برصاصة في الرأس.. العثور على جثة منتفخة في مجرى السيول بحضرموت والقبض على عدد من المتورطين في الجريمة    بعد القبض على الجناة.. الرواية الحوثية بشأن مقتل طفل في أحد فنادق إب    مأرب تقيم عزاءً في رحيل الشيخ الزنداني وكبار القيادات والمشايخ في مقدمة المعزين    السلفيون في وفاة الشيخ الزنداني    تعرف على آخر تحديث لأسعار صرف العملات في اليمن    أمطار غزيرة على صنعاء في الأثناء    عشرات الشهداء والجرحى في غارات إسرائيلية على وسط وجنوب قطاع غزة    «كاك بنك» يشارك في اليوم العربي للشمول المالي 2024    رفض قاطع لقرارات حيدان بإعادة الصراع إلى شبوة    قوات دفاع شبوة تحبط عملية تهريب كمية من الاسلحة    أكاديمي سعودي يلعنهم ويعدد جرائم الاخوان المخترقين لمنظومة التعليم السعودي    قذارة الميراث الذي خلفه الزنداني هي هذه التعليقات التكفيرية (توثيق)    ما الذي كان يفعله "عبدالمجيد الزنداني" في آخر أيّامه    لا يجوز الذهاب إلى الحج في هذه الحالة.. بيان لهيئة كبار العلماء بالسعودية    ريال مدريد يقترب من التتويج بلقب الليغا    توني كروس: انشيلوتي دائما ما يكذب علينا    وزارة الحج والعمرة السعودية تكشف عن اشتراطات الحج لهذا العام.. وتحذيرات مهمة (تعرف عليها)    فرع العاب يجتمع برئاسة الاهدل    أكاديمي سعودي يتذمّر من هيمنة الاخوان المسلمين على التعليم والجامعات في بلاده    من كتب يلُبج.. قاعدة تعامل حكام صنعاء مع قادة الفكر الجنوبي ومثقفيه    مأرب: تتويج ورشة عمل اساسيات التخطيط الاستراتيجي بتشكيل "لجنة السلم المجتمعي"    لا يوجد علم اسمه الإعجاز العلمي في القرآن    حزب الإصلاح يسدد قيمة أسهم المواطنين المنكوبين في شركة الزنداني للأسماك    - عاجل شركة عجلان تنفي مايشاع حولها حول جرائم تهريب وبيع المبيدات الخطرة وتكشف انه تم ايقاف عملها منذ6 سنوات وتعاني من جور وظلم لصالح تجار جدد من العيار الثقيل وتسعد لرفع قضايا نشر    ناشط يفجّر فضيحة فساد في ضرائب القات للحوثيين!    الجريمة المركبة.. الإنجاز الوطني في لحظة فارقة    الدوري الانجليزي ... السيتي يكتسح برايتون برباعية    الزنداني.. مسيرة عطاء عاطرة    إيفرتون يصعق ليفربول ويعيق فرص وصوله للقب    انخفاض الذهب إلى 2313.44 دولار للأوقية    ذهبوا لتجهيز قاعة أعراس فعادوا بأكفان بيضاء.. وما كتبه أحدهم قبل وفاته يُدمي القلب.. حادثة مؤلمة تهز دولة عربية    مفاوضات في مسقط لحصول الحوثي على الخمس تطبيقا لفتوى الزنداني    تحذير أممي من تأثيرات قاسية للمناخ على أطفال اليمن    نقابة مستوردي وتجار الأدوية تحذر من نفاذ الأدوية من السوق الدوائي مع عودة وباء كوليرا    نبذه عن شركة الزنداني للأسماك وكبار أعضائها (أسماء)    طلاق فنان شهير من زوجته بعد 12 عامًا على الزواج    الشاعر باحارثة يشارك في مهرجان الوطن العربي للإبداع الثقافي الدولي بسلطنة عمان    دعاء الحر الشديد .. ردد 5 كلمات للوقاية من جهنم وتفتح أبواب الفرج    - أقرأ كيف يقارع حسين العماد بشعره الظلم والفساد ويحوله لوقود من الجمر والدموع،فاق العشرات من التقارير والتحقيقات الصحفية في كشفها    أعلامي سعودي شهير: رحل الزنداني وترك لنا فتاوى جاهلة واكتشافات علمية ساذجة    السعودية تضع اشتراطات صارمة للسماح بدخول الحجاج إلى أراضيها هذا العام    مؤسسة دغسان تحمل أربع جهات حكومية بينها الأمن والمخابرات مسؤلية إدخال المبيدات السامة (وثائق)    لحظة يازمن    وفاة الاديب والكاتب الصحفي محمد المساح    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



د. ياسين: الشعوب الحرة وحدها تستطيع أن تقيم أنظمة حرة
نشر في الجنوب ميديا يوم 23 - 08 - 2012

قال الأمين العام للحزب الاشتراكي اليمني الدكتور ياسين سعيد نعمان إن اليمن الذي تخطى فتنة الحرب الأهلية التي كان من الممكن أن تلتهم ثورته السلمية سيمضي على قاعدة التغيير باتجاه بناء دولته المدنية الديمقراطية عبر حوار شامل يشارك فيه الجميع دون استثناء وبمشاريع سياسية تعكس بتنوعها وتباعدها عمق المشكلة التي وصل إليها البلد .
وفي ورقة عن "الجذر التاريخي والثقافي للديمقراطية في المخيال الشعبي" أكد ياسين ألا طريق أمام هذه المشاريع سوى أن تتحاور ، قائلا: لقد عانى اليمنيون كثيرا ويستحقون هذه الفرصة التاريخية ليبدأوا من جديد على طريقة أكثر وضوحا .
وأوضح الدكتور ياسين أن "الشعوب الحرة هي وحدها التي تستطيع أن تقيم أنظمة حرة بالمعنى الذي يجسد تفاعلاً وثيقاً بين الحرية والديمقراطية , حيث تكون الديمقراطية التي ترتب مسؤولية الاختيار الوعي للحاكم من قبل الشعب هي الوجه الأخر للحرية , أو هي بالأصح هي أداة ممارسة الحرية".
نص الورقة:
الجذر التاريخي والثقافي للديمقراطية في المخيال الشعبي
مدخل :
شكلت ثورات الربيع العربي محطة ذات دلاله خاصة في إعادة اكتشاف صلة العقل العربي السياسي بالجذر الثقافي التاريخي للديمقراطية في المخيال الشعبي ،ومدى استعداد هذا العقل على إعادة بناء موقفه من الديمقراطية في ضوء ما رتبته قرون الاستبداد من حاجة إلى الحرية والعدالة والمساواة والحكم الرشيد وما يقترن بعمليه التحول تلك من مواجهة وقطيعة مع الموروث الثقافي والسياسي والأيديولوجي الذي ظل ينتج الموانع والحواجز أمام تحقيق انخراط هذا العقل في هذه العملية التاريخية الموضوعية لبناء الحكم الرشيد .
ويعد هذا الموروث من الضخامة من حيث تنوعه وامتداداته وتأثيراته لدرجة يبدو معها الجذر الثقافي التاريخي للديمقراطية وفي المخيال الشعبي العربي وكأنه مجدب تماماً من أي معطيات يمكن أن تشكل مشاتل لإخصاب فكرة المشروع الديمقراطي في هذا العقل الذي بات مثقلاً بهم الانتقال والتحول إلى الديمقراطية تحت وطأة الحاجة الشعبية التي انتفضت من داخل ركام الاستبداد بحثاً عن خروج آمن إلى فضاءات الحرية وبالقدرة على استيعاب عملية التحول تلك في الظروف غير المواتية التي ولدتها السنوات الطويلة لحكم الاستبداد وكذا حالة التشوه العامة للعناصر التي تشكل بمجملها البيئة الحاملة لهذه العملية المعقدة .
إن البحث والتنقيب في هذا الجذر التاريخي لابد أن يرشدنا إلى حقائق طمرتها أنظمة الحكم المستبد في ثنايا مخيال شعبي هو القادر بمفرده على إطلاقها في الوقت المناسب وعلى يد أجيال قادرة على إعادة إنتاجها لصالح مشروع بناء الدولة المدنية الديمقراطية . لقد برهنت ثورة الشباب على هذه الحقيقة .
اولاً : الشورى والديمقراطية :
بتتبع هذا الجذر الثقافي يمكننا الوقوف أمام بعض المحطات التاريخية لنستدل منها على ابرز التجارب السياسية التي كونت المخيال الشعبي في صلته بالديمقراطية وهو الذي تزاحمت فيه أسئلة كثيرة ظلت بلا إجابات حتى اليوم أو إجابات غير مكتملة .
سنجد في هذه المحطات كيف أن الحكام استندوا في كثير من الأحيان على ما أسموه الخصوصية ( كمجموع للإرث الثقافي والإيديولوجي والسياسي والاجتماعي ) لإقامة نظم للحكم وظفت مصطلحات ذات قيمة هامة في المخزون الثقافي العربي الإسلامي مثل الشورى أو العدل لتبرئ ساحة الاستبداد وهيأت العقل لقبول فكرة " المستبد العادل " . وخلال عهود طويلة راحت تعيد بناء مفاهيم مغايرة وبمضامين مختلفة للشورى داخل الوعي العربي المقموع . ولم يكن الأحفاد اقل حذاقة في لعبة تغيير المضامين تلك تجاه مصطلحات العصر . فرفع البعض شعار الديمقراطية ليوظفه كغطاء لحكم مستبد تماماً كما حدث مع الشورى في مراحل تاريخية . ومثلما أصب غ ت هذه الأنظمة المستبدة مضموناً مشوهاً للشورى ،يتفق مع حاجتها إلى المصطلح مع نفور من مضمونه الحقيقي ،فقد استمرت هذه الخبرة التاريخية المتراكمة مع الديمقراطية فيما بعد ..
حيث استعارت العنوان وسجلت تحته مفهومها الخاص الدال على نفور ايضاً من الديمقراطية . ومع كل محاولة يبذلها الناس للعودة إلى أصل الكلمتين (( الشورى والديمقراطية )) وتصحيح مضامينهما كانت الأنظمة تمعن في تمسكها بالمصطلح وتسرف في إعادة بناء معنى مختلف له في الوعي من خلال تشديد العلاقة بين حكمها المستبد وهذا المعنى المشوه والمغاير .. وصار المخزون الثقافي لا يحتفظ بما يفيد الشورى التي قصدها المشَّرع العظيم بقوله تعالى (( وامرهم شورى بينهم )) سوى تلك العبارة التي أطلقها صاحب رسول الله صلعم ابوبكر في بداية خلافته (( أيها الناس لقد وليت عليكم ولست بخيركم فان رأيتموني على حق فأعينوني وان رأيتموني على باطل فقوموني )) وشيء قريب من ذلك لعمر بن الخطاب ... أما ماعداه فجله مخزون يبرهن على حجم الضرُّ الذي تعرضت له الشورى في توظيف الحاكم لها .
ومنذ أن أسس معاوية رؤيته التاريخية السياسية لمسألة الحكم على قاعدة جديدة للشورى تلبي حاجة ملكه، ومنذ أن وظف الشورى لنفي الشورى ، وأقام منهجاً لتوليد مفاهيم تسلطية للشورى ، فقد سار الحكام من بعده على النهج نفسه .. وفي حين حافظ الحاكم على البيعة كشرط لتولي الحكم فإن نبالة الفكرة كانت قد كشطت بحد السيف ،وبقيت بلا مضمون بعد أن صار الناس لا يبايعون إلا مكرهين . ضبطت البيعة ملطخة بدم سعد بن عبادة الأنصاري الذي اختاره الأنصار في لحظة من لحظات الارتباك والفزع بعد وفاة رسول الله خليفة له لولا أن تدارك عمر الموقف لتمضي الأمور بعد ذلك في اتجاه مختلف .. لقد كانت لحظة فارقة تركها رسول الله ( صلعم ) باعتبارها من شئون الدنيا ، حتى إذا ما تباعد الزمن بين عهد الرسول وصحابته الراشدين بأخلاقه وقيمه وشوراه وبيعته من ناحية والعهد الذي بدأ بالفتنة وما رافقه من تشريع لبيعة الإكراه اتسعت فيه الفجوة بين رؤيتين للحكم والشورى لا تمتان لبعضهما بصلة . لقد اغتالت بيعة الإكراه فكرة البيعة من أساسها ، ولم يقتصر الإكراه على البيعة بذلك النموذج من الشورى الذي أسسه معاوية بل امتد ذلك إلى تسيير شئون الحكم ،حيث استلزم الأمر انتزاع المشورة والرأي في أحيان كثيره بحد السيف أو بأكياس الذهب ،والوسيلتان ترمزان إلى الإكراه في كل الأحوال فالسيف يسلب الروح والذهب يسلب الإرادة .
وعلى مقربه من هذا المفهوم الرسمي ، كان هناك نموذج نظري للشورى تلوح به المعارضة في وجه الحاكم من داخل أقبيتها التي تتخفى فيها هرباً من بطش الحاكم .. نموذج يستدل بسنة رسول الله ( صلعم ) والراشدين من بعده فيأتي من يبرر عزوف الحاكم عن السير في ذلك الطريق بالقول : من يستطيع أن يكون رسول الله أو عمر أو أبوبكر ؟ ! فالشخصية لا تتكرر وبما أنها لا تتكرر فإن النموذج لا يتكرر هو الآخر لأنه يكتسب تطبيقاته من طبائع الناس .. لكن هؤلاء لا يقولون لنا جواباً مقنعاً عن أسباب تكرار الشخصية في نماذج الاستبداد .. ومع ذلك فالمعارضة هي الأخرى لم تكن أحسن حالاً من الحاكم في ممارستها للشورى ولم تؤسس سنة يمكن الركون إليها في دحض سنن الحكام وإدانتها من خلال نموذج تطبيقي يعيد للشورى صورتها التي عرفها الناس به أيام الرسول والراشدين ..
تلك الصورة التي كانت تجسد الشورى بقيم العدل والمساواة .. فيجد فيه الناس مستقبلهم في ظل هذا الدين .. ولذلك فقد كان التحول الخطير الذي أحدثه معاوية ، ومن قبله النزوع إلى الاستسلام لضغط العصبية الأموية ،نقطة افتراق بين شورى العدل وتلك الشورى المصممة لتلبية متطلبات نظام الحكم الجديد .
إن هذا يطرح أمامنا سؤالاً حول القوة الهائلة التي استلزمها نموذج من جاءوا بعد الراشدين لتحقيق هذا الافتراق ودفع النموذج الراشدي إلى الخلف ليصبح جزءاً من الذاكرة ثم من المخيال الشعبي .. قد يقول البعض إن الفتنة قد مهدت لذلك ، وأن الذين كانوا أنصار النموذج الراشدي وحملته بسبب موقفهم من إيلاف الحكم ، قد خذلوه في أهم لحظة من اللحظات الحاسمة بمساومات ومجادلات عقيمة ، وإن الإطار السياسي والثقافي الذي انتقل فيه هذا النموذج من حاكم إلى آخر طوال أربعين سنة ، بدأ يتمزق مبكراً عندما بدأت قناطير الذهب والفضة تتكدس بأيدي البعض وتنشئ ميزاناً للقوة ذات توجهات وملامح عصبية داخل المنظومة السياسية والفكرية للمشروع العالمي العظيم ، مما أعطى للثروة والعصبية وزناً في إعادة صياغة مضمون الشورى ،فلم يعد مثلاً رأي عمار ابن ياسر أو سلمان الفارسي أو أبي ذر الغفاري بمنزلة رأي عبد الرحمن ابن عوف أو الزبير أو طلحة بن عبيد اله أو مروان ابن الحكم عندما يتعلق الأمر بتقرير موقف له صلة بمصير المسلمين . لم تعد قوة الإيمان ونقاوة الضمير وعفة النفس في مركز اهتمام عند الحاكم بعد أن بدا هناك ما هو أكثر أهمية في تعديل ميزان القوة .. ولابد أن نلاحظ أن نمط حكم معاوية تشكل في بيئة مختلفة بالقرب من تخوم الإمبراطورية البيزنطية .. ففي هذه البيئة تشكلت المرجعية الفكرية والسياسية لحكم معاوية بما في ذلك نموذج " الشورى " الذي شكل انقطاعاً عن نموذج الشورى الراشدي من الزاوية التي بان فيها الأمر وراثياً ذا نزعة عصبوية . ولما جادل معاوية خصومه حول التوريث ، كان كأحد كتاب الوحي ، ملماً بما سكت عنه القرآن وبما سكت عنه الرسول ،فما سُكت عنه ترك أمره للمسلمين ينظمونه حسب حاجتهم وظروف عصرهم .. وتثار حول ما سكت عنه رسول الله صلعم اسئلة ذات طابع جدلي عميق تتعلق بمفهوم السنة وهي هل إن السنة هي ما قاله وما عمله الرسول فقط ؟ ! إذا كان الأمر كذلك فما هو الحال بخصوص ما سُكت عنه وما دلالة ذلك؟ ألا يمكن أن يستدل من عزوفه عن تنظيم شئون الأمر من بعده على انه سنة تلزم من سيتولى من بعده الأمر على السير على هداه ؟ غير أن معاوية وهو صاحب رسول الله واحد كتاب الوحي لم يكن ممن يغفلون القيمة المعنوية لعلاقة من هذا النوع السامي في بناء مرجعية مركبة : أسرية ، إيمانيه ،فكرية لشرعية حُكمه وتوظيفها في مقارعة خصومه لتوطيد حكم عشيرة الأمويين من أبناء قصي القرشي ،فما الذي يمكن استنتاجه ، بناء على دوافعه من جَعل هذا الأمر في قريش حصراً منذ السقيفة إذا لم يكن قد قصد به توريثه ،لكن رسول الله لم يجعل الأمر في قريش ولم يوص بذلك وتركه للمسلمين .. يبرز هنا حال المسلمين وقد انقطع عنهم الوحي ليضعهم أمام مسئوليتهم لأول مرة بعد غياب القائد .. تؤكد الأحداث أن خيارات صحابة رسول الله قد استحضرت الحاجة في اللحظة ذاتها بالاستناد إلى قيم الدين الجديد مع عدم إغفال المكانة والمنزلة والتراتبية للأفراد والمجاميع والقبائل. كان الإيمان حاضراً، وكان السيف حاضراً، وكانت الوجاهة حاضرة وكانت العشيرة حاضرة، لكن حضور هذه العناصر لم يكن مفككاً أو معروضاً في مواجهة بعضه البعض بل كان حاضراً في صيغة مكتملة تدعم بعضها في مواجهة بدائل محتملة ..
ومع المدى وانتقال الخلافة اخذ هذا التكامل يتخلخل ، ومن بين هذه الشقوق ي تسرب نموذج ما بعد الراشدي الذي لم يعد صاحبه في حاجة إلى أن يبحث في مسألة التوريث من الناحية الشرعية أو الأخلاقية . فبعد مقتل عثمان الخليفة الثالث اتضح بما لا يدع مجالاً للشك أن هذا الأمر العظيم لا يمكن أن يقوم على عصبية بعينها مهما كانت قوتها ومكانتها ذلك أنه سرعان ما بدأت هذه العصبية تتحلل إلى عصبيات أصغر، وكان لابد لهذه العصبيات الأصغر من أن تلجأ إلى القوة والمال كي تحكم وتسود ،لذلك كما قلنا لم يكن معاوية يهتم في مسألة التوريث بشرعية الجماعة ،وكانت أخلاق الناس القديمة قد صقلها الذهب وحد السيف معاً ، فعلى الرغم من أن الصلاة وراء على أتم إلا أن مائدة معاوية أدسم على حد تعبير احد أنصار علي ويقال انه آخذه عقيل الذي فر من خشونة وزهد حياة علي ، .. هذا النمط من الأخلاق لم يعد قادراً على استيعاب غير تلك " الشورى " التي تكيف نفسها مع حاجة الحاكم وتتملقه بتغيير مضمونها ووظيفتها . لقد ركز معاوية على تغيير نمط الأخلاق عند الناس اولاً واستطاع بدهائه أن يضعهم في حرم عصره ،وعندما تمكن من أخلاقهم لم يجد حرجاً بعد ذلك من أن يخرج عليهم بخلافة القرشي الأموي الذي عمل على تأسيس ملك ضخم على قاعدة عصبية اصغر والتي كان عليها لكي تنجح في مهمتها أن تنتج قيمها الخاصة بما في ذلك فلاسفتها " الجبرية " الذين برروا ظلم الأمويين بأنها مشيئة الله التي لا مراد لها باعتبار أن الإنسان لاخيار له فيما يعمله .
كان الحكم وأسس أخلاقه الجديدة وشوراه المقابلة قد استقر ،ولم يعد ممكناً الحديث عن شورى العدل التي قصدها المشرع الحكيم .. لقد توارى هذا النوع من الشورى إلى داخل المخيال الاجتماعي الذي ظل حاضناً له كتعبير عن حاجة صامتة احياناً وصاخبة احياناً أخرى لمقاومة الاستبداد ،ينتقل من جيل إلى جيل ،يتجدد بالفكر المستنير الذي يخرج به علماء أجلاء .. أصحاب مشاريع إصلاحية أو قادة ثورات اجتماعيه ،وتتشكل ملامحه في قلب المعارك للخلاص من الاستبداد والجمود .
واخذ هذا النموذج الذي حمله المخيال الشعبي يفرد لنفسه مكاناً في الثقافة العربية باعتباره هدفاً تفرضه حاجه موضوعية ناشئة عن فساد النماذج المطبقة وما قادت إليه من افساد لنهضة الأمة .
وكان من الطبيعي أن يتفاعل هذا المخيال الشعبي الحامل لشورى العدل والمساواة مع الدعوات المعاصرة ورياح التغيير التي راحت تطرح العلاقة بين الحاكم والمحكوم على نحو جديد أساسها حق الشعوب في اختيار نظم الحكم والحاكم عبر آليات جديدة . وكان من الممكن أن يسبق العرب غيرهم من الشعوب في استيعاب المتغيرات الجديدة بسبب ما تشبع به مخيالهم من شوق إلى نموذج شورى العدل القريب في جوهره من نظام عمل هذه الآليات والتي عرفت بالديمقراطية والوصول السلمي إلى السلطة وكذا الانتقال منها لولا التدخل الأجنبي الذي فتح الطريق أمام نظم الجمود والاستبداد وتشجيع سدنة الموروث الاستبدادي في التصدي لرياح التغيير وافتعال معارك بالحديث عن تعارض جوهري بين الشورى والديمقراطية دون أن يقول لنا هؤلاء عن أي شورى يتحدثون ؟ أهي شوراهم التي كرسوها كجزء من الموروث الاستبدادي أم هي شورى العدل والمساواة التي خذلوها في كل المعارك التاريخية في مواجهة الاستبداد .
لم يكن ذلك سوى محاولة لخلق صدام داخل الفكرة بين عناصرها المختلفة وصورها المعبرة عن جوهر متماثل واليات متنوعة .
وثانياً : الثورات المعاصرة وبعض نماذج الحكم المعاصر :
ولابد من الاستدلال هنا على محاولات خلق الصدام داخل الفكرة بتناول سريع لبعض نماذج الحكم المعاصر فبعض النخب جاءت إلى الحكم بواسطة المؤسسة العسكرية وغالباً ما جاءت بفكرة أيدولوجية صدامية ، لتسويق هذا الاستيلاء على السلطة يتم على نحو سريع تسمياتها " ثورة " تتولى كل شيء بالنيابة عن الشعب ، فهي تقوم بالثورة نيابة عن الشعب وتستولى على السلطة باسم الشعب ، وحينما يطالب الشعب بإشراكه في إدارة شئون حياته ويتطلع إلى الحريات وإلى الحقوق التي وعدته بها الثورة لا يجد سوى البنادق مصوبة إلى صدره .. الثورة في حقيقة الأمر هي تصحيح لدور ومكانة وقيم الإنسان في سيرورة الحياة ، وهذا يعني انه ما لم يكن للثورة أدواتها السياسية التي تعظم قيم الحرية والمساواة والعدل ، ودوافعها الثقافية التي تضع الإنسان في مصاف الحقيقة المطلقة التي تنتظم في مدارها كل الحقائق الأخرى فإنها تصبح عملاً فوضوياً عبثياً ، يستهلك الشعوب ويطمس حقيقة تخلفها بشعارات النصر الوهمي ، ويقتل حوافز التغيير عندها باستحقاقات الولاء لمن صنعوا هذا النصر .
علينا أن نبحث بشيء من الموضوعية عن الأسباب التي جعلت " ثوراتنا " ترفع شعار الحرية والديمقراطية وحق الشعوب في الحكم ثم تنقلب عليها في الممارسة وينتهي بها المطاف إلى أبواب السجون وأقبية التعذيب .. ليس هناك خلل في الفكرة التي نشأت مع الحاجة لإصلاح حال الأمة على قاعدة رد الاعتبار لحريتها المهدورة والمصادرة . يكمن الخلل في أن هذه الحرية قد توقفت عند حدود الاستيلاء على الحكم من قبل النخب الوطنية , أي عند مفهوم ناقص للحرية .. مفهوم اجتزأ القشرة السطحية للحرية عن لبَّها وراح ينشرها فوق انظمه مست ب دة ترفع الراية الوطنية ..
أما لماذا تمسكت هذه النخب بهذا المفهوم المشوه للحرية فذلك إنما يعود إلى عاملين :
الأول : إن هذه النخب بطبيعتها أو بحكم نشأتها لا تؤمن بالتنوع والديمقراطية التعددية , فكل ما عدا فكرها باطل , وكل ماعدا أطروحاتها السياسية خيانة , وكل ماعدا المنتسبين إلى تنظيماتها مشكوك في وطنيتهم.
الثاني : هو أن مصير الحاكم بعد خروجه من الحكم يقدم مبرراً كافياً لتمسك هذه النخب بالحكم باعتباره الملاذ الآمن لها من البؤس والملاحقة لاسيما وان تقاليد تداول السلطة لا تترك أمام الحاكم غير خيار واحد وهو الكرسي أو القبر الطريقة التي يأتي بها الحكام العرب إلى الحكم تجعل مصيرهم بعد الخروج من الحكم شبحاً يقض مضاجعهم .
ويبدأ الحكام الذين تأتي بهم مثل هذه الثورات إلى تقسيم مجتمعاتهم بين موالين وخصوم , ويتفرغون زمن حكمهم في مطاردة " الخصوم والأعداء " وتصفيتهم ليبرهنوا على منعة وقوة , فيكون معيار نجاح الحاكم وقوته هو ( صموده ) في وجه هؤلاء الأعداء .. صموده بالقمع لا بالبناء والعدالة وإطلاق الحريات ، ولذلك فقد نجح هؤلاء الحكام في القمع وأخفقوا في بناء أنظمة حكم مستقرة تجدد نفسها بالعدل والحرية والمشاركة الشعبية .
من جديد يتوارى مضمون شعار النموذج الثوري القائم على العدل والمساواة الذي رفعته الثورات وتخلت عنه إلى المخيال الشعبي ويبقى حاضراً ما جسده الواقع من قمع وفساد واستبداد .
من ناحية أخرى فشلت هذه الثورات عن اكتشاف كنهْ المعرفة التي اختزنتها أوابد الحضارة القديمة التي تملأ البلاد العربية وعجزت ع ن إقامة جسور التواصل معها فكرست الانقطاع الذي سجلته عهود الجمود , وراحت تقلد الشكل الخارجي لها وساومت به العقل , فكانت ثورة في شكلها الخارجي وجموداً في مضمونها ..
عجزت عن أن تحقق ثورة في العقل وفي المعرفة حتى أن هذا العقل اخذ ينكمش داخل صينية الطعام الذي سمحت به دولة الثورة . .وهو ما حاصر العقل العربي داخل الحاجة البيولوجية لصاحبه كانعكاس لحاجة دورة الحياة في ابسط صورها .. أما وقد تعقدت على هذا النحو الذي عليه الإنسان المعاصر فذلك أمر يضع العقل العربي في مواجهة حقيقية مع نفسه اولاً . حريته تبدأ من داخله لا من خارجه .. الحرية من الخارج وهم , حتى لو جاء من يهب الحرية للعقل من خارجه وهو مغلق على مفاهيم الولاء التي أنتجها الفساد وكرستها الفاقة وتوغلت في النفس عبر مرجعيات إيديولوجية أكسبتها صفة الجمود فلن يكون ذلك أكثر من (( طارق على تابوت ليوقظ من بداخله )) على حد تعبير تشيخوف .
ترتب الحياة بنظامها الحالي والقديم مفهوماً للحرية مشتقا من الفكرة التي تقول : إن الحرية هي أداه تسوية لحاجة الإنسان , يستخدمها الأقوياء والضعفاء على السواء , يتنازل عنها الضعفاء مقابل تسوية حاجتهم عند الأقوياء في عملية تبادلية لا تقف عند حدود معينة .. غير أن هذه العملية لا تتم في خط واحد مستقيم من الأدنى إلى الأعلى لأن الحياة بالفعل قد جعلت القوي في مكان ما ضعيفاً في مكان أخر , والضعيف في مكان ما قوياً في مكان أخر .. أما السجون فقد اخترعت لمواجهة الحالات التي تتم فيها التسوية خارج نسق هذه العملية وبأدوات مختلفة , فالسياسي أو المفكر الذي يرفض تسوية حاجة عند الحاكم بالتنازل عن حريته يكون مصيره السجن , أي تقييد الحرية أو مصادرتها , وفي البلدان التي لا تعاقب مثل هذا السياسي بالسجن لأسباب تتعلق بمناورتها بالديمقراطية فإنها تعرضه لضغوط قاسية تفقده شروط الاحتفاظ بحريته , مما يجعل عرضها مقابل تلبية الحاجة أشبه بالتبادل السلعي في سوق مفتوح .
والأشد ايلاماً في الوضع العربي هو أن مساحة الحرية التي استخدمت لتسوية الحاجة مع الخارج كانت كبيرة لدرجة أضحت معها المساحة المتبقية عنواناً للهزال المعنوي الذي ضرب مجتمعاتنا في العمق .. فترى المجتمع يتخبط داخل قيد كبير بحلقتين محكمتي الإغلاق احدهما بيد الخارج والثانية بيد النظام الحاكم . وداخل هذا القيد يصبح الحديث عن الحرية شيئاً مبتذلاً , بلا معنى .
أما لماذا يستأثر الخارج بهذا القدر من المساحة ، فذلك لأن الضعف العام الذي تولده مصادرة الحريات وتعاظم وظيفتها في تسوية حاجات الناس سواءً مع الحاكم أو فيما بينهم يقود في نهاية المطاف إلى تراجع معنوي تجاه مسألة السيادة الوطنية . فمسلوب الحرية لا يهمه كثيراً من الذي سلب حريته بقدر ما يغْدو مهتماً بقضاء حاجته .
ولذلك فإن الحنين الذي يبديه كثيرون لأيام الاستعمار أو الأنظمة المستبدة السابقة أياً كانت إنما يعكس هذا الهزال المعنوي الذي تخلفه مصادرة الحرية . وعندما يجد هذا الجيل أن حاضره لم تغيره الثورات , وان المشاريع الوطنية في التحرر والتقدم قد توارت داخل أدراج أجهزة الأمن , واستبدلت بهراوات التأديب والملاحقات , أي أن الواقع يقدم صورة مناقضة لما تعرضه كتب المنجزات فإنه لم يكن أمام هذا الجيل سوى أن يخوض عملية التغيير وينطلق من واقعه هذا ليصلحه لا أن يقف خارجه ليصفي حسابه معه . إصلاح واقعه بالثورة عليه هو بوابته إلى المستقبل .
أما كيف يصلحه فذلك أمر يستدعي أن يعيد بناء حلم آبائه الأوائل ، الحكم قبل أن تبتلعه التجارب الفاشلة التي أدارتها الأجهزة الأمنية - بنائه داخل مخيلة تستوعب متغيرات العصر بأبعادها المختلفة .
والديمقراطية التي تقوم على التعددية السياسية والتداول السلمي للسلطة هي احد هذه المتغيرات التي لا يمكن إصلاح الواقع بمعزل عنها , ومثلما كان كفاح آبائهم من اجل التحرر قد اخذ مداه داخل منظومة من المفاهيم التي أشعلها الحماس نحو الحرية وأخمدها فيما بعد سوط الحكم (( الوطني )) الموصول بالحلم المتعثر , فإن كفاح الأبناء من اجل الديمقراطية يجب أن يأخذ مداه داخل الحقيقة التي افرزها تعثر هذا الحلم , وهي أن الأنظمة لا يمكن أن تكون حرة نيابة عن الشعب .
الشعوب الحرة هي وحدها التي تستطيع أن تقيم انظمه حرة بالمعنى الذي يجسد تفاعلاً وثيقاً بين الحرية والديمقراطية , حيث تكون الديمقراطية التي ترتب مسؤولية الاختيار الوعي للحاكم من قبل الشعب هي الوجه الأخر للحرية , أو هي بالأصح هي أداة ممارسة الحرية ..
وثالثاً : الثورات والتحول نحو البنى الحديثة :
هذه الثورات ولأسباب تتعلق بالبنى الاجتماعية والثقافية لنخبها السياسة ولأسباب أخرى تتعلق بالظروف التي أحاطت بها ومنها أن القوى التي تصدت لقيادتها لم تكن على وئام كامل مع عناصره الرئيسية , قد أبقت على جسور قوية مع البنى القديمة , وكثيراً ما استعانت بها في صراعها السياسي داخل المؤسسات الوطنية لتعزيز مواقعها فيها .
لقد كان الانتقال إلى العمل الحزبي وغيره من مؤسسات المجتمع المدني في ظروف الانقسام القبلي والطائفي والعرقي والديني محاولة لمقاومة تداعيات هذا الانقسام باستقطابات مؤسسيه ذات بعد وطني .. وقد تحقق قدر من النجاح على هذا الطريق على الرغم من أن هذه البنى التقليدية عنيدة بطبيعتها , فهي تأخذ من هذا "الوطني " عند الضرورة ما يكفي لحمايتها فقط , أي أنها لا تأتلف معه بالصورة التي يعاد فيها انتاجها على نحو ( وطني ) إلا عندما تكون ضعيفة بحيث لا يكون أمامها مناص سوى الذوبان والاندماج الكامل . لكن هذا النجاح الذي تمثل في تفكيك جزء من حلقات هذه البنى لم ينجز مهمته حتى النهاية , فغالباً ما تعثر عند الحلقات الانتقالية لأن الجديد كان رخواً , واحياناً لم يسفر العنف الذي استخدم لتحقيقه إلا عن إكساب البنى القديمة مزيداً من المنعة في وجه التحول .. أحنت رأسها للعنف واختبأت داخل البنى الجديدة الرخوة وعملت على المقاومة من الداخل .
وجرى توليد بنى شكلها الخارجي (( وطني )) ونظام عملها الداخلي يتجه الى مزيد من تعميق الانقسام الاجتماعي .
وتكمن الأسباب في :
(1) أن القوى المنتجة لم تكن بالمستوى الذي يمكنها من تحفيز العلاقات الاجتماعية على تكوين عطاء وطني واسع للكتلة السكانية .
(2) إن غياب الديمقراطية والحريات كان كفيلاً بإقصاء العناصر الايجابية التي ولدها العمل السياسي والفكري في هذا الاتجاه حيث حلَّ بدلاً عنها الأسلوب الآوامري , ومعه جرى تعسف عملية التحول برمتها .
إن ما أضر بالمشروع الوطني هو إدارته بأدوات تقليدية مهترئة أو بأدوات حديثه مستهترة وقهرية .
لقد غابت عن أدارة هذا المشروع أهم شروطه المتمثلة في التعددية الفكرية والسياسية , والتنوع الثقافي , والمشاركة الشعبية , والتحول بوسائل اقتصادية , وتوظيف الأدوات الإدارية في إطار قانوني وحقوقي متناسق ..
ورابعاً : مع المدى واصل المخيال الشعبي تجسيد حالة الافتراق بين نبالة الفكرة وتوظيف الاستبداد لها . وسيظل هذا المخيال مخزناً لنبالة الفكرة , وسيشهد حالات الصخب والحماس عند النخب في حديثها عن الديمقراطية , وسيدرك انه مجرد حماس يخفي قدراً هائلاً من الخيبة , حتى إن المتحمس نفسه لا يعرف إلى أين يتجه بحماسه إلى الديمقراطية كهدف أم إلى الخيبة كعنوان للمأزق .
والواقع العربي مجدب من التجارب التي يمكن أن يستعان بها لصياغة موقف ٍ كفاحي مناسب , فتجاربه هي تاريخ الحكم المستبد والفكرة المستبدة معاً . بل أن الفكر العربي منقسم انقساماً خطيراً حول هذه المسألة وان أكثر القوى حيوية لم تكن تعترف بالديمقراطية التعددية كمنهج للحكم إلا عند ماتجد نفسها مهمشة ومطاردة . لقد كان فكرها إزاء هذه القضية مضطرباً ومشوهاً , ولم يتم تصحيح موقفها الفكري إلا حينما وصلت جميعها إلى مأزق حقيقي بسبب إقصائها من المعادلة السياسية من قبل غيرها من الأنظمة المستبدة , ولم تعثر في تراثها الفكري على شيء يعوَّل عليه يدعم غيرتها على الديمقراطية . كان عليها باختصار أن تتعثر بالاستبداد القادم من الاتجاه الآخر لحركتها لتكتشف جوهرها , وأن تبدأ من الصفر وأن تجتهد في بناء موقف فكري حقيقي من الديمقراطية والحريات والتعددية السياسية والفكرية ، وان تجدد نفسها على قاعدة الاعتراف بأن الحقيقة متنوعة ولا ينفرد بها احد دون سواه , وان الفكرة التي تحتمي وراء القوة ولا تملك الحجة الكافية لحماية نفسها من داخلها تنهار أمام نقيضها عند خط المواجهة الأول .
في هذه الأثناء وفي خط متناسق مع اخفاقات الثورات العربية اخذ عنصر مال النفط العربي يأخذ مكانه كلاعب رئيسي في ميدان السياسة ويملأ الفجوات الضخمة التي خلفتها الثورات وراءها وهي تنتقل من مرحلة إلى أخرى من مراحل الصراع والإخفاق , وصار اللاعب رقم (1) في مواجهة الإيديولوجيات ثم المشاريع الوطنية واختطف منها بريقها , واستحوذ على المبادرة حتى أصبحت له كلمته في تقرير طبيعة الأنظمة السياسية العربية من خلال التعبير عن رضاه أو عدم رضاه عن نخب الحكم وأسلوب تعاطيها مع القضايا السياسية والاجتماعية لبلدانها او غيرها من القضايا المشتركة . أن النجاح الذي حققه في معركة كسر الإرادات كان قد فتح أمامه الباب على مصراعيه لترتيب أوراقه في كل الساحات التي امتد اليها . وكان عليه أن يؤسس فكره الخاص وأدواته الإعلامية المتنوعة والبراقة التي حملته بهدوء إلى عقل المواطن العربي في ظروف الإحباط التي نتجت عن الهزائم وانكسارات الثورات .وجرى بصورة متسارعة تسيل المشروع النهضوي الوطني العربي في ارصدة مالية خاصة بزعامات الأنظمة الاستبدادية والقوى التي موَّلت تصفية نخب الفكر " الثوري " واضطهادها حتى حاصرها الجوع واليأس فلم يجد بعضها ما يبيعه سوى فكره القديم , تخلص منه كما يتخلص الغريق من ملابسه ليتمكن من السباحة للوصول إلى الشاطئ .
وفي حين كان هذا " المال العربي " يقوم بتجسير العلاقة بين هذا الثورات والسوق الرأسمالية فإنه كان يقوم بوظيفة أخرى تعتمد فكرة النقيض الحضاري للغرب ليتقي بذلك رياح الديمقراطية باعتبارها منتجاً دخيلاً يتناقض مع الخصائص الثقافية والدينية لهذه البلدان .
لم يكن القيام بهذا الدور المزدوج مهمة سهلة . كان على العرب في ظروفهم هذه ان يبحثوا بجديه عن إجابه مسئولة من موقعهم في هذا العالم الجديد .. هل هم جزء من هذه الحضارة السائدة , أم أنهم نقيض لها .. أم أنهم حضارة مستقلة , أم أنهم لا هذا ولا ذاك وإنما هم مجرد شعوب تتلمس طريقها داخل عالم متحرك يتقاذفهم الموج نحو شواطئ مجهولة .
لكل زمان حضارته السائدة التي لا ي ستطيع احد أن يقف خارجها .. لكن أن تصبح جزءاً من هذه الحضارة السائدة لا يعني أن تفقد خصوصيتك فالحضارة المؤهلة للبقاء هي التي تقوم على التنوع في إطار اشمل من المشترك الذي يجعل الحضارة قيمة عالمية , وهذا هو جوهر المسألة في هذا المأزق العربي الذي جعل " فكرة " النقيض تبدو وكأنها قد غدت مبرراً للقمع الذي يتعرض له مستقبل هذه الأم ة .
إن السمتين الرئيستين لهذه الحضارة السائدة هما التطور العلمي والتكنولوجي والديمقراطي . ولا يكمن المشكل في التطور العلمي , فلم نعد نتميز بشئ عندما يتعلق الأمر بنظام الحياة الذي تَشَكَّل على قاعدة الاختراعات التي تقدمها هذا الحضارة للبشرية , أما عندما يتعلق الأمر بالجانب الأخر من القواعد التي تشكل نظام الحياة هذا فنحن نسعى إلى أن نصبح جزءاً من السوق الرأسمالي العالمي ولكننا نريد أن نقف بهذا الانفتاح عند حدود الاقتصاد , وهي عملية انتقائية يصعب على الطرف الضعيف في معادلة الشراكة أن يقرر مسارها وحدودها . للاقتصاد وجهه السياسي الذي لايمكن أن نغض الطرف عنه ، وتشكل هذه الانتقائية التي يمارسها النظام الرسمي والتي سعى المال العربي إلى صياغتها بصورة إرادوية .
فمن جانب اندماج في الحضارة عندما يتعلق الأمر باستخدام مخرجات التطور العلمي والتكنولوجي وعندما يتعلق الأمر بالتوحد مع السوق الرأسمالي بما يشكله من نظام للقيم يصعب فرزها إلى مقبول وغير مقبول ... الخ . ومن جانب أخر نقيض لهذه الحضارة عندما يتعلق الأمر بالجزء السياسي من نظام القيم وخاصة الديمقراطية الأمر الذي جعلنا نبدو وكأننا لا ننتمي إلى هذا البيت الواسع سوى أننا نحتل فيه غرفاً مستأجرة بقيمة ما نملك من ثروة أو ما نرهنه من أصول أو مواقف .
إن الجوهري في الدعوة إلى بقائنا خارج الحضارة السائدة كنقيض لا يكمن فيما يدعيه البعض من غيرة على ثقافة الأمة وإنما هو تعبير عن السير بهذه الدعوات في طريق يتعارض مع الحرية والديمقراطية لتلبية مصالح النظام الرسمي العربي بالصيغة التي استقر عليها : أي أنه من ناحية منفتح مع جزء من هذه الحضارة لتسويق نفسه عند مراكزها ومن ناحية أخرى مغلق تجاه الجزء الذي يتطلع إليها الشعب لمواجهة الهيمنة والاستبداد .. لقد استطاع النظام الرسمي العربي أن يوظف الشق الأول بتقديم المزيد من التنازلات لمراكز تلك الحضارة مقابل صمت هذه المراكز تجاه ما تتعرض له الشعوب من استبداد وهيمنة وتهميش .
وخامساً :- أن أهم ما يمكن أن يثار هنا هو أن هذه العملية الانتقائية قد حاولت الاعتماد على توظيف مضمون أيديولوجي للديمقراطية بجعلها صفة ملاصقة للتغريب وإخفاء الجوانب الاساسية التي تعالج مسألة الحكم والسلطة ودور ومكانة الشعب في هذه العميلة المصيرية .
أن تفكيك الديمقراطية كأداة لممارسة الحرية لن يجد فيها من الزوائد الإيديولوجية ما يثير الخلافات الكبيرة، فهي ليست معنية بتقرير الطبيعة الاجتماعية للنظام السياسي ، لكنها هي أداة الوصول إلى ذلك عبر اختيارات الناس الواعية . إ ن الديمقراطية هي أداة ترشيد وتسوية التنافس بين البرامج والسياسات وعناوينها المؤسسية في ساحة العمل السياسي وتهيئة المجتمع سياسياً وثقافياً لقبول النتائج المترتبة على اختيارات الإرادة الجماعية عبر شبكة من الوسائل والأدوات المدنية التي تعمل بكفاءة ونزاهة، ولكي تكون كذلك فإنها لابد أن تكون " أداة " الموضوع لا الموضوع ذاته. وفي المرحلة الأولى من الممكن أن تكون هي الموضوع عندما يكون الصراع من أجلها هدفاً بذاته، وفي هذه المرحلة المبكرة تنفرد الديمقراطية بموضوع الصراع مع الإيديولوجيات الأخرى الرافضة للديمقراطية كأداة لتسوية معادلة الحكم بالاستناد إلى ا لإ راد ة الشعبية .
ولا ينبغي الاعتقاد أن مفهوم الديمقراطية على درجة كبيرة من النقاوة داخل المخيال الشعبي يسمح بفرز الغث والسمين . فعلى الرغم من أن المساحة التي أحتفظ بها هذا المخيال لشورى العدل والأهداف الكبرى للثورات الإصلاحية وثورات التغيير طوال العهود الماضية كانت كافية لتفاعل فكرة التغيير وتصحيح الموروث السياسي والفكر ي الناشئ عن الأنظمة الاستبدادية ، إلَّا أن ما اعتمل في محيط هذه المساحة وفي حرمها من تجارب وخديعة وخيبة جعل المسألة تبدو أكثر تعقيداً من كونها مجرد عملية فرز لارتباطها بإعادة بناء الفكرة من الصفر . فالنظام الاستبدادي يتجه أول مايتجه نحو إرادة الإنسان ليصفي حسابه معها حتى يسهل عليه بعد ذلك مصادرة الحريات ، وفي غياب الحريات يصعب الحفاظ على مخيلة متماسكة لا يتسرب إلى نسيجها ذلك النقيض الذي يعمل بانتظام ودأب على تدمير مخزونها وتدمير ذاكرتها وتدمير مقاومتها وأخيراً تدمير قدرتها على فرز الخبيث والطيب .. ويمكن النظر إلى الديمقراطية كعمليه موضوعيه تراكمية من الزاوية التي يدعم فيها المخيال الشعبي بالعوامل التي تمكنه من مقاومة تدمير الاستبداد لحوافز تمسكه بتلك المساحة من الحرية التي شحنت بشورى العدل وبنضالات الأجيال المتعاقبة وتضحياتها من اجل الحرية في مواجهة الاستبداد والتجارب التي التهمت المشروع الوطني ومن ثم إعادة بناء الفكرة بناء عقليا منهاجيا ً من خلال المؤسسات المدنية التي سيعول عليها الانتقال بها من الحالة الوجدانية إلى الواقع العملي مع ما يرتبه ذلك من تغيرات جوهرية في الحامل الاجتماعي للفكرة ليتحول المخيال الشعبي تدريجيا من حاضن تاريخي إلى منتج سياسي للأدوات التي ستخرج بها إلى ارض الواقع .
فإذا كان المخيال الاجتماعي بما يترسب في قاعه من إ كبار لشورى العدل ولنضالات وتضحيات الأجيال المتعاقبة من اجل العدالة ألاجتماعية والحريات قد أسهم في جعل الديمقراطية قضيه حية ومقبولة اجتماعيا وقاوم هم بأفق اشمل جمود الاستبداد فإن دور المؤسسات المدنية يكمن في الوقت الراهن في بلورة قاطرة تاريخية تقود عمليه البناء العقلي للفكرة في الوسط الشعبي بحيث لا تظل رهينة المساومات لأنظمة لا ترى في الديمقراطية غير انتخابات شكليه في محيط من القمع ومصادرة الحريات والاستبعاد الاجتماعي .. ولا بد من قيام المؤسسة المدنية القادرة على المبادرة التاريخية بتحويل هذه الحاجة الكامنة إلى قوة دفع لعجلة التغير .. ويجب أن تكون هذه المؤسسة كفؤة ومرنة بما يكفي لامتصاص الصدمات الناشئة عن مقاومة التحول الديمقراطي لأن أنظمة الاستبداد لم تعد تلك الأنظمة التي تقاوم مطالب التغيير بصورة فجة فهي تراوغ بوسائل وأساليب تجعلها قادرة على امتصاص هذه المطالب دون أن تكون ملزمة برفضها فتعلن مثلا التزامها بالديمقراطية وتقاومها من داخلها وعندها أن المقاومة من داخل الفكرة هي انجح وسيله للقضاء عليها .
وسادسا :- فإن الأسئلة الكثيرة التي توضع أمام العقل لن تنفك تبعث فيه الحوافز وتستثير فيه الإدراك بأهمية أن يتخلى عن الحيادية التي . رتبته فيها قرون من الإهمال والتجهيل أو الانحياز السلبي لبلاط السلطة . ولابد أن يكتشف بعد أن ينفض عن نفسه غبار الإهمال ويلملم أجزاءه المقموعة ، جسامة المهمة التي عليه أن يضطلع بها باعتباره القوه التي تتسلم ذلك الميراث الذي حمله المخيال الشعبي عهودا طويلة وسط موجات من الاستبداد والظلم والجمود . وبقدر ما كان هذا المخيال أمينا في التمسك بروح الفكرة ، وقدم من اجلها التضحيات ، فإن من المؤمل أن يكون العقل الجديد أمينا في تحمل مسئولية الفكرة وكفء في الدفاع عنها وإدارتها كيلا تنتزعها منه القوه كما حدث مع الشورى حينما انتزعته قوة السيف وقناطير الذهب من يد ا لأ م ة ، وكما حدث مع الثورات التحررية التي رفعت شعار حرية الشعوب لتنتهي داخل أدراج الأمن وأقبية السجون وأرصدة في البنوك .
وحتى لا يتكرر ذلك مع الوجه الجديد للفكرة فلا بد من الانتباه إلى حقيقة أن دورة الحياة وتضحيات هذا الجيل التي قصد بها تصحيح ذلك المسار التاريخي لم تعد تحتمل مناورات القوة على النحو القديم ، فقد برزت إلى السطح صور و نماذج أخرى للقوة تتلفع بملابس ناعمة المظهر كي تواكب المسيرة ، ولم يعد يكفي أن يبقى المخيال الشعبي مجرد مخزن للأفكار والمثل المضطهدة ينتقل من جيل إلى جيل بلا هدف أو غاية توالت معه الانتكاسات وضياع الفرص ومحاولات بناء الأوطان بإرادات مقموعة .
اليوم نستطيع أن نقول أن العقل تسلم الميراث في ظروف جرى التمهيد لها بواسطة الثورات الشعبية الشبابية السلمية. واليمن الذي تخطى فتنة الحرب الأهلية التي كان من الممكن أن تلتهم ثورته السلمية سيمضي على قاعدة التغيير باتجاه بناء دولته المدنية الديمقراطية عبر حوار شامل يشارك فيه الجميع دون استثناء وبمشاريع سياسية تعكس بتنوعها وتباعدها عمق المشكلة التي وصل إليها البلد . ولا طريق أمام هذه المشاريع سوى أن تتحاور . لقد عانى اليمنيون كثيرا ويستحقون هذه الفرصة التاريخية ليبدأوا من جديد على طريقة أكثر وضوحا .
والله غالب على أمره .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.