إعداد عمار كاظم «قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى» الشورى/ 23 ** «القرآن غنى لا فقر بعده، ولا غنى دونه» رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ** التقليد الثقافي الناس صنفان في تلقِّيهم للثقافة والمفاهيم الحضارية والمدنية، من الأفكار والسلوك واللِّباس والطّعام والتعامل، وأسلوب العيش، وطريقة العلاقات الاجتماعية. فصنف يتلقّى عن فهم ووعي وقناعة، ويدري لماذا يؤمن بهذه الفكرة، ولماذا يرفض غيرها، وهو يدري لماذا يعمل هذا الشيء، ولماذا يتركه. وصنف آخر مُقلِّد ليس لديه فهم ولا وعي للأشياء، فهو تابع يقتنع بما توصله إليه وسائل الإعلام والدعاية للأفكار والأزياء والمواقف والشخصيات ونوع السلوك... إلخ. يتلقّى الأشياء من غير وعي، ولا تفهّم، وهذا الإنسان ضعيف الشخصية، لا يملك إرادته، ولا يُقرِّر موقفه، ومثل هذا الإنسان لا نسمِّيه مثقّفاً، وإن ادّعى أنّه إنسان مثقّف. إنّ كثيراً من الناس ينظر إلى شاشة التلفزيون، أو ما تنشره المجلّات والصّحف، أو أفلام السينما، أو يشاهد ما يفعله الآخرون، فيتأثّر بهم كالببغاء، في أزيائه وطعامه وسلوكه وتبعيّته للأشخاص والأفكار. إنّ المشكلة التي يواجهها كثير من الناس في عالمنا الإسلامي هي التقليد الثقافي للغرب. فالبعض يتناول الأفكار الغربية في مجال الأُسرة والحرِّية والجنس والمرأة والأزياء والمجتمع والعادات والتقاليد، يتناولها ويقتنع بها عن طريق التقليد للإنسان الغربي من غير أن يُناقشها، أو ينظر إلى سيِّئاتها التطبيقية في المجتمعين الأوروبي والأميركي وأمثالهما. ويتلقّى البعض من الناس بعض المفاهيم الخاطئة عن الدِّين، وهي تحمل التخلّف والخرافات والأساطير، ويظلّ هذا الانسان يؤمن بذلك الفهم الخاطئ ويُدافع عنه، ولا يعمل على التخلّص منه أو تغييره. إنّ الإنسان المثقّف يكوِّن قناعته ويختار موقفه من الأشياء والأشخاص والأفكار عن طريق الفهم والوعي والمعرفة الذاتية، وحتى ما يتلقّاه من الآخرين، فإنّه لا يتقبّله إلاّ بعد حصول الثقة بالّذين ينقلون إليه هذه المعلومات، وفهمه الواضح لهم. فاطمة الصادقة تحدثت ام المؤمنين عائشة زوج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن كثير من خصال الزهراء (عليها السلام)، ومناقبها، وعلاقتها برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكيف كان يحترمها ويرحب بها ويجلسها عن يمينه، وأنها كانت الأحب إلى قلبه (صلى الله عليه وآله وسلم)، مع زوجها أمير المؤمنين (عليه السلام)، وممّا نقل عن عائشة في هذا المجال حديثها عن صدق الزهراء (عليها السلام)، بل أصدقيتها، قالت: «ما رأيت أصدق منها إلا أباها». والزهراء (عليها السلام) اكتسبت هذه الصفة من أبيها، وارتفعت بها حتى كانت الأصدق بعد أبيها، كان أبوها الأصدق في الناس كلهم، وكانت الأصدق في الناس كلهم ما عداه (صلى الله عليه وآله وسلم)، لأن صدقها مستمد من صدقه، فهو الذي زرع الصدق في عقلها، ليكون فكرها فكر الصدق، وزرع الصدق في قلبها لتكون عاطفتها عاطفة الصدق، وزرع الصدق في حياتها لتكون حياتها صدقا كلها، صدقا مع نفسها وزوجها وأولادها وكل مجتمعها. لقد كانت الزهراء (عليها السلام) ولا تزال قدوة في الصدق، وتريد لنا أن نحوّل الحياة إلى صدق، وأن يكون كل واحد منا هو الأصدق مع نفسه والأصدق في قومه وعشيرته، لا أن نكون كما هي حال كثيرين من الذين يعيشون حياتهم كذبا مستمرا ومتواصلا، كذبا في الدين مع كل الدجّالين والمنحرفين، وكذبا في السياسة مع كل الخائنين والمستكبرين، وكذبا في الواقع الاجتماعي الذي يتحرك فيه الكذب من أجل منفعة هنا ومنفعة هناك. آفة الفساد الفساد آفة تهدم المجتمعات، تنخر بنيانها وتقوض أسسها. هو مرض عضال يفتك بالحياة الصالحة يفقدها المناعة ويعرضها إلى الأمراض والموت البطيء. والفساد بذلك هو عكس الإصلاح ونقيضه، فبالإصلاح تنمو الحياة وتتطور وتستمر، والإنسان بطبيعته مفطور على الإصلاح، فإن خرب شيء أصلحه، وإن كسر شيء جبره، وإن انهار شيء أقامه، وإن قطع شيء وصله، وكل حال تصرف الإنسان عن هذه الفطرة إنما هي استجابه لدعوات الشر وتغليبه على الخير المودع في قلب الإنسان، والفساد ليس من اختراع هذا العصر، فقد بدأ منذ توعد أبليس عباد الله بدفعهم إلى إشاعة الفساد في الأرض، وتزيين ذلك لهم على كل المستويات، مؤكداً أنه لن يألو جهداً في تأدية هذه المهمة «قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ» (الحجر/39). من نماذج المفسدين وأبليس ليس الفاسد الوحيد، فعلى امتداد التاريخ كان له جنوده وأعوانه، والتاريخ يورد لنا الكثير من هؤلاء الذين أفسدوا وعلوا وطغوا وصفق لهم أبليس طويلاً، وعلى رأس هؤلاء كان فرعون رمز الحكام الفاسدين «إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ» «(القصص/4). وقارون نموذج للفساد المالي «إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآَتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ» «(القصص/76). والفساد ليس حكراً على الأفراد، إنما يبدأ بهم ويتعداهم ليشمل المجتمع كله، أو شعوباً بحالها ومن المجتمعات التي فسدت وأفسدت وطغت: بنو إسرائيل، المجتمع القلق المشاغب بحق الأنبياء الذين كانوا إينما حلوا يتحول وجودهم إلى مشكلة للحياة، ومصدراً لتعكير صفوها. وقد أشار الله إلى ذلك «وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا» (الإسراء/4). وينقل لنا القرآن الكريم العديد من قصص المفسدين في الأرض، فيحدثنا، أيضاً، عن فساد قومي عاد وثمود وطغيانهما، وكذلك قوم صالح وقوم شعيب وقوم نوح. ولم يكتف القرآن الكريم بعرض نماذج المفسدين وتحديهم للرسل والرسالات كنماذج تاريخية، بل تناول موضوع الفساد من أكثر من زاوية، فتحدثت الآيات عن المفسد الفرد وعن المفسدين بالجملة، وعن أثر عمل المفسدين، ونهت عن سلوك هذا السبيل بالترغيب والنصح تارة «وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِين» (الأعراف/85) وبالترهيب والوعيد تارة أخرى، فالمفسدون تحت رقابة الله «فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ» (آل عمران/63) «وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ» (البقرة/205).