تغاريد حرة .. صرنا غنيمة حرب    تحديد موعد أولى جلسات محاكمة الصحفي محمد المياحي    دبلوماسي امريكي: لن ننتظر إذن تل أبيب لمنع اطلاق النار على سفننا    عيد ميلاد صبري يوسف التاسع والستين .. احتفال بإبداع فنان تشكيلي وأديب يجسد تجارب الاغتراب والهوية    عيد ميلاد صبري يوسف التاسع والستين .. احتفال بإبداع فنان تشكيلي وأديب يجسد تجارب الاغتراب والهوية    عيد ميلاد صبري يوسف التاسع والستين .. احتفال بإبداع فنان تشكيلي وأديب يجسد تجارب الاغتراب والهوية    وكالة: الطائرات اليمنية التي دمرتها إسرائيل بمطار صنعاء لم يكن مؤمنا عليها    أرقام تاريخية بلا ألقاب.. هل يكتب الكلاسيكو نهاية مختلفة لموسم مبابي؟    أرقام تاريخية بلا ألقاب.. هل يكتب الكلاسيكو نهاية مختلفة لموسم مبابي؟    السعودية تقر عقوبات مالية ضد من يطلب إصدار تأشيرة لشخص يحج دون تصريح    تعيين نواب لخمسة وزراء في حكومة ابن بريك    صنعاء.. عيون انطفأت بعد طول الانتظار وقلوب انكسرت خلف القضبان    وسط فوضى أمنية.. مقتل وإصابة 140 شخصا في إب خلال 4 أشهر    رئاسة المجلس الانتقالي تقف أمام مستجدات الأوضاع الإنسانية والسياسية على الساحتين المحلية والإقليمية    ضمن تصاعد العنف الأسري في مناطق سيطرة الحوثي.. شاب في ريمة يقتل والده وزوجته    السامعي يتفقد اعمال إعادة تأهيل مطار صنعاء الدولي    وزير الاقتصاد ورئيس مؤسسة الإسمنت يشاركان في مراسم تشييع الشهيد الذيفاني    انفجارات عنيفة تهز مطار جامو في كشمير وسط توتر باكستاني هندي    سيول الامطار تجرف شخصين وتلحق اضرار في إب    الرئيس : الرد على العدوان الإسرائيلي سيكون مزلزلًا    *- شبوة برس – متابعات خاصة    القضاء ينتصر للأكاديمي الكاف ضد قمع وفساد جامعة عدن    السيد القائد: فضيحة سقوط مقاتلات F-18 كشفت تأثير عملياتنا    تكريم طواقم السفن الراسية بميناء الحديدة    صنعاء .. شركة النفط تعلن انتهاء أزمة المشتقات النفطية    اليدومي يعزي رئيس حزب السلم والتنمية في وفاة والدته    مطار صنعاء "خارج الخدمة".. خسائر تناهز 500 مليون دولار    السعودية: "صندوق الاستثمارات العامة" يطلق سلسلة بطولات عالمية جديدة ل"جولف السيدات"    المرتزقة يستهدفون مزرعة في الجراحي    لوموند الفرنسية: الهجمات اليمنية على إسرائيل ستستمر    . الاتحاد يقلب الطاولة على النصر ويواصل الزحف نحو اللقب السعودي    باريس سان جيرمان يبلغ نهائي دوري أبطال أوروبا    بعد "إسقاط رافال".. هذه أبرز منظومات الدفاع الجوي الباكستاني    محطة بترو مسيلة.. معدات الغاز بمخازنها    شرطة آداب شبوة تحرر مختطفين أثيوبيين وتضبط أموال كبيرة (صور)    شركة الغاز توضح حول احتياجات مختلف القطاعات من مادة الغاز    كهرباء تجارية تدخل الخدمة في عدن والوزارة تصفها بأنها غير قانونية    الرئيس المشاط يعزّي في وفاة الحاج علي الأهدل    الأتباع يشبهون بن حبريش بالامام البخاري (توثيق)    وزير الشباب والقائم بأعمال محافظة تعز يتفقدان أنشطة الدورات الصيفية    خبير دولي يحذر من كارثة تهدد بإخراج سقطرى من قائمة التراث العالمي    فاينانشال تايمز: الاتحاد الأوروبي يعتزم فرض رسوم جمركية على بوينغ    وزارة الأوقاف تعلن بدء تسليم المبالغ المستردة للحجاج عن موسم 1445ه    اليوم انطلاق منافسات الدوري العام لأندية الدرجة الثانية لكرة السلة    دوري أبطال أوروبا: إنتر يطيح ببرشلونة ويطير إلى النهائي    النمسا.. اكتشاف مومياء محنطة بطريقة فريدة    دواء للسكري يظهر نتائج واعدة في علاج سرطان البروستات    وزير التعليم العالي يدشّن التطبيق المهني للدورات التدريبية لمشروع التمكين المهني في ساحل حضرموت    ماسك يعد المكفوفين باستعادة بصرهم خلال عام واحد!    رسالة من الظلام إلى رئيس الوزراء الجديد    وزير الصحة يدشن حملات الرش والتوعية لمكافحة حمى الضنك في عدن    يادوب مرت علي 24 ساعة"... لكن بلا كهرباء!    صرخةُ البراءة.. المسار والمسير    أمريكا بين صناعة الأساطير في هوليود وواقع الهشاشة    المصلحة الحقيقية    أول النصر صرخة    مرض الفشل الكلوي (3)    أطباء تعز يسرقون "كُعال" مرضاهم (وثيقة)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الطريقة التي جاء بها الحكام العرب إلى الحكم جعلت مصيرهم بعد الخروج منه شبحاً يقض مضاجعهم
الدكتور ياسين سعيد نعمان في محاضرته "الجذر التاريخي والثقافي في المخيال الشعبي"
نشر في أخبار اليوم يوم 23 - 02 - 2013

القى الدكتور ياسين سعيد نعمان الأمين العام للحزب الاشتراكي اليمني أمس الأول بمدينة تعز محاضرة بعنوان " الجذر الثقافي التاريخي للديمقراطية في المخيال العربي", ضمن لقاءات مقرر عقدها في عدة محافظات يمنية في محاولة لتشخيص جزء من المشكلة التي تواجه اليمن.
وأكد ياسين أن ثورات الربيع العربي شكلت محطة ذات دلالة خاصة في إعادة اكتشاف صلة العقل العربي السياسي بالجذر الثقافي التاريخي للديمقراطية في المخيال الشعبي, ومدى استعداد هذا العقل على إعادة بناء موقفه من الديمقراطية في ضوء ما رتبته قرون الاستبداد من حاجة إلى الحرية والعدالة والمساواة والحكم الرشيد .
أخبار اليوم تنشر نص المحاضرة التي القاها الدكتور ياسين الخميس بتعز على حلقتين:
شكلت ثورات الربيع العربي محطة ذات دلالة خاصة في إعادة اكتشاف صلة العقل العربي السياسي بالجذر الثقافي التاريخي للديمقراطية في المخيال الشعبي, ومدى استعداد هذا العقل على إعادة بناء موقفه من الديمقراطية في ضوء ما رتبته قرون الاستبداد من حاجة إلى الحرية والعدالة والمساواة والحكم الرشيد وما يقترن بعملية التحول تلك من مواجهة وقطيعة مع الموروث الثقافي والسياسي والأيديولوجي الذي ظل ينتج الموانع والحواجز أمام تحقيق انخراط هذا العقل في هذه العملية التاريخية الموضوعية لبناء الحكم الرشيد.
وبعد هذا الموروث من الضخامة من حيث تنوعه وامتداداته وتأثيراته لدرجة يبدو معها الجذر الثقافي التاريخي للديمقراطية وفي المخيال الشعبي العربي وكأنه مجدب تماماً من أي معطيات يمكن أن تشكل مشاتل إخصاب فكرة المشروع الديمقراطي في هذا العقل الذي بات مثقلاً بهم الانتقال والتحول إلى الديمقراطية تحت وطأة الحاجة الشعبية التي انتفضت من داخل ركام الاستبداد بحثاً عن خروج أمن فضاءات الحرية وبالقدرة على استيعاب عملية التحول تلك في الظروف غير المواتية التي ولدتها السنوات الطويلة لحكم الاستبداد وكذا حالة التشوه العامة للعناصر التي تشكل بمجملها البيئة الحاملة لهذه العملية المعقدة.
إن البحث والتنقيب في هذا الجذر التاريخي لابد أن يرشدنا على حقائق طمرتها أنظمة الحكم المستبد في ثنايا مخيال شعبي هو القادر بمفرده على إطلاقها في الوقت المناسب وعلى يد أجيال قادرة على إعادة إنتاجها لصالح مشروع بناء الدولة المدنية الديمقراطية لقد برهنت ثورة الشباب على هذه الحقيقة.
أولاً: الشورى والديمقراطية:
بتتبع هذا الجذر الثقافي يمكننا الوقوف أمام بعض المحطات التاريخية لنستدل منها على أبرز التجارب السياسية التي كونت للمخيال الشعبي في صلته بالديمقراطية وهو الذي تزاحمت فيه أسئلة كثيرة ظلت بلا إجابات حتى اليوم أو إجابات غير مكتملة.
سنجد في هذه المحطات كيف أن الحكام استندوا في كثير من الأحيان على ما أسموه الخصوصية "كمجموع للإرث الثقافي والإيديولوجي والسياسي والاجتماعي" لإقامة نظام للحكم وطفت مصطلحات ذات قيمة هامة في المخزون الثقافي العربي الإسلامي مثل الشورى أو العدل لتبرئ ساحة الاستبداد وهيأت العقل لقبول فكرة "المستبد العادل". وخلال عهود طويلة راحت تعيد بناء مفاهيم مغايرة ومضامين مختلفة للشورى داخل الوعي العربي المقموع. ولم يكن الأحفاد أقل حذاقة في لعبة تغيير المضامين تلك تجاه مصلحات العصر, فرفع البعض شعار الديمقراطية ليوظفه كغطاء لحكم مستبد تماماً كما حدث مع الشورى في مراحل تاريخية. ومثلما أصبغت هذه الأنظمة المستبدة مضموناً مشوهاً للشورى, يتفق مع حاجاتها إلى المصطلح مع نفور من مضمونه الحقيقي, فقد استمرت هذه الخبرة التاريخية المتراكمة مع الديمقراطية فيما بعد.
استعارت العنوان وسجلت تحته مفهومها الخاص الدال على نفور ايضاً من الديمقراطية وتصحيح مضامينها, كانت الأنظمة تمعن في تمسكها بالمصطلح وتسرف في إعادة بناء معنى مختلف له في الوعي من خلال تشديد العلاقة بين حكمها المستبد وهذا المعنى المشوه والمغاير.. وصار المخزون الثقافي لا يحتفظ بما يفيد الشورى التي قصدها المشرع العظيم بقوله تعالى" وأمرهم شورى بينهم" سوى تلك العبارة التي أطلقها صاحب رسول الله "صلى الله عليه وسلم" أبو بكر في بداية خلافته "أيها الناس لقد وليت عليكم ولست بخيركم فإن رأيتموني على حق فأعينوني وأن رأيتموني على باطل فقوموني" وشي قريب من ذلك لعمر بن الخطاب. أما ما عداه فجله مخزون يبرهن على حجم الضر الذي تعرضت له الشورى في توظيف الحاكم لها.
وما أن أسس معاوية رؤيته التاريخية السياسية لمسألة الحكم على قاعدة جديدة للشورى يلبي حاجة ملكه, ومنذ أن وظف الشورى لنفي الشورى, وأقام منهجاً لتوليد مفاهيم تسليطه للشورى, فقد سار الحاكم من بعده على نفس النهج.. وفي حين حافظ الحاكم على البيعة كشرط لتولي الحكم فأن نبالة الفكرة كانت قد كشطت بحد السيف وبقيت بلا مضمون بعد أن صار الناس لا يبايعون إلا مكرهين ضبطت البيعة ملطخة بدم سعد بن عبادة الأنصاري الذي اختاره الأنصار في لحظة من لحظات الارتباك والفزع بعد وفاة رسول الله خليفة له لولا أن تدارك عمر الموقف لتمضي الأمور بعد ذلك في اتجاه مختلف.
لقد كانت لحظة فارقة تركها رسول الله "صلى الله عليه وسلم" باعتبارها من شؤون الدنيا, حتى إذا ما تباعد الزمن بين عهد الرسول وصحابته الراشدين بأخلاقه وقيمه وشوراه وبيعته من ناحية والعهد الذي بدأ بالفتنة وما رافقه من تشريع لبيعة الإكراه اتسعت فيه الفجوة بين رؤيتين للحكم والشورى لا تمتان لبعضهما بصلة, لقد اغتالت بيعة الإكراه فكرة البيعة من أساسها, ولم يقتصر الإكراه على البيعة بذلك النموذج من الشورى الذي أسسه معاوية بل امتد ذلك على تسيير شؤون الحكم, حيث استلزم الأمر انتزاع المشورة والرأي في أحيان كثيرة بحد السيف أو بأكياس الذهب, والوسيلتان ترمزان على الإكراه في كل الأحوال, فالسيف يسلب الروح ويسلب الإرادة.
وعلى مقربة من هذا المفهوم الرسمي, كان هناك نموذج نظري للشورى تلوح به المعارضة في وجه الحاكم من داخل أقبيتها التي تتخفى فيها هرباً من بطش الحاكم..
نمودج يستدل رسول الله "صلى الله عليه وسلم" والراشدون من بعده فيأتي من يبرز عزوف الحاكم عن السير في ذلك الطريق بالقول: من يستطيع أن يكون رسول الله أو عمر أو أبو بكر؟ّ فالشخصية لا تتكرر وبما أنها لا تتكرر فأن النموذج لا يتكرر هو الآخر لأنه يكتسب تطبيقاته من طبائع الناس.. لكن هؤلاء لا يقولون لنا جواباً مقنعاً عن أسباب تكرار الشخصية في نماذج الاستبداد.. ومع ذلك فالمعارضة هي الأخرى لم تكن أحسن حالاً من الحاكم في ممارستها للشورى ولم تؤسس سنة يمكن الركون إليها في دحض سنن الحاكم وإدانتها من خلال نموذج تطبيقي يعيد للشورى صورتها التي عرفها الناس به أيام الرسول والراشدين..
تلك الصورة التي كانت تجسد الشورى بقيم العدل والمساواة.. فيجد فيه الناس مستقبلهم في ظل هذا الدين.. ولذلك فقد كان التحول الخطير الذي أحدثه معاوية, ومن قبله النزوع إلى الاستسلام لضغط العصبية الأموية, لقطة افتراق بين شورى العدل وتلك الشورى المصممة لتلبية متطلبات نظام الحكم الجديد.
إن هذا يطرح أمامنا سؤالاً حول القوة الهائلة التي استلزمها نموذج من جاءوا بعد الراشدين لتحقيق هذا الافتراق ودفع النموذج الراشدي إلى الخلف ليصبح جزءاً من الذاكرة تم من الخيال الشعبي.. قد يقول البعض إن الفتنة قد مهدت لذلك, وأن الذين كانوا أنصار النموذج الراشدي وحملته بسبب موقفهم من إيلاف الحكم, قد خذلوه في أهم لحظة من اللحظات الحاسمة بمساومات ومجادلات عقيمة, وإن الإطار السياسي والثقافي الذي انتقل فيه هذا النموذج من حاكم إلى آخر طوال أربعين سنة, بدأ يتمزق مبكراً عندما بدأت قناطير الذهب والفضة تتكدس بأيدي البعض وتنشئ ميزاناً للقوة ذات توجهات وملامح عصيبة داخل المنظومة السياسية والفكرية للمشروع العالمي العظيم, مما أعطى للثروة والعصبية وزناً في إعادة صياغة مضمون الشورى, فلم يعد مثلاً رأي عمار بن ياسر أو سلمان الفارسي أو أبي ذر الغفاري بمنزلة رأي عبدالرحمن بن عوف أو الزبير أو طلحة بن عبيد الله أو مروان بن الحكم عندما يتعلق الأمر بتقرير موقف له صلة بمصير المسلمين. لم تعد قوة الإيمان ونقاوة الضمير وعفة النفس في مركز اهتمام عند الحاكم بعد أن بدا أن هناك ما هو أكثر أهمية في تعديل ميزان القوة.. ولابد أن نلاحظ أن نمط حكم معاوية تشكل في بيئة مختلفة بالقرب من تخوم الإمبراطورية البيزنطية.. ففي هذه البيئة تشكلت المرجعية الفكرية والسياسية لحكم معاوية بما في ذلك نموذج "الشورى" الذي شكل انقطاعاً عن نموذج الشورى الراشدي من الزاوية التي بات فيها الأمر وراثياً ذا نزعة عصبوية.. ولما جادل معاوية خصومه حول التوريث, كان كأحد كتاب الوحي, ملماً بما سكت عنه القرآن وبما سكت عنه الرسول, فما سكت عنه ترك أمره للمسلمين ينظمونه حسب حاجتهم وظروف عصرهم.. وتثار حول ما سكت عنه رسول الله "صلى الله عليه وسلم" أسئلة ذات طابع جدلي عميق تتعلق بمفهوم السنة وهي هل أن السنة هي ما قاله وما عمله الرسول فقط؟ّ إذا كان الأمر كذلك فما هو الحال بخصوص ما سكت عنه وما دلالة ذلك؟ ألا يمكن أن يستدل من عزوفه عن تنظيم شؤون الأمر من بعده على أنه سنة تلزم من سيتولى من بعده الأمر على السير على هداه؟ غير أن معاوية وهو صاحب رسول الله وأحد كتاب الوحي لم يكن من يغفلون القيمة المعنوية لعلاقة من هذا النوع السامي في بناء مرجعية مركبة أسرية, إيمانية, فكرية لشرعية حكمه وتوظيفها في مقارعة خصومه لتوطيد حكم عشيرة الأمويين من أبناء قصي القرشي, فما الذي يمكن استنتاجه, بناءً على دوافعه ممن جعل هذا الأمر في قريش حصراً منذ السقيفة إذا لم يكن قد قصد به توريثه, لكن رسول الله لم يجعل الأمر في قريش ولم يوص بذلك وتركه للمسلمين.. يبرز هنا حال المسلمين وقد انقطع عنهم الوحي ليضعهم أمام مسؤوليتهم لأول مرة بعد غياب القائد..
تؤكد الأحداث أن خيارات صحابة رسول الله قد استحضرت الحاجة في اللحظة ذاتها بالاستناد إلى قيم الدين الجديد مع عدم إغفال المكانة والمنزلة والتراتبية للأفراد والمجاميع والقبائل.. كان الإيمان حاضراً وكان السيف حاضراً, وكانت الوجاهة حاضرة وكانت العشيرة حاضرة, لكن حضور هذه العناصر لم يكن مفككاً أو معروضاً في مواجهة بعضه البعض, بل كان حاضراً في صيغة مكتملة تدعم بعضها في مواجهة بدائل محتملة..
ومع المدى وانتقال الخلافة أخذ هذا التكامل يتخلخل ومن بين هذه الشقوق يتسرب نموذج ما بعد الراشدي الذي لم يعد صاحبه في حاجة إلى أن يبحث في مسألة التوريث من الناحية الشرعية أو الأخلاقية, فبعد مقتل عثمان الخليفة الثالث اتضح بما لا يدع مجالاً للشك أن هذا الأمر العظيم لا يمكن أن يقوم على عصبية بعينها مهما كانت قوتها ومكانتها ذلك أنه سرعان ما بدأت هذه العصبية تتحلل إلى عصبيات أصغر, وكان لابد لهذه العصبيات الأصغر من أن تلجأ إلى القوة والمال كي تحكم وتسود, لذلك كما قلنا لم يكن معاوية يهتم في مسألة التوريث بشرعية الجماعة, وكانت أخلاق الناس القديمة قد صقلها الذهب وحد السيف معاً, فعلى الرغم من أن الصلاة وراء علي أتم إلا أن مائدة معاوية أدسم على حد تعبير أحد أنصار علي ويقال إنه أخوه عقيل الذي فر من خشونة وزهد حياة علي.. هذا النمط من الأخلاق لم يعد قادراً على استيعاب غير تلك الشورى التي تكيف نفسها مع حاجة الحاكم وتتملقه بتغيير مضمونها, ووظيفتها لقد ركز معاوية على تغيير نمط الاخلاق عند الناس أولاً واستطاع بدهائه أن يضعهم في حرم عصره وعندما تمكن من أخلاقهم لم يجد حرجاً بعد ذلك من أن يخرج عليهم بخلافة القرشي الأموي الذي عمل على تأسيس ملك ضخم على قاعدة عصبية اصغر والتي كان عليها لكي تنجح في مهمتها أن تنتج قيمها الخاصة بما في ذلك فلاسفتها "الجبرية" الذين برروا ظلم الأمويين بأنها مشيئة الله التي لا مراد لها باعتبار أن الإنسان لا خيار له فيما يعمله.
كان الحكم وأسس أخلاقه الجديدة وشوراه المقابلة قد استقر, ولم يعد ممكناً الحديث عن شورى العدل التي قصدها الشرع الحكيم. لقد توارى هذا النوع من الشورى إلى داخل المخيال الاجتماعي الذي ظل حاضناً له كتعبير عن حاجة صامتة أحياناً وصاخبة أحياناً أخرى لمقاومة الاستبداد, ينتقل من جيل إلى جيل, يتجدد بالفكر المستنير الذي يخرج به علماء أجلاء.. أصحاب مشاريع إصلاحية أو قادة ثورات اجتماعية, تتشكل ملامحه في قلب المعارك للخلاص من الاستبداد والجمود.
وأخذ هذا النموذج الذي حمله المخيال الشعبي يفرد لنفسه مكاناً في الثقافة العربية باعتباره هدفاً تفرضه حاجة موضوعية ناشئة عن فساد النماذج المطبقة وما قادت إليه من إفساد لنهضة الأمة.
وكان من الطبيعي أن يتفاعل هذا المخيال الشعبي الحامل لشورى العدل والمساواة مع الدعوات المعاصرة ورياح التغيير التي راحت تطرح العلاقة بين الحاكم عبر آليات جديدة وكان من الممكن أن يسبق العرب غيرهم من الشعوب في استيعاب المتغيرات الجديدة بسبب ما تشبع به مخيالهم من شوق إلى نموذج شورى العدل القريب في جوهره من نظام عمل هذه الآليات والتي عرفت بالديمقراطية والوصول السلمي إلى السلطة وكذا الانتقال منها لولا التدخل الأجنبي الذي فتح الطريق أمام نظم الجمود والاستبداد وتشجيع سدنة الموروث الاستبدادي في التصدي لرياح التغيير وافتعال معارك بالحديث عن تعارض جوهري بين الشورى والديمقراطية دون أن يقول لنا هؤلاء عن أي شورى يتحدثون؟ أهي شوراهم التي كرسوها كجزء من الموروث الاستبدادي أم هي شورى العدل والمساواة التي خذلوها في كل المعارك التاريخية في مواجهة الاستبداد.
لم يكن ذلك سوى محاولة لخلق صدام داخل الفكرة بين عناصرها المختلفة وصورها المعبرة عن جوهر متماثل وآليات متنوعة.
وثانياً: الثورات المعاصرة وبعض نماذج الحكم المعاصر:
ولابد من الاستدلال هنا على محاولات خلق الصدام داخل الفكرة وبتناول سريع لبعض نماذج الحكم المعاصر, فبعض النخب جاءت إلى الحكم بواسطة المؤسسة العسكرية وغالباً ما جاءت بفكرة أيدلوجية صدامية لتسويق هذا الاستيلاء على السلطة يتم على نحو سريع تسمياتها "ثورة" تتولى كل شيء بالنيابة عن الشعب, فهي تقوم بالثورة نيابة عن الشعب وتستولي على السلطة باسم الشعب, وحينما يطالب الشعب بإشراكه في إدارة شؤون حياته ويتطلع إلى الحريات وإلى الحقوق التي وعدته بها الثورة لا يجد سوى البنادق مصوبة على صدره.. الثورة في حقيقة الأمر هي تصحيح لدور ومكانة وقيم الإنسان في سيرورة الحياة, وهذا يعني أنه ما لم يكن للثورة أدواتها السياسية التي تعظم قيم الحرية والمساواة والعدل, ودوافعها الثقافية التي تضع الإنسان في مصاف الحقيقة المنطلقة التي تنتظم في مدارها كل الحقائق الأخرى, فأنها تصبح عملاً فوضوياً عبثياً, يستهلك وقت الشعوب ويطمس حقيقة تخلفها بشعارات النصر الوهمي, ويقتل حوافز التغيير عندها باستحقاق الولاء لمن صنعوا هذا النصر.
علينا أن نبحث بشيء من الموضوعية عن الأسباب التي جعلت "ثوراتنا" ترفع شعار الحرية والديمقراطية وحق الشعوب في الحكم ثم تنقلب عليها في الممارسة وينتهي بها المطاف إلى أبواب السجون وأقبية التعذيب.. ليس هناك خلل في الفكرة التي نشأت مع الحاجة لإصلاح حال الأمة على قاعدة رد الاعتبار لحريتها المهدورة والمصادرة.. يكمن الخلل في أن هذه الحرية قد توقفت عند حدود مفهوم اجتزأ القشرة السطحية للحرية عن لبها وراح ينشرها فوق أنظمة مستبدة ترفع الراية الوطنية.
أما لماذا تمسكت هذه النخب بهذا المفهوم المشوه للحرية فذلك أنما يعود إلى عاملين:
الأول: أن هذه النخب بطبيعتها أو بحكم نشأتها لا تؤمن بالتنوع والديمقراطية التعددية, فكل ما عدا فكرها باطل, وكل ما عدا أطروحاتها السياسية خيانة, وكل ما عدا المنتسبين إلى تنظيماتها مشكوك في وطنيتهم..
الثاني: هو أن مصير الحاكم بعد خروجه من الحكم يقدم مبرراً كافياً لتمسك هذه النخب بالحكم باعتباره الملاذ الآمن لها من البؤس والملاحقة لاسيما وان تقاليد تداول السلطة لا تترك أمام الحاكم غير خيار واحد وهو الكرسي أو القبر, فالطريقة التي يأتي بها الحكام العرب إلى الحكم تجعل مصيرهم بعد الخروج من الحكم شبحاً يقض مضاجعهم مثل هذه الثورات إلى تقسيم مجتمعاتهم بين موالين وخصوم ويتفرغون زمن حكمهم في مطاردة "الخصوم والأعداء" وتصفيتهم ليبرهنوا على منعة وقوة فيكون معيار نجاح الحاكم وقوته "صموده" في وجه هؤلاء الأعداء.. صموده بالقمع لا بالبناء والعدالة وإطلاق الحريات, ولذلك فقد نجح هؤلاء الحكام في القمع واخفقوا في بناء أنظمة حكم مستقرة تجدد لنفسها بالعدل والحرية والمشاركة الشعبية.
من جديد يتوارى مضمون شعار النموذج الثوري القائم على العدل والمساواة الذي رفعته الثورات وتخلت عنه إلى المخيال الشعبي ويبقى حاضراً ما جسده الواقع من قمع وفساد واستبداد.
من ناحية أخرى فشلت هذه الثورات عن اكتشاف كنه المعرفة التي اختزنتها أو ابد الحضارة القديمة التي تملأ البلاد العربية وعجزت عن إقامة جسور التواصل معها فكرست الانقطاع الذي سجلته عهود الجمود وراحت تقلد الشكل الخارجي لها وساومت به العقل, فكانت ثورة في شكلها الخارجي وجموداً في مضمونها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.