لم يكن اغتيال الشهيد جار الله عمر، الأمين العام المساعد للحزب الاشتراكي اليمني، في 28 ديسمبر 2002، حادثة عنف عابرة داخل قاعة مؤتمر حزبي، بل جريمة سياسية مكتملة الأركان، استهدفت أحد أبرز رموز العمل الوطني والحوار الديمقراطي في اليمن. قُتل الشهيد برصاصات مباشرة أثناء إلقائه كلمة في الجلسة الافتتاحية للمؤتمر العام الثالث للتجمع اليمني للإصلاح في صنعاء، في مشهد صادم، فاختيار المكان والتوقيت، وطبيعة الهدف، كلها مؤشرات تؤكد أن الجريمة لم تكن وليدة انفعال فردي، بل فعلاً مدروساً استهدف إسكات صوت سياسي عُرف بدوره في بناء جسور التواصل بين القوى المتباينة، وسعيه الدائم لترسيخ منطق الشراكة والتعدد، في مرحلة اتسمت باحتقان سياسي متصاعد، وتوازنات هشة، وصراع مكتوم حول شكل الدولة ومسارها.
ويستند هذا التقرير إلى دراسة بحثية توثيقية أعدّها الصحفي عبدالحكيم هلال، اعتمدت على تتبّع الوقائع الزمنية، وتحليل الخطاب الرسمي، ورصد المواقف السياسية والدبلوماسية المرتبطة باغتيال الشهيد جار الله عمر، وما أعقبه من تحوّل في إدارة ملف الإرهاب في اليمن وتوظيفه في الصراع السياسي الداخلي.
وقد مثّل اغتيال جار الله عمر ضربة لفكرة السياسة ذاتها، ومحاولة لفرض منطق الرصاص بديلاً عن منطق الكلمة والحوار. كما شكّل لحظة فاصلة دشّنت مساراً جديداً في الحياة العامة باليمن، جرى فيه توظيف ملف "الإرهاب" سياسياً، وتحويله من قضية أمنية إلى أداة صراع داخلي، استُخدمت لإعادة ترتيب المشهد بالقوة والاتهام.
ومنذ تلك اللحظة، دخلت البلاد مساراً مختلفاً، أصبحت فيه التهم الجاهزة والربط القسري والاتهام غير المكتمل أدوات موازية للقانون، ومقدمة لإغلاق المجال السياسي.
ما قبل الاغتيال قبل الوصول إلى لحظة الاغتيال، كانت الساحة السياسية اليمنية قد شهدت تحولات عميقة، أبرزها التحول الحاد في علاقة النظام الحاكم بالقوى السياسية، وفي مقدمتها التجمع اليمني للإصلاح. فالعلاقة التي بدأت شراكة عقب الوحدة، وتعززت خلال انتخابات 1993، ثم حرب صيف 1994، واستمرت في تحالف ثنائي حتى انتخابات 1997، انتهت عملياً بخروج الإصلاح إلى صفوف المعارضة، وبدء العمل المنظم مع بقية القوى السياسية لإعادة التوازن للحياة العامة.
ورغم هذا الخروج، ظل النظام محتاجاً للإصلاح في محطات حاسمة. فدعاه لدعم أول انتخابات رئاسية عام 1999، ثم سعى لاستمالته للمشاركة في انتخابات السلطة المحلية. وخلال المؤتمر العام الاستثنائي للإصلاح في 13 يناير 2001، حضر الرئيس علي عبدالله صالح بشكل مفاجئ، وألقى كلمة ودّية دعا فيها قيادات الحزب للمشاركة السياسية، مستشهداً بعبارة لقيادي إصلاحي قال فيها إن "الديمقراطية تجربة جيدة، وهي أفضل من العودة إلى العنف والسلاح".
كان صالح يسعى من خلال ذلك إلى إضفاء شرعية على استحقاق انتخابي مثير للجدل، تزامن مع تعديلات دستورية وسّعت صلاحيات الرئيس ومددت فترته. وشارك الإصلاح حرصاً على حماية المسار الديمقراطي، غير أن تلك المشاركة مثّلت عملياً نهاية مرحلة التوافق، وبداية مرحلة جديدة انتقل فيها، مع شركائه، إلى بناء الركيزة الثانية للحكم: المعارضة.
11 سبتمبر وتوسيع الصراع
جاءت أحداث 11 سبتمبر 2001 لتمنح هذا الصراع بعداً أخطر. فمع انطلاق "الحرب العالمية على الإرهاب"، وجدت السلطة اليمنية فرصة لإعادة التموضع خارجياً وداخلياً في آن واحد. خارجياً، عبر تقديم نفسها شريكاً أمنياً موثوقاً للولايات المتحدة، وداخلياً، باستخدام خطاب مكافحة الإرهاب لتضييق الخناق على المعارضة الوليدة، وتحويل أي مساءلة سياسية إلى شبهة أمنية.
في هذا السياق، تصاعد التعاون الأمني والعسكري مع واشنطن، تحت ضغط أمريكي متزايد، خصوصاً بعد تفجير المدمرة الأمريكية "يو إس إس كول" في عدن عام 2000، ثم تفجير ناقلة النفط الفرنسية "ليمبورغ" قبالة سواحل حضرموت في أكتوبر 2002.
وبلغ هذا التعاون ذروته في 3 نوفمبر 2002، عندما نُفذت أول عملية عسكرية أمريكية معلنة داخل الأراضي اليمنية، استهدفت القيادي في تنظيم القاعدة سالم سنان الحارثي (أبو علي الحارثي) بصاروخ أطلقته طائرة بدون طيار في صحراء مأرب، وأسفرت عن مقتله مع خمسة آخرين.
شكّلت العملية صدمة داخلية، ليس فقط لطبيعتها، بل لأنها كشفت عن مستوى غير مسبوق من التعاون العسكري السري، وصل إلى حد السماح لطيران أجنبي بتنفيذ عمليات قتل خارج إطار القضاء اليمني.
وقبيل الاغتيال، كانت العلاقة بين الحكومة والمعارضة قد دخلت مرحلة تصعيد حاد، إثر مطالبة أحزاب المعارضة، وعلى رأسها الإصلاح، بتشكيل لجنة برلمانية لتقصي الحقائق حول عملية مأرب، وما رافقها من تعاون عسكري غير معلن. وقوبل هذا الطلب برد فعل حكومي غاضب، تُرجم سريعاً إلى حملة إعلامية رسمية اتهمت المعارضة، والإصلاح تحديداً، ب"الوقوف مع الإرهابيين"، في محاولة مبكرة لنقل المعركة من مساءلة السلطة إلى التشكيك في خصومها.
الاغتيال يقلب المعادلة
وقبل أن يمثل رئيس الحكومة عبدالقادر باجمال أمام مجلس النواب لتقديم تقريره حول عملية مأرب، وقعت الجريمة التي غيّرت اتجاه النقاش بالكامل. ففي 28 ديسمبر 2002، وأثناء انعقاد المؤتمر العام الثالث للإصلاح، اغتيل الشهيد جار الله عمر داخل قاعة المؤتمر، عقب انتهائه من إلقاء كلمة الحزب الاشتراكي.
كان الحدث صادماً في رمزيته وتوقيته ومكانه؛ إذ لم يُستهدف معارض بارز فحسب، بل نُفذت الجريمة في فعالية سياسية علنية، وأمام قيادات حزبية وإعلام محلي ودولي، ما منحها أبعاداً سياسية تتجاوز حدود الفعل الجنائي.
وبعد يومين فقط، دخلت البلاد صدمة جديدة، مع وقوع جريمة إرهابية في محافظة إب في 30 ديسمبر، أسفرت عن مقتل ثلاثة أطباء أمريكيين يعملون في مستشفى مديرية جبلة. وبحسب ما أُعلن لاحقاً، اعترف منفذ الجريمة بوجود صلة بين العمليتين، وأقر بأن قاتل جار الله عمر هو من وجّهه وخطط معه لتنفيذ عملية جبلة.
واللافت أن الجريمة الثانية وقعت في اليوم نفسه الذي مثُل فيه رئيس الحكومة أمام مجلس النواب، وبدلاً من أن تنصرف الجلسة إلى مساءلة الحكومة بشأن السماح لطيران أجنبي بتنفيذ عمليات قتل خارج إطار القضاء اليمني، جاء التقرير ليُدرج جريمتي اغتيال جار الله عمر ومقتل الأطباء الأمريكيين في جبلة ضمن سياق واحد، قُدِّم باعتباره "موجة إرهابية" داخلية. مثّلت هذه المقاربة انعطافة سياسية حاسمة غيّرت اتجاه النقاش ومضمونه، وفتحت الباب واسعاً أمام تسييس ملف الإرهاب في اليمن.
في تلك اللحظة، لم تعد الحكومة في موقع الدفاع عن تعاونها الأمني مع الولاياتالمتحدة، بل انتقلت إلى موقع الهجوم، فيما وجدت المعارضة نفسها فجأة في موضع المتهم، بعد أن كانت تطالب بكشف الحقيقة ومساءلة السلطة. ولم يكن تقرير رئيس الحكومة موجهاً لتوضيح طبيعة الاتفاقات الأمنية أو الدفاع عن شرعية الإجراءات المتخذة، بقدر ما حمل تحولاً حاداً في اتجاهه، إذ جرى دمج الجريمتين في إطار واحد، وتقديمهما كجزء من "موجة إرهابية" داخلية، بما أفرغ النقاش من مضمونه الرقابي الأصلي.
وبهذا الطرح، لم تُغلق فقط نافذة مساءلة الحكومة، بل جرى عملياً تحييد مطلب تشكيل لجنة تقصي حقائق، وهو المطلب الذي كان جوهره الدفاع عن السيادة والدستور. كما أُعيد ترتيب أدوار الفاعلين السياسيين داخل البرلمان، بحيث انتقلت الحكومة من موقع المتهم إلى موقع القاضي، وأصبحت المعارضة مطالبة بتقديم "شهادات حسن سلوك" في ملف الإرهاب، بدلاً من ممارسة دورها الرقابي الطبيعي.
من الجريمة إلى "الفرصة السياسية"
لم يكن هذا التحول عفوياً. فقد أظهرت طريقة إدارة الحكومة للحدثين أن الجريمتين استُخدمتا كفرصة سياسية لإعادة الإمساك بزمام المبادرة. فبعد شهرين من الضغط البرلماني والإعلامي على الحكومة بسبب عملية مأرب، وجدت السلطة نفسها فجأة في موقع قوة، مستندة إلى موجة دولية جارفة عنوانها "الحرب على الإرهاب"، وإلى صدمة داخلية جعلت أي اعتراض يبدو وكأنه تبرير للعنف أو تشكيك في الإجماع الوطني.
وفي برقية إلى وزارة الخارجية الأمريكية بتاريخ 8 يناير 2003، كشفتها وثائق ويكيليكس لاحقاً، أقر السفير الأمريكي في صنعاء إدموند هول بأن الحكومة اليمنية استغلت ورقة "الإرهاب" لمصلحتها، مؤكداً أنها "انتهزت الفرصة التي أتاحتها الأحداث المأساوية الأخيرة لاغتنام زمام المبادرة في مكافحة الإرهاب ووصم الإرهابيين". وأشار السفير إلى التحولات الدراماتيكية التي طرأت على مواقف المعارضة، وحزب الإصلاح بشكل خاص، بفعل تلك الأحداث وطريقة إدارة الحكومة لها، قائلاً: "لقد أدى الحشد الحكومي المكثف لحملة مكافحة الإرهاب إلى وضع قوى المعارضة في موقف دفاعي، ولا سيما حزب الإصلاح، وأجبرها على الانضمام إلى عربة مكافحة الإرهاب، أو المخاطرة بأن تُوصَف بأنها تؤوي أنصار الإرهابيين".
وأكد السفير نجاح الحكومة في قلب الموازين لصالح التعاون مع بلاده، مضيفاً: "بعد شهرين من الهجمات على الحكومة اليمنية بسبب تعاونها مع الولاياتالمتحدة في حادثة 3 نوفمبر، تتدافع أحزاب المعارضة الآن لإيجاد طرق لإقناع اليمنيين والمجتمع الدولي بأوراق اعتمادها في مكافحة الإرهاب".
وهكذا، لم يعد مطلوباً من الحكومة الدفاع عن أفعالها أو تبرير تعاونها الأمني، بل أصبح المطلوب من المعارضة أن تلتحق بخطاب "مكافحة الإرهاب"، أو تُصنَّف خارج الإجماع الوطني.
وفي هذا السياق، استغل تقرير رئيس الحكومة المرفوع إلى مجلس النواب تلك الأحداث لاتهام حزب الإصلاح، عبر الربط بين منفذي الجريمتين وجامعة الإيمان، التي كان يرأسها الشيخ عبد المجيد الزنداني، رئيس مجلس شورى الإصلاح آنذاك. وكان الهدف واضحاً: وضع الحزب في الواجهة وتحميله المسؤولية السياسية، بما يؤدي إلى إخراس أكبر أحزاب المعارضة، ولا سيما في ما يتعلق بمطالبته بتشكيل لجنة لتقصي الحقائق في مقتل سالم الحارثي.
وهو ما أكده السفير الأمريكي صراحة في برقيته، حين قال إن حزب الإصلاح "وجد نفسه في موقف دفاعي بعد تصريحات الحكومة التي ربطت بين القاتلين في الهجوم الأخير والحزب وجامعة الإيمان بقيادة الزنداني"، رغم إشارته في الوقت ذاته إلى أن قيادات الإصلاح "نددوا علناً بالاعتداءات، وسعوا إلى النأي بأنفسهم عنها"، وأنهم "اتهموا الحكومة باستخدام تلك الهجمات لأغراض سياسية".
وأضاف السفير أن مواقف قيادات الإصلاح العليا كانت "أكثر اعتدالاً من المعتاد" فيما يخص التعاون في مكافحة الإرهاب، مشيراً إلى أن الشيخين عبد الله بن حسين الأحمر وعبد المجيد الزنداني أدانا الإرهاب صراحة في تصريحاتهم.
من خلال ما ورد في برقية السفير الأمريكي، بدا واضحاً أن السفارة الأمريكية كانت راضية عن المآلات التي انتهت إليها الأحداث، بما في ذلك إعلان الحكومة اليمنية تعاونها الرسمي مع واشنطن في "الحرب على الإرهاب"، وتراجع حدة اعتراض أكبر أحزاب المعارضة وقبولها بهذا التعاون دون تصعيد، كما حدث عقب مقتل أبو علي الحارثي.
غير أن ذلك تم، على الأرجح، مع إدراك واشنطن أن الحكومة اليمنية استغلت تلك الأحداث لتقويض مطالب المعارضة، والانقلاب على اتهاماتها في لحظة حرجة من بدايات التعاون الأمني بين الطرفين. وهو ما يطرح تساؤلاً جوهرياً: هل كانت الولاياتالمتحدة تدرك، في الوقت ذاته، أن هذا التلاعب السياسي بالأحداث من شأنه أن يعقّد حربها على "الإرهاب"، ويقوّض مصداقيتها على المدى الطويل؟
خصوصاً أن هذه الحملة انتهت، في المحصلة، إلى "اللا شيء" على المستوى القانوني بحق حزب الإصلاح، الذي تجاوز المحنة وثبتت براءته من أي صلة تنظيمية أو سياسية بتلك الجرائم.
ففي البداية، سارعت الحكومة وإعلامها إلى توجيه الاتهام إلى الإصلاح حتى قبل وصول المتهمين إلى الأجهزة الأمنية، غير أن مسار الأحداث لم يخدم السلطة بالكامل. إذ نجح الإصلاح، بمساندة أحزاب المعارضة التي أدركت مبكراً أن الاستهداف يطالها جميعاً، في إدارة الأزمة بكفاءة، واحتواء تداعياتها السياسية.
وبغضّ النظر عن الزخم الإعلامي والسياسي للحملة، كانت حصيلتها النهائية صفرية قانونياً بحق الإصلاح، إذ لم تُثبت أي علاقة تنظيمية أو سياسية بين الحزب وتلك الجرائم، ما أكد أن ما جرى لم يكن سوى محاولة توظيف سياسي لملف الإرهاب.
وكانت الخطوة المفصلية تمكّن الإصلاح من القبض على قاتل الشهيد جار الله عمر فور ارتكاب الجريمة، حيث نُقل إلى منزل الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر، وأُجري التحقيق الأولي بحضور قيادات من الحزب الاشتراكي وأحزاب معارضة أخرى، ووسائل إعلام محلية ودولية، وتم توثيق اعترافاته بالصوت والصورة وتسليمها للأجهزة الأمنية. وأسهم تسريب أجزاء من تلك الاعترافات في تقليص قدرة السلطة على التلاعب بمسار التحقيقات لاحقاً.
غير أن السلطة اختارت لاحقاً إغلاق الملف عبر محاكمات صورية ومغلقة، انتهت بإعدام القاتل علي السعواني، بما أدى إلى دفن تفاصيل القضية وخفاياها معه. وهو ما رفضته أحزاب اللقاء المشترك، ولا سيما الاشتراكي والإصلاح، التي طالبت بالسماح لمحاميها ومنظمات المجتمع المدني بحضور جلسات المحاكمة والاطلاع على ملف القضية، دون أن تلقى تلك المطالب أي استجابة.
دفع هذا المسار المعارضة إلى التحذير من التلاعب بالقضية، والمطالبة بكشف جميع الجهات الإرهابية والأمنية والاستخباراتية المرتبطة بالقاتل، والمتورطة في التخطيط أو التسهيل، وعدم الاكتفاء بإغلاق الملف عند حدود المنفذ المباشر.
والمفارقة أن السفارة الأمريكية نفسها، التي أبدت في البداية ارتياحاً لمآلات تلك الأحداث، عادت لاحقاً للتشكيك في دوافع الحكومة اليمنية وراء التكتم والإسراع في إغلاق القضية. ففي برقية سرية، وبعد أقل من عام على الجلسات المغلقة وإصدار حكم الإعدام، قال السفير الأمريكي في صنعاء إن "الدوافع وراء إبقاء التحقيق في أنشطة قاتل جار الله عمر، وإجراءات المحكمة في قضيته، طي الكتمان، ليست واضحة".
وأوضح السفير أن الرأي العام السائد يرى أن الحكومة "فضّلت التعامل مع القضية كجريمة جنائية، بدلاً من التحقيق فيها كاغتيال سياسي، أو الخوض علناً في الصلات المحتملة بين القاتل والجماعات الإرهابية"، مرجحاً أن السلطة "ربما سعت إلى كسب تأييد الولاياتالمتحدة عبر إدانة العقل المدبر المزعوم لجرائم جبلة، وإصدار الأحكام عليه بسرعة".
موقف الإصلاح وعقب انتهاء الدورة الأولى للمؤتمر العام الثالث للإصلاح، التي شهدت حادثة الاغتيال، عقدت الهيئة العليا للحزب اجتماعها الأول، وأصدرت بياناً نفت فيه بشكل قاطع "المزاعم والأكاذيب التي روّج لها الإعلام الرسمي حول انتماء الجاني إلى الإصلاح"، محذرة من "أساليب الدس والفتنة والمكايدة" في قضية تمس أمن الوطن واستقراره.
وطالبت الهيئة العليا السلطة بالعمل بشفافية كاملة لملاحقة جميع المتورطين، وإطلاع الرأي العام على مجريات التحقيق في قضيتي صنعاء (اغتيال جار الله عمر) وجبلة (اغتيال الأطباء الأمريكيين)، وعدم تحويل الجرائم الإرهابية إلى أدوات للمكايدات السياسية، "بما يقتل الحقيقة مرتين".
كما شكّلت الهيئة لجنة خاصة لمتابعة التحقيق، بالتنسيق مع الحزب الاشتراكي اليمني، لضمان كشف الدوافع والخلفيات، والوصول إلى حكم عادل. وظلت القضية حاضرة في خطاب الإصلاح، الذي جدّد باستمرار رفضه لتسييسها، ومطالبته بتمكين القضاء من كشف الحقيقة كاملة، باعتبارها قضية وطنية لا تخص حزباً بعينه.
وعقب تأييد حكم الإعدام من المحكمة العليا، عبّر الإصلاح عن خيبة أمله لعدم كشف الحقيقة كاملة، ودعا رئيس دائرته السياسية حينها، الأستاذ محمد قحطان، إلى "إعادة النظر في القضية"، مؤكداً أن "دماء الشهداء والمناضلين لا يمكن أن يطويها النسيان".
وفي قضية جبلة، اعتبر الإصلاح أن اغتيال ثلاثة أطباء أمريكيين "يستهدف الوطن بالدرجة الأولى، ويشوّه صورة اليمن والإسلام"، وطالب بتحقيق شفاف ومحاسبة الجناة، محذراً في الوقت ذاته من استغلال الإرهاب لأغراض سياسية.
كما عبّرت الهيئة العليا للحزب عن قلقها من "بروز حوادث إرهابية غريبة على المجتمع اليمني"، ومن إساءة المتطرفين لجوهر الإسلام الذي يحرّم سفك الدماء. .
ماذا بقي من القضية؟
مع إغلاق ملف اغتيال الشهيد جار الله عمر قضائياً، بدا وكأن السلطة اليمنية آنذاك نجحت في طي واحدة من أخطر القضايا السياسية في تاريخ البلاد الحديث. غير أن الإغلاق القانوني لم يُنهِ الأسئلة، ولم يُطفئ الشكوك، ولم يُقنع الرأي العام بأن الحقيقة كُشفت كاملة.
والأخطر أن هذه الخاتمة لم تكن نهاية قضية، بل بداية لمسار جديد في إدارة ملف "الإرهاب"، مسار يقوم على توظيف الأحداث الأمنية، وتحويل الخوف إلى أداة سياسية، وتغليب منطق الاتهام على منطق القانون.
لقد انتهت قضية اغتيال جار الله عمر رسمياً، لكنها لم تنتهِ وطنياً، انتهت في المحاكم، لكنها بقيت مفتوحة في الذاكرة العامة، شاهدة على لحظة جرى فيها اغتيال السياسة، قبل اغتيال الرجل.
واليوم، وبعد أكثر من عقدين، تعود الذكرى لا بوصفها استحضاراً لماضٍ بعيد، بل كمرآة لحاضر يتكرر فيه النمط ذاته: اغتيالات، تسييس، اتهامات جاهزة، وحقيقة مؤجلة.