استطاع هذا الفيلم أن يحفر لنفسه موضعا بارزا في تاريخ السينما لست ناقدا سينمائيا؛ لكني أعرف جيّدا تلك الأفلام التي هزّتني أو أبكتني أو أضحكتني أو جعلتني أفكّر طويلا.. أعرفها وأحتفظ بها جميعا في الحافظة الزرقاء العتيقة التي تمزّقت أطرافها، وسوف أدعوك لتشاهدها معي لكنها أثمن من أن أقرضها! معظم هذه الأفلام قديم مجهول أو لا يُعرض الآن، لكنها تجارب ساحرة يكره المرء ألا يعرفها مَن يحب. استطاع هذا الفيلم الممتع أن يحفر لنفسه موضعا بارزا في تاريخ السينما العالمية، وبالتأكيد ليس هناك مهتمّ بأفلام الأكشن لا يعرفه. الحقيقة أن كلينت إستوود ممثّل متوسّط المستوى لا تميّزه سوى وسامته، لا تستطيع أن تتذكّر له أداء مبهرا يهزّك أو يبكيك في أي فيلم، لكنه كذلك ممثل شديد الذكاء عرف كيف يتحوّل إلى أيقونة سينمائية سواء كراعي البقر الأشقر الذي لا اسم له في سلسلة الدولارات الشهيرة، أو كرجل الشرطة القاسي الذي لا يتبع أي قانون في سلسلة "هاري القذر".. هذا بالطبع قبل أن يدور الزمن ويصير مخرجا ناجحا بدأ مشواره مع فيلم "اعزف ميستي من أجلي"؛ برغم هذا يصعب أن نتصوّر أن يكون هذا الفيلم من بطولة فرانك سيناترا أو جون واين كما كان في ذهن المنتجين أولا.. الحقيقة أن رفض هذين للدور كان في صالحنا نحن. عام 1971 قدّم لنا المخرج الشهير دون سيجل فيلم "هاري القذر"، عن سيناريو لهاري جوليان، وهو الفيلم الذي صار نوعا سينمائيا في حد ذاته، وصار من البلاغة أن تصف المخبر السينمائي بأنه "هاري القذر"؛ فأنت بهذا تصف نمطا كاملا من السلوك والأفعال. دون سيجل قدّم لنا قبل هذا أفلام: "الهروب من الكاتراز" وفيلم الرعب الأشهر "غزو خاطفي الأجساد"، وقد كان من شروط إيستوود الأساسية أن يخرج سيجل هذا الفيلم. يلعب كلينت إستوود دور المخبر (كالاهان) شرطي سان فرانسيسكو الذي يرى أن القانون قد يعطّل العدالة ولا يساعدها؛ يُؤمن بالعنف وأن المتهم مجرم حتى تثبت براءته، كما يؤمن أن اللصوص والقتلة لا حقوق لهم أصلا. الحقيقة أننا غارقون في هذا الجدل طيلة الوقت، وقد عرفنا بعد ثورة يناير أن السؤال مهم جدا: هل تطبيق القانون أهم أم تحقيق العدالة أهم؟ ولو حقّقنا العدالة من غير قانون فمن يضمن أن يستمرّ حظنا الحسن هذا؟ هذا نمط شاع بعد هذا في السينما العالمية جدا، ومن أشهر الأمثلة دور تشارلز برونسون الذي يحقّق العدالة بمسدسه في سلسلة "رغبة الموت"، وستالوني في "كوبرا"، وفي مصر سوف تجد رائحة هذه الشخصية في أفلام كثيرة جدا لفريد شوقي وعادل إمام. كان نجاح الفيلم ساحقا لذا جاءت بعده توابع عدة، ولعلك تعرف فيلم "قوة ماجنام". يمكنك سماع اللحن المميّز لفيلم "هاري القذر" والذي كتبه لالو شيفرن هنا إضغط لمشاهدة الفيديو: اشتهر كذلك بالعبارة التي يقولها كلينت إستوود "كلما سقط لص في الفخ.. يحاول اللص اختطاف مسدسه الساقط جواره"، لكن إستوود يقف له بالمرصاد حاملا مسدسه الماجنم المخيف.. ويقول له: - "أعرف أنك تسأل نفسك هل أطلقت أنا خمس أم ست طلقات.. دعني أصارحك بأنني نسيت العد أنا نفسي. هذا هو مسدس ماجنام 0.44 أقوى سلاح في العالم.. قبل أن تتحرّك يجب أن تسأل نفسك: هل أشعر أنني محظوظ؟ هل تشعر بذلك يا وغد؟". صراع الأعصاب هذا ينتهي دوما بأن ينهار اللص ويستسلم، لكن مجلة إمباير البريطانية أبدت ملاحظة عابرة حول هذا المشهد؛ وهي أنك لا تستطيع أن تطلق مسدس ماجنام 0.44 بيد واحدة أبدا.. إنه يهشّم يدك على الفور من قوة الارتداد. شاهد هذا الموقف الشهير هنا إضغط لمشاهدة الفيديو: يضع الفيلم منذ البداية قواعده.. هؤلاء القتلة الساديون الذين لا يحترمون الحياة البشرية لا يستحقّون أي شفقة. هناك قاتل يُدعَى "سكوربيو" (أندرو روبنسون) يتسلّى بقتل الناس ببندقية بتلسكوب، وهو يهدّد بأنه سوف يقتل زنجيا أو قسا كاثوليكيا في المرة القادمة ما لم تدفع له المدينة فدية. إضغط لمشاهدة الفيديو: سكوربيو يُذكّرك نوعا بأليكس السادي في فيلم "البرتقالة الميكانيكية".. كان بارعا جدا في هذا الفيلم لدرجة أنه ظلّ يتلقّى تهديدات بالقتل لفترة طيلة من الجمهور الكاره له الذي رأى الفيلم، واضطرّ لحذف اسمه من دليل الهاتف. يتمّ تكليف رجل الشرطة الذي يطلق عليه زملاؤه اسم "هاري القذر" بسبب عنفه الزائد.. شاهد مجموعة من "جرائم" هاري التي يقتل فيها المجرمين بلا رحمة. إضغط لمشاهدة الفيديو: ينضمّ له مساعد قليل الكفاءة اسمه جونزاليز.. ويوشكان على إيقاع سكوربيو عندما يراقبان الكنائس الكاثوليكية؛ لأنه هدّد بأن يستهدف قسا كاثوليكيا. يخطف سكوربيو فتاة مراهقة ويدفنها في تابوت له تهوية ونظام إضاءة، ويطلب فدية لها.. محاولة تسليم الفدية له محاولة مرهقة وعبثية لأنه يتلاعب برجلي الشرطة تماما، وفي النهاية وبرغم كل شيء يتسبّب في موتها. يضعك الفيلم في ورطة أخلاقية عندما تكتشف أن كالاهان يجب أن يترك سكوربيو يفر؛ السبب هو أنه اعتدى على حقوقه الدستورية عندما فتّش بيته بلا إذن نيابة.. هذا يعني أن القانون يطلق سراح سفاح مسعور، بينما لو تركوا لكالاهان العنان لنسفه نسفا وأراح المجتمع منه. الآن يتلقّى المجتمع عقابه العادل عندما يخطف سكوربيو حافلة مدرسة بمن فيها من أطفال، ويطلب فدية وإلا مات عشرات الأطفال ضحايا له. إضغط لمشاهدة الفيديو: هذه المرة يصمّم كالاهان على أن يعمل وحده وحسب فهمه الخاص للقانون؛ لن تدفع أي فدية.. سوف يطارد السفاح ويقتله.. هناك مشهد نفّذه بنفسه، يثب فيه على ظهر حافلة المدرسة أثناء اندفاعها تحت جسر. في النهاية يلقى السفاح نهايته.. هذا ما يحدث في مشهد دامٍ شهير، ومع الخطاب الذي يتكرّر في كل مرة "هل تشعر بأنك محظوظ؟".. وعندما يموت سكوربيو يلقي كالاهان بشارته في البحر؛ فهو يعرف ما سيحدث له عندما يعود لإدارة الشرطة.. هذا هو موضوع الأفلام التالية على كل حال. إضغط لمشاهدة الفيديو: الفيلم ممتع فعلا وإن شابه الكثير من العنف.. هذا فيلم مهم من أفلام الأكشن، وقد خرجت أفلام عديدة على منواله، لهذا استحقّ أن يُوضع في الحافظة الزرقاء.