انطلق في تونس سباق شخصيات سياسية نحو قصر الرئاسة، وبدأت هذه الشخصيات حملاتها الانتخابية المبكرة، كما شرع رافضون لهم ومؤيدون لمنافسيهم في حملة التشويه والرفض المعلن أحياناً وغير المباشر في أغلب الأحيان . وقد تطول القائمة وتزدحم، وتفقد عدداً من الأسماء قبيل الاستحقاق الانتخابي المقبل، كما قد تحمل مفاجآت غير سارة للبعض ومفرحة للبعض الآخر، ولا يمكن تحديد طابور المترشحين للرئاسة اليوم، ولكن تؤكد الأحداث السياسية في تونس أن عدداً من الشخصيات السياسية المعروفة أطلقت سهامها فعلاً نحو الهدف: (قصر قرطاج الرئاسي) . طلب زعيم تيار العريضة الشعبية الهاشمي الحامدي من إعلامي تونسي خلال حوار متلفز أن يناديه ب"سيدي الرئيس" وأكد أنه سيحظى بالأغلبية في الانتخابات الرئاسية القادمة . وهذا القصر يراود كذلك رئيس المجلس الوطني التأسيسي مصطفى بن جعفر الشخصية السياسية التي اختارت الابتعاد عن الأضواء والامتناع عن الادلاء بالتصريحات للإعلاميين وإجراء الحوارات التي "قد تضر أكثر مما تنفع"، على حد تعبيره . وراهن على صمته ممتطياً بذلك "مغامرة" الهروب من المواجهة والاكتفاء بالحضور غيابياً الى حين الانتهاء من كتابة الدستور . الدكتور مصطفى بن جعفر يعمل على انجاح مهمة كتابة الدستور ويرى في ذلك مفتاح "قصر قرطاج" وطريق الوصول الى الرئاسة، غافلاً عما يدور في الكواليس حول عدم الاكتفاء بمواجهة تهريج نواب التأسيسي وإمعانهم في إنفاق الوقت المخصص لكتابة الدستور في نقاشات جانبية، بكلمات ناعمة تحرضهم على مزيد من اللامبالاة، وبابتسامات يوزعها من وراء مصدحه . سياسة الصمت والابتعاد عن الأضواء وتجنب الإدلاء بتصريحات قد تورطه وتكون وسيلة "الذين يصطادون في الماء العكر" لانتقاده، إذ يعتبره مراقبون "قاصراً عن إدارة مجلس يضم عشرات النواب" وبعيداً عن الشعب الذي يئس من طرق أبواب المجلس الموصدة باستمرار . مصطفى بن جعفر والرئيس الانتقالي منصف المرزوقي يقفان على طرفي نقيض . فبينما لاذ الأول بالصمت والاختفاء، قرر الثاني مواجهة الرأي العام بتصريحاته المتناقضة اللامسؤولة أحياناً والمستفزة في غالب الأحيان، ساعياً الى إرضاء كل الأطراف في سبيل الحفاظ على كرسي الرئاسة . فبعد أن انتقد أداء حكومة حمادي الجبالي السابقة وارتدى جلباب المعارضة مستجدياً إياها لدعمه والوقوف الى جانبه في رحلة الحفاظ على الكرسي، دعا الى نصب المشانق والمقاصل لهذه المعارضة نفسها التي كان بالأمس يدعمها، من خلال تصريحات أدلى بها، وهدد فيها "العلمانيين المتشددين" بثورة ثانية . تصريحات أثارت موجة من الاستنكار من قبل مختلف الفرقاء السياسيين ودفعت نواب من المجلس الوطني التأسيسي للإمضاء على عريضة ضد الرئيس لسحب الثقة منه . ولعل دوافع الرئيس الانتقالي في الوقوف ضد المعارضة تتلخص في ايمانه بأن دعم حزب النهضة له سيمكنه من الترشح للرئاسة، إذ بعدما هاجمها في أغسطس/ آب 2012 واتهمها بالسيطرة على مفاصل الدولة، صار يجاملها علناً وصراحة وأعلن لمناسبة انعقاد المجلس الوطني الثالث لحزب "المؤتمر من أجل الجمهورية" أنّ "الحزب ليس عدوّاً للنهضة . . .وأنه حليف استراتيجي البارحة واليوم وغداً"، بعد أن أدرك أو أملي عليه أن دعم حركة النهضة لاسمه سيكون الضامن الحقيقي لنجاحه في سباق الرئاسة . وحاول الرئيس كسب ود النهضة الحزب الإسلامي الحاكم من جديد، على حساب علاقته بالمعارضة التي تصر على سحب الثقة منه وتستنكر تصريحاته اللامسؤولة بشدة، بينما يروج فاعلون في الساحة السياسية التونسية أن أمين عام حركة النهضة حمادي الجبالي هو مرشح الحزب للانتخابات الرئاسية الجديدة . إذ بعدما أثبت فشله في إدارة البلاد طيلة سنة ونيف من ترؤسه للحكومة وفشله لأشهر في إجراء تعديل وزاري، استطاع حمادي الجبالي النهضاوي المعتدل أن يدفع منصبه ثمناً لصورة رجل المرحلة والمنقذ الذي أعلن عشية اغتيال المناضل شكري بالعيد قراره بتشكيل حكومة كفاءات وطنيّة غير متحزّبة وبعيدة عن التجاذبات السياسيّة، لينقذ ما يمكن انقاذه . ثم جاءت استقالته كخطوة أولى في طريق "قصر قرطاج" حسب تأويلات البعض الذين اعتبروا تخلي الجبالي عن رئاسة الحكومة لم يكن سوى بداية لحملة انتخابية مبكرة ولعبة جديدة أجادت النهضة رسم خطوطها، وظهر الجبالي بموقف دفع أغلب أحزاب المعارضة الى الالتفاف حوله وحاز ثقة الرأي العام الذي جعل جنازة شكري بالعيد مناسبة للمطالبة بإسقاط الحكومة . حمادي الجبالي ومنصف المرزوقي ومصطفى بن جعفر والهاشمي الحامدي، ليست الشخصيات السياسية الوحيدة التي تتسابق نحو قصر قرطاج، وكرسي رئاسة بصلاحيات جد ضيقة في نظام رئاسي معدل يحمل في تفاصيله نظام برلماني نجحت النهضة في تمريره، بل تنافسها في ذلك أسماء ترشحها المعارضة التونسية بقوة، لعل أبرزها أمين عام حركة نداء تونس الطيب البكوش وأحمد نجيب الشابي رئيس الهيئة السياسية للحزب الجمهوري، وهما يقفان على المسافة نفسها من قصر قرطاج . اذ قبل الإعلان عن ولادة تحالف الاتحاد من أجل تونس الذي يضم خمسة أحزاب سياسيّة (الجمهوري والمسار ونداء تونس والعمل الوطني الديمقراطي والاشتراكي)، طرح اسم نجيب الشابي بقوة كمرشح المعارضة للرئاسة، كما تردد في أروقة حركة نداء تونس اسم النقابي الطيب البكوش مرشح الحزب للرئاسة، بدعم شخصي من مؤسس الحركة الباجي قائد السبسي . ولكن تحالف الأحزاب الخمسة وضع الاسمين وجهاً لوجه، كخيارين يخوضان معاً معركة الرئاسة والوصول الى القصر . وتطرح المعارضة كذلك اسماً من الوزن الثقيل وهو كمال مرجان أمين عام "حزب المبادرة" آخر وزراء خارجية النظام السابق، الذي يحظى بالدعم المعلن من حركة النهضة والدعم غير المعلن من جهات أجنبية، أكدته برقيات سرّية صادرة عن السفير الأمريكي السابق بتونس، ما يُعرف بوثائق ويكيليكس، رشحته لرئاسة تونس وهو الذي يحظى بدعم أمريكي غربي . وتطرح المعارضة كذلك اسم حمّة الهمّامي أشهر قيادات اليسار التونسي والوجه الأبرز الذي سيراهن عليه تحالف الجبهة الشعبيّة لتقديمه كمترشّح لمنصب رئيس الدولة، ويحظى حمّة الهمّامي المتمسك بالمبدأ والفكرة باحترام أغلب القوى السياسيّة في تونس . تحالفات الحكم والمعارضة اتضحت لديها الرؤى حول أسماء مرشّحيها للانتخابات الرئاسيّة، ولكن لا ضمانات في السياسية التي لها ظاهر وباطن، ولا ضمانات لسياسيين لهم مخططات معلنة تروج عبر الإعلام للتضليل والإلهاء عن الحقيقة، وخطط أخرى سرية، وخطط سرية للغاية وأوراق فوق الطاولة وأخرى تحت الطاولة، ومغالطات تعج بها الصحف وتتصدر نشرات الأخبار، وحقائق تقال في السر ولا تكتب . فقد تحمل الأيام القادمة مفاجآت من الوزن الثقيل تقلب كل الموازين وتجهض مختلف التوقعات، وقد يدخل قصر قرطاج اسم يجيد تحين الفرص الأخيرة والمراوغة والتخفي وراء دهائه السياسي وحنكته في اختيار الطريق الأقصر لكرسي الرئاسة، والباجي قائد السبسي، كما راشد الغنوشي ليسا بعيدين عن هذا التكتيك السياسي .