المتتبع لندوة "الصيغ المتجددة في الفن الإسلامي المعاصر" التي أقيمت على هامش الدورة الخامسة عشرة من مهرجان الفنون الإسلامية، واحتضنها متحف الحضارة الإسلامية في الشارقة على مدار أيام 16 و17 و18 ديسمبر الجاري، يلاحظ أن معظم بحوثها نكبت عن الموضوع الذي يوحي به العنوان إلى البحث في الأسس الجمالية الفلسفية للفنون الإسلامية ومدى مرونة تلك الأسس وتأثيرها في أساليب الفنون الغربية الحديثة، مما يعكس انشغال الدارسين لهذه الفنون بالتأصيل والصياغة النظرية للأسس، فقد غابت التجارب المعاصرة للفن الإسلامي عن كل الأوراق تقريباً ما عدا ورقة عبد الرحمن السليمان (السعودية) التي ناقشت أعمال تبحث العلاقة بالمكان المقدس من خلال معرض مساجد تشد إليها الرحال ،2006 واكتفت بوصف أعمال المعرض كل على حدة، ولم تسع إلى تقديم خلاصة نظرية حول صيغ قد تجمع الفنانين المشاركين في ذلك المعرض . في مسألة البحث في الأسس الجمالية للفنون سعت ورقة الدكتور أحمد رجب صقر (مصر) بعنوان "الجمالية بين الروحي والمادي من خلال فنون الكتاب الإعلامي"، إلى استخلاص بعض تلك الأسس من خلال استعراض لمفهوم الجمال في النظرة الإسلامية وتمثلات ذلك المفهوم في أعمال الفنانين المسلمين قديما ومقارنة ذلك ببعض النظريات الفلسفية، حيث يرى صقر أن الإسلام احتفى بالجمال على نطاق واسع واعتبره قيمة عليا تعلو على الصفات المادية للأشياء، فهو ليس انعكاساً للطبيعة بل سموّ نحو الكمال العلوي وارتقاء إلى ما بعد ظواهر الأشياء، فلا يقف إحساس المسلم بالجمال عند حد موجودات هذا العالم الواقعي المحسوس وإنما يسمو ذوقه وعاطفته إلى عالم مقدس إلهي يشع نوراً وبهاءً وفيه تتمثل كل القيم الفاضلة، قيم الخير والحق والجمال وإزاء هذا الجمال الإلهي المنبثق عن الذات الإلهية يتلاشى كل جمال أرضي، حتى أن بعض الصوفية يرون أن الصور المحسوسة المشاهدة على الأرض إنما تفيض عن جمال الذات الإلهية فيستغرقون في تأملها لا إعجاباً بها بل لأنها تدل على جمال الحقيقة الإلهية وتشير إليها، وقد عبر الصوفية المسلمون عن هذه الأفكار وحفل تراثهم الفكري بصور من الحب الإلهي تدور أغلبها حول هذا الجمال المطلق الذي هو علة لكل حسن مفيد يتجلى في موجودات الطبيعة الظاهرة . وهذه النظرة كما يرى صقر تقترب إلى حد كبير من نظرة أفلاطون صاحب نظرية المثل في الفلسفة الذي يرى أن للجمال طبيعة علوية مفارقة، وأن الفن محاولة لتمثيل ذلك الجمال، وكلما كان الفن قادراً على السمو بالنفس البشرية إلى المطلق والروحي كلما كان جميلاً، كما أن لنظرة المسلمين إلى الجمال أطروحات نظرية حديثة لدى الفلاسفة المثاليين وخاصة الفيلسوف الإيطالي كروتشي الذي يقرر أن الجمال لا يوجد في المنظر الطبيعي، فالطبيعة تحوي جمالاً متناثراً وجمالها يعتمد اعتماداً كلياً على العين التي ترى وهي جميلة عندما يتأملها الفنان، فخيال الفنان هو الذي يخلع على الطبيعة جمالاً؛ ومعنى هذا أن كروتشة يعطي للجمال طبيعة روحية مفارقة للمادة، ونابعة من نفس الفنان، وهي التي تضفي قيمة الجمال على الشيء المرئي . وعن طريق تلك المقارنة يستنتج الدكتور أحمد رجب صقر أن الفلاسفة وصلوا إلى ما وصل إليه "الفنان المسلم بفطرته النقية وعقيدته السوية، فاختار عالم المعنى الأعمق عالم التجريد الرحب بإيمان وقناعة وبجذور متوارثة، واختار ذلك تأكيداً لأهمية الجمال الذي يعتبر شرطاً أساسياً من شروط الحياة عند المسلم، لأن الجمال بشكله المطلق صفة من صفات الله تعالى ولأن الجمال الأرضي متحقق في ما خلقه الله" . ورأى صقر أن لهذا التجريد قواعد عملية خاصة توصل إليها الفنان المسلم تحدث عنها الكسندر بابا ديولو حيث يحكم عمل الفنان المسلم تنظيم رياضي دقيق ومنطق تشكيلي داخلي ويكون لهذا العالم كل الأهمية على حساب محاكاة العالم المرئي الذي يبقى ثانوياً في الصورة، وهو ما يعني عند باباديولو أن الفنان المسلم قد اخترع جمالية الفن الحديث قبل ستة أو سبعة قرون . وخلص صقر إلى أن القيمة الجوهرية الكامنة في الفن الإسلامي هي إيقاعه وتجريده وما يصاحب ذلك من إحساس موسيقي رائع لا يجاريه فيه أي فن آخر، ومردّه إلى تصور المسلمين للعالم والإنسان والله . تلك القيم الجوهرية في الفن الإسلامي هي ما حاول الدكتور الحبيب بيده (تونس) الوصول إليه في روقته (أثر الفنون العربية الإسلامية فكرا وممارسة في حوار الفنّانين شرقا وغربا: في أجواء "مفهومهم لمحاكاة الطبيعة") وهي عبارة عن تصور لرحلة فكرية قادته إلى فلاسفة ومنظري الفن قديما وحديثا ليستكشف من خلال تراثهم روح الفن، وركز في رحلته على مقولات الصوفية التي تبين الجوهر الذي انبنى عليه الفن في الإسلام باعتباره معنى خفياً وليس شكلاً ظاهرياً، ففي مفاهيم الصوفية ومفكري الإسلام الفن صنعة تحاكي الخلق في حركته وانتظامه وانسجامه ولا تحاكي بالضرورة الطبيعة الظاهرية كما هو عند فلاسفة اليونان، (فالصناعة/الفنّ المتمثّلة في الإنسان الصانع قد حاكت الطبيعة القوّة في فعلها في إعطاء الموادّ صوراً بحسب قبولها وعلى قدر استعدادها، وهذا هو المفهوم الذي احتضن مختلف الأشكال الفنّيّة العربيّة الإسلاميّة، ومن بينها أشكال الخطّ والزخرفة والموسيقا وغيرها من الفنون) . يفسر بيده تلك المحاكاة بأنها ليست كما جاء في معجم "لالند" الفلسفي، مذهب يرى أن قوام الفنّ "محاكاة الطبيعة" أي إظهار الأشياء، كما هي من دون تفرقة بين جميل وقبيح، بل هي مفهوم "الفعل مثل الفعل" كما جاء في معجم "لسان العرب" لابن منظور، محاكاة الطبيعة من حيث هي فاعل لا مفعول به، ومحاكاة القوّة الخفيّة في إرادتها وقدرتها على إعطاء الهيولى (الصورة الذهنية للشيء) صوراً حتّى تصبح بالفعل هي هي . وهذا النوع من المحاكاة يرتكز على قواعد تجريدية تتمثل في كيفيات الانتظام والتناسق والتناسب والحركة في ارتباطها بقابليّة الموادّ التي تحتوي بدورها على طاقات بنيوية تجعلها مستجيبة للصور التي ستعطى لها، فالمحاكاة قد كانت إذن من ناحية المبدأ لا من ناحية العرض، من ناحية كيفيّة البناء لا من خلال نتيجته ومظهره الخارجي، وهنا يرتقي الفن إلى مستوى التجريد . وهذا المفهوم المجرد للفن حسب رأي الدكتور الحبيب بيده هو ما اهتدت إليه الحركة الفنية الجديدة في أوروبا في نهاية القرن التاسع عشر، فقد سعت تيارات التجريد إلى تمثل الأعمال الفنية الإسلامية والشرقية، عموماً في جوهرها وليس في ظواهرها، وذلك عن طريق قواعد الحركة والانتظام والتناسب كما فعل أوجين ديلاكروا الذي تأثر بوضوح بالفضاء التصويري للمنمنمات العربية الإسلامية، وكذلك فنّانو الأوب آرت الذين استلهموا أعمالهم من أشكال الزخرفة العربية الإسلامية ومفرداتها التشكيلية باحثين عن الحركة الذبذبية . لا يبتعد الدكتور عاصم فرمان (العراق) عن تلك المفاهيم التي توصل إليها زميلاه فهو في ورقته (تحولات الفنون الإسلامية في الزمان والمكان)، يرى أن التحولات في الفنون الإسلامية ترتبط بتحولات المجتمع حيث أعاد الإسلام صياغة المفاهيم وأقامها على أساس توحيدي يجعل الإنسان المسلم ينوي في كل ما يعمله أن يحقق جوهر العبادة وهو توحيد الله، ولذلك جاءت الأعمال الفنية متسامية عن المادي والكمي الظاهري مرتقية من الجزئي إلى الكلي، ويرى فرمان أن هذا التحول الذي صنعته الرؤية الإسلامية للفن قام على عنصر آخر هو الزمن، فرغم ارتباطه بمفهوم الإيمان الكلي الثابت إلا أن الصياغة لم تكن جامدة، بل ظلت تتحرك في الزمن، وتبحث عن نسق يحقق الغاية التي من أجلها نشأ . وخلص فرمان في معالجته إلى أن الفن الإسلامي ينبني على أسس فكرية جمالية واضحة هي: التوحيد والحركة والوحدة، فالتوحيد يجعل نظرة الفنان المسلم تسمو دائما إلى تحقيق القرب من الواحد الأحد، وتسعى العلو عن الموجودات، والوحدة يحققها التوازن والتجاذب والتناسب والانسجام في نظام الخلق الإلهي، وهذه الوحدة في ديناميكيتها العميقة تتجاوز المادي المحدود إلى ما هو ثابت في الفن، وهذا يجعل الأنظمة الشكلية في الأساليب الزخرفية الإسلامية وفن العمارة الإسلامي قادرة على الاستمرار والتجديد الدائم . ورقة محمد مهدي حميدة (مصر) توقفت عند نماذج من (تأثيرات الفن الإسلامي على ما يُنجز من فنون معاصرة سواء في الشرق أو الغرب) بحثاً عن صيغ متجددة لهذا الفن، وانتقى الباحث عملين أحدهما لوحة القهوة العربية للفنان هنري ماتيس، وهي من أهم اللوحات التي أسفرت عنها رحلته إلى المغرب، ويرى حميدة أن بناء هذه اللوحة استلهم منمنمات وتصاوير المدرسة العربية فاللوحة محاطة بإطار بسيط التكوين على غرار إطار حبات اللؤلؤ المعروف عند فناني المنمنمات، كما اللوحة تقدم المكان في هيئة تجريدية أو اصطلاحية مقتضبة من خلال باقة من العقود احتلت مساحتها في عمق اللوحة اعتماداً على جملة من خطوط غابت عنها التفاصيل وأوحت بروح المكان على نحو ما بدأت به المنمنمة الإسلامية في عدد كبير من مخطوطاتها الأولى، حيث كانت خطية النمط واصطلاحية لا تحفل كثيراً بالتفاصيل . العمل الثاني الذي توقف عنده حميدة هو مجموعة (ألحان منمنمة ولحظات كبرى) للفنانة الإيرانية سودي شريفي التي استعارت فيها الكثير من رسوم المنمنمات في هيئتها الأصلية، مع إضافة بعض شخوص فوتوغرافية معاصرة المظهر تتبدى خلال مسطح المنمنمة، بما تتضمنه من حدائق وشرفات إلى جانب الحجرات الداخلية وكافة جنبات وأرجاء العمائر ومسابح القصور والفضاءات وحتى الأماكن الخلوية، مؤلفة بذلك جملة من رسائل بصرية كاشفة لقضايا مجتمعية وسياسية . فهذان النموذجان يشيران إلى القدرات التأثيرية والإمكانات الفنية المتجددة للفنون الإسلامية تجعلها، قادرة على ترك بصمة في فنون العالم . مقابل تلك المحاولات الباحثة عن قواعد خفية تحكم الفنون الإسلامية، يتجه الدكتور محمد عبد الرحمن سبيب (السودان) في بحثه (خارطة الفكر الجمالي الإسلامي: مكامن الصراع وآفاق الحوار) التساؤل عن إمكانية القول بوجود فن إسلامي واحد، ويرى أن الفكر الجمالي الإسلامي شابته عدة ثغرات حدت من قدرته على استيعاب التنوع وتحرير الإبداع، وتتمثل تلك الثغرات في عدم وجود منظومة فكرية إسلامية واضحة، قصور الفقهاء عن إدراك الوظائف الإيجابية لكثير من الأشكال الفنية، قصور القاموس اللغوي العربي عن إنتاج مفاهيم جديدة للفنون الأمم الإسلامية، الاعتقاد بوجود ثوابت معيارية للفن الإسلامي، عدم الانتباه إلى الفجوة بين منظومة الثقافة العربية الإسلامية وبين الثقافات الكثيرة المنضوية تحت لواء الإسلام . وخلص سبيب إلى أنه ينبغي ردم تلك الثغرات بنظرة جديدة قادرة على التحاور مع مكونات الثقافة الإسلامية واستيعاب تنوعها من جهة ومع الفنون الغربية من جهة أخرى لكي يتسنى لنا فعلا أن نقدم نظرة شاملة لما نطلق عليه فنوناً إسلامية . في حديث الباحث عن الثغرات بعض الصحة، لكنها لا تنفي بالكلية وجود نسق عام للفنون الإسلامية يقوم على مجموعة من الأسس الجامعة وإن كان فيه تنوع هو الذي يجعله يتطور باستمرار .