بجدارة حصد الفيلم حشدا من الجوائز لست ناقدا سينمائيا؛ لكني أعرف جيّدا تلك الأفلام التي هزّتني أو أبكتني أو أضحكتني أو جعلتني أفكّر طويلا.. أعرفها وأحتفظ بها جميعا في الحافظة الزرقاء العتيقة التي تمزّقت أطرافها، وسوف أدعوك لتشاهدها معي لكنها أثمن من أن أقرضها! معظم هذه الأفلام قديم مجهول أو لا يُعرض الآن، لكنها تجارب ساحرة يكره المرء ألا يعرفها مَن يحب. الآن نعود إلى الأستاذ العظيم السير ديفيد لين الذي لم يقدّم سوى عدد محدود من الأفلام، لكن كل فيلم منها خالد في تاريخ السينما ويصلح للتدريس في معاهدها في العالم، كما أن لين نفسه واحد من أعمدة هوليوود السبعة الذين تسقط من دونهم، ويكفي أن نذكر بين أفلامه "أوقات عصيبة" و"ابنة رايان" و"ممر إلى الهند" و"لورانس العرب" و"د. زيفاجو"... يؤكد لين القاعدة القديمة التي لا تخيب: أفضل المخرجين على الإطلاق هم من بدأوا حياتهم بالمونتاج؛ المونتاج يتيح لك فهم الإيقاع، ويتيح لك رؤية أخطاء الآخرين في أفلامهم. في العام 1957 قدم ديفيد لين قطعة من السينما الخالصة، مما يمكن بدقة تسميته "من كلاسيكيات السينما"، ولسوف يرتبط اسم ديفيد لين باسم الفيلم للأبد، يعرف من شاهدوا الفيلم معنى كلامي، على كل حال هو يعرض في التلفزيون كثيرًا، ويمكنك مشاهدته كاملاً على يوتيوب هنا مثلاً: من الغريب أن لين كان في حالة إفلاس تامة، لدرجة أنه بمجرد توقيع العقد وأخذ الدفعة الأولى، ذهب لطبيب الأسنان وكان بحاجة ماسّة لزيارته! كان تقدير الجميع هو أن الفيلم سيروق للنقاد جدا، لكنه سوف يفشل جماهيريا مع جوّه المتجهم الحار، وطاقم التمثيل المكون من رجال فقط، وهو ما تبيّن خطؤه. لنفس السبب تم حشر دور أنثوي لا لزوم له وقصة حب مع ممرضة يمر بها أحد الأسرى الفارين.. سيناريو الفيلم الذي كتبه مايكل ويلسون عن كتاب للكاتب الفرنسي بيير بوليه، يحكي عن قصة حقيقية وقعت أيام حرب الملايو.. هذا فيلم ملوّث بالملاريا والدوسنتاريا والبعوض، فيلم عن أسرى الحرب البريطانيين الذين لاقوا الأمرّين في جزر الملايو، عندما وقعوا في أيدي اليابانيين.. لاحظ أن اليابانيين لم يكونوا يؤمنون باتفاقية جنيف، ويعتبرون أسرى الحرب أقلّ شأنًا من الرجال، لو كانوا رجالاً حقًا لفضّلوا الموت على المهانة. استمع إلى المارش المميز للفيلم الذي بدأ كتابته مؤلف بريطاني، واسم المارش "مارش كولونيل بوجي"، ثم استكمله مالكولم أرنولد، والذي يصوّر مسيرة الأسرى وسط الحر والمستنقعات والعرق، هذا لحن شهير جدًا وصار يستعمل في أي مارش في العالم، ينافسه في ذلك مارش عايدة الشهير: إضغط لمشاهدة الفيديو: يعرف المشاهد البريطاني أن الصفارة في بداية اللحن كانوا يغنون عليها: "هتلر له خصية واحدة"، لكن المنتج بالطبع لم يرد أن يضع كلمات كهذه.. ليس كل من تراهم في اللقطات كومبارس بريطانيين.. من أجل خفض النفقات استعان المنتج بمواطنين عاديين من سيلان وعمل لهم ماكياج يجعلهم مثل البريطانيين. في معسكر الأسرى الموجود في تايلاند، يكلف القائد الياباني كولونيل سايتو أسراه ببناء جسر يصل بين بورما وتايلاند بغرض وصول اليابانيين إلى بورما، وبالطبع يستغل الجنود كل فرصة ممكنة لتخريب ما يعملون، باعتبار هذه فرصة ممتازة للتهريج والوطنية معا.. يوشك القائد الياباني على الجنون.. إن فشله في بناء الجسر معناه -حسب العسكرية اليابانية- أن عليه الانتحار.. هنا يأتي الكولونيل البريطاني نيكولسون.. يقوم بالدور أليك جنيس.. الممثل البريطاني العظيم الذي يذكره الناس دومًا في هذا الدور.. الكولونيل يتحدى القائد الياباني ويصر على أن قوانين جنيف تعفي الضباط من العمل.. شاهد حرب الإرادة بين القائدين الكبيرين: إضغط لمشاهدة الفيديو: يهدده القائد بالموت ويمزّق اتفاقية جنيف في وجهه، يصل صراع الإرادتين للذروة عندما يسجنه القائد الياباني في قفص طيلة النهار القائظ والليل البارد كأنه دجاجة، مشهد مغادرة القائد البريطاني للقفص "المدعو بالفرن" مشهد رائع، ويقول أليك جنيس إنه أفضل أداء له في حياته المهنية. عندما يغادر القائد البريطاني السجن الانفرادي يدرك أن الوضع في منتهى السوء، وأن المهندسين اليابانيين أساءوا اختيار كل شيء. إضغط لمشاهدة الفيديو: ينظر للأمر نظرة مختلفة؛ هي أن الجسر يمثل كرامة العسكرية البريطانية، يجب أن يتم إنجازه بدقة وإتقان وبلا مزاح.. تتبدل نظرة الأسرى للكولونيل مع الوقت.. كانوا يعتبرونه بطلا لهم، ثم أدركوا أنه يحمل وسواسا قهريا.. فكرة الجسر مسيطرة عليه إلى درجة الجنون.. الآن يدرك الرجال أن قائدهم متعاون مع العدو إلى أقصى حد.. وكلامه عن العسكرية البريطانية التي يريد تخليدها ليس سوى كلام عن تخليد نفسه.. هذا نموذج للسيناريوهات التي تقلب الموقف وتطور الشخصيات بقوة.. ليس هناك أبطال للأبد.. ليس هناك أبيض ولا أسود، وإنما هناك لون رمادي كما في عالم الواقع. إضغط لمشاهدة الفيديو: وفي الوقت ذاته يرسل الحلفاء قوة كوماندوز لتدمير الجسر، معتمدين على معلومات أحد الأسرى الفارين "يلعب دوره ويليام هولدن". مشهد الذروة هو اقتراب قطار ياباني محمل بالعتاد والرجال كأول تجربة حقيقية للجسر، وهو نفس الوقت الذي يكتشف فيه نيكولسون معدات التفجير ويبلغ بها القائد الياباني.. لقد صار البريطاني والياباني في ذات الخندق.. إضغط لمشاهدة الفيديو: وبالفعل يموت عدد كبير من الكوماندوز منفذي الهجوم؛ يموت نيكولسون نفسه وهو يردد: ما هذا الذي فعلته؟ ثم يسقط فوق المفجر فينفجر الجسر بالقطار الذي كان فوقه.. لقد تذكر واجبه العسكري في اللحظة الأخيرة.. شاهد تريلر الفيلم هنا: إضغط لمشاهدة الفيديو: تم تصوير الفيلم في سيلان لأن الموقع الأصلي للقصة كان فقيرا لا يناسب السينما. ويمكن تخيل حجم الإنفاق على إنتاج كهذا مع بناء قرية أكواخ كاملة للعاملين في الفيلم. أضف لهذا ولع ديفيد لين باللقطات الطويلة جدًا وتصوير اللقطة عشرات المرات.. مع الحر والعرق والثعابين والملاريا. دعك من أزمة السويس التي جعلت نقل أي شيء عبر قناة السويس مستحيلاً. من النقاط الطريفة أن الجسر الذي أقيم في الفيلم كلف أضعاف الجسر الذي أقيم في الحقيقة "ربع مليون دولار وقتها". لقطات تدمير الجسر كلفت مبلغًا هائلاً من المال، ثم ضاعت اللقطات في ظروف غامضة.. لاحظ أننا كنا في وقت أزمة السويس وكانت الملاحة الجوية مضطربة.. بمعجزة وجدوا هذه اللقطات في علبة تحت الشمس الحارقة لمطار القاهرة، هكذا تعلم المنتج درسا قاسيا وحرص على أن ينقل الفيلم على خمس طائرات منفصلة. بجدارة حصد الفيلم حشدا من الجوائز نذكر أهمها: أوسكار أفضل فيلم.. أوسكار أفضل مخرج ديفيد لين.. أوسكار أفضل ممثل أليك جنيس.. أوسكار أفضل سيناريو مايكل ويلسون.. أفضل موسيقى تصويرية مالكولم أرنولد.. أوسكار أفضل سيناريو بيتر تايلور.. أوسكار أفضل تصوير جاك هلديارد. طبعا لن نذكر جوائز الكرة الذهبية وبافتا والمهرجانات. إضغط لمشاهدة الفيديو: