المصريون القدامى خلدوا رموزهم وطغاتهم لكن حكمتهم لم تصل أحقادهم سماسرة الفوضى يسحقون تاريخ مصر وقيمها وحضارتها الصهاينة أغلقوا ملفات المجرم شارون بعد تعرضه لعجز صحي مبارك بنى مصر وضحايا الثورة لم يقدموا لها سوى الدمار منذ حرب اكتوبر 73م والرئيس محمد حسني مبارك يحتكر لقب البطل القومي الأول في مصر، التي حققت أهم وأعظم انتصار هللت به الأمة العربية كلها. ورغم أن مبارك حقق الكثير من الانتصارات السياسية والاقتصادية لمصر على مدار العقود المنصرمة إلا أن قيادته للضربة الجوية الأولى التي تلاها انتصار 73م تظل رقماً ورمزاً ومعنى يصعب تجاهله.. وأمامه تتضاءل 14 جائزة دولية و 36 وساماً وميدالية عالمية وثلاثة عشر وساماً عسكرياً ومدنياً وأربع شهادات دكتوراه فخرية نالها حسني مبارك خلال فترة حكمه مستمدة من أربعة استفتاءات شعبية وفوز صريح في انتخابات تنافسية واحدة لم تكتمل فترتها الدستورية، بل انتهت بتخلٍ فرضته فوضى عارمة لا زالت نيرانها تلاحقه بالمحاكمة وهو على سرير الموت. بين حرب أكتوبر 73م ومحاكمة أغسطس 2011م تقلب الذاكرة ذهولاً.. ويحتاج الصقيع كل ذرة كرامة في وجدان كل عربي حر، قرأ تاريخ هذه الأمة وأدرك ما بين سطوره وعاش عن قرب أو عبر الكلمات والصفحات والصور والسير مفردات وتفاصيل معارك وحروب ونكسات وانتصارات هذه الأمة وشعوبها. لا أظن عربياً حراً يجهل تفاصيل وأهمية الضربة الجوية الأولى التي استهدفت أهم النقاط الحيوية للعدو الصهيوني، وزلزلت قواه وتوازنه وفتحت أبواب النصر وبوابة العبور إلى سيناء في حرب اكتوبر 73م، التي استعاد فيها المصريون – ومعهم العرب- كرامتهم وكسروا حاجز الخوف والهزيمة التي خيمت على أجوائنا لسنوات. ولا أظن مصرياً شريفاً أو عربياً أصيلاً يجهل أن تلك الضربة الجوية التي كان قائدها محمد حسني مبارك كانت مبتدأ الفتح الذي حطم أسطورة "الجيش الذي لا يُهزم".. وأشرع بيرق انتصار سيظل مفخرة لكل مصري نقي ولكل عربي أبي ولكل مسلم يعرف حقيقة الصراع الأبدي والمعركة الحقيقية لهذه الأمة. ولا أظن مصرياً أو عربياً أو مسلماً لا يشعر بالغبن والمهانة والقهر والغصة وهو يرى خلف القضبان قائد الضربة الأولى التي قصمت ظهر العدو الصهيوني لأول مرة – وربما آخر مرة- في حرب أكتوبر 73م. سيقول البعض إن محاكمة الرئيس محمد حسني مبارك اليوم قضية أخرى لا علاقة لها بحرب اكتوبر ولا بالعدو الصهيوني ولا بالصراع "العربي- الصهيوني" ولا بشيء مما يمكن احتسابه نصراً تحقق للعرب أو لمصر على يد الرئيس حسني مبارك.. وسيقول هذا البعض أن المسألة تتصل بحقوق ودماء ومواطنين ووطن.. وسيقول التاريخ الوطن المصري حقق في عهد الرئيس مبارك وعلى يديه ما لم يحققه في أي عهد سبقه، سواء كان فيما يتعلق ببناء الدولة والجيش والمؤسسات أو فيما يتعلق بالانتصارات الوطنية والقومية أو فيما يتعلق بالنهضة التنموية الشاملة التي طالت الإنسان والموارد والأدوات. نعم كان للرئيس محمد حسني مبارك أخطاء وهفوات وسقطات كما هو حال البشر وكما هو حال أي رئيس أو زعيم أو ملك في أصقاع الدنيا وعلى مر التاريخ، لكن محمد حسني مبارك تسلم قيادة بلد مضطرب يقع في خط المواجهة مع العدو الأول للأمة، حين كانت مصر للتو خارجة من معركة احتشدت لها قوى العالم الكبرى.. فواجه المعركة وامتص السخط العالمي وكسر حاجز الحقد على بلاده، وواجه العدو الداخلي المتمثل بقوى التطرف والإرهاب، وأخمد ألسنة فتنة طائفية، وحشد كل الطاقات للبناء والتنمية وتحسين الموارد على شحتها، واستطاع أن يغير مسار الدبلوماسية المصرية من موقع الدفاع إلى موقع التفاوض والأخذ والرد والكسب وحشد التمويلات والدعومات والاستثمارات، التي أنعشت اقتصاد مصر ووفرت الإمكانات وفرص العمل والتمويلات لمواجهة مجاعة حقيقية كانت المصير المحتوم لبلد يعاني شحة موارد وانفجار سكاني وحصار اقليمي وسخط دولي ومعركة مفتوحة مع أعداء معلومين ومجهولين في الداخل والخارج.. ونعم اقترف حسني مبارك أخطاء ألقت بظلالها على الأمة العربية بكاملها وعلى القضية الفلسطينية تحديدا، لكن مبارك لم يكن أمامه من خيار سوى العمل من أجل مصر والمصريين، حتى وإن تنازل أو تجاوز عن بعض حقوق أشقائه العرب الذين فرطوا في حقوقهم أكثر مما فرط فيها مبارك وقبله أيضا.. ربما أثرى مبارك وأهله وأسرته ومقربوه أثناء حكمه مصر، لكن المصريين قبل غيرهم يعلمون أن جل ثروات مصر وإمكاناتها والأموال التي سخرت لبنائها وتنميتها لم تأت دون جهود جبارة ومضنية كان لمبارك فيها النصيب الأوفر من التعب والأرق والسهر والتضحيات والتنازلات والسياسات التي أخطأ فيها وأصاب، لكن معظم أخطائه لم تكن في حق مصر والمصريين، بل لصالح مصر وأهلها وغالباً حتى وإن كان ذلك على حساب الغير.. سيقول المستميتون في سبيل محاكمة مبارك أن عشرات وربما مئات من أعوانه أفسدوا أو أثروا وسرقوا وظلموا وسحلوا.. وقد نتفق معهم في بعض أو حتى كل ما يقولون، ونضيف إليه أن مثل هؤلاء الأعوان موجودون إلى جوار كل زعيم ورئيس وملك وخليفة، وأن مسؤولية مواجهتهم لا يتحملها الحاكم وحده بل تشارك فيها الشعوب أيضا، وفي صدارتها النخب السياسية والفكرية والاجتماعية والدينية التي تجعل من أعوان وبطانات الحكام رهباناً وسدنة.. وتمنحهم قداسة الأولياء وتتمسح بصنميتهم ليقربوها من الحكام زلفى. وسيقول الفرحون بمحاكمة مبارك أن نجليه وثلة من كبار أركان حكمه يقبعون معه خلف القضبان وسيحاكمون ويقتص منهم لمصر والمصريين، بل إن العشرات والمئات وربما الآلاف ممن كانوا أسساً للفساد والظلم والنهب والقرارات الخاطئة والسياسات الخاطئة لم يدخلوا القفص ولم تطالهم حتى شعارات الثورة وشتماتها وإساءاتها، وربما كانوا من صناع تلك الشعارات والشتائم والسيناريوهات التي لم تسقط نظام مبارك، بل أسقطت مصر في مستنقع الفوضى والفساد والخوف والفقر والغوغائية وبمشاركة ذات الأيدي التي عبثت بنظام مبارك من داخله.. ويشارك اليوم في العبث بمصر وكرامتها من بين الصفوف الانتقامية الثورية التي خلطت الحق بالباطل وأزهقت المشروع بالممنوع، وخلطت كل الأوراق.. سيقولون أن ثمة قتلى وجرحى وضحايا ومنكوبين ومعذبين لا بد من الاقتصاص لدمائهم وجراحاتهم وآلامهم.. قل اسألوا عمن دفعهم وغرر بهم وكذب عليهم بأن تضحياتهم ستخلص مصر من علاتها!!.. ثم اسألوا عما قدم هؤلاء وأولئك لمصر والمصريين ثم اسألوا كل عاقل: كم تحتاج مصر لتستعيد عافيتها واستقرارها ودولتها ومكانتها واقتصادها وسمعتها بعد الدمار الذي طالها والفوضى التي عمتها والغوغائية التي استبدت بها..؟!! وكم يحتاج المصريون ليعتذروا لتاريخهم ولقيم آبائهم وأجدادهم الذين احتفوا برموزهم وقادتهم وصناع أمجاد مصر بمن فيهم أشدهم طغيانا وجبروتا وظلما لكن المصريين القدامى لم ينكلوا برمز أو حاكم ظالم أو يهينوه كما يفعل أحفادهم اليوم، بل خلدوهم وخلدوا بهم تاريخاً وحضارة وانتصارات وحكمة، أدهشت العالم وفاتت على "هييز" التحرير وثوار الأندومي وما خلفته مقاهي الفيسبوك وشبكات الفوضى الهدامة.. كم نحتاج من الوقت والجهد والعقل والتفكير والتوبة والندم والدموع لنتطهر من وحشية تسحق آدميتنا ونحن نرى بطلاً قومياً لم تشفع له انتصاراته لوطنه وشعبه على مدار عقود من الزمن أمام لحظة ضعف وقع فيها، وقد يكون طريقه إلى الموت الذي ينتظره هو مستسلما وربما يتمناه لنفسه كما يتمناه له كل ذي كرامة وحمية وآدمية.. لينقذه من مهانة الجرجرة إلى المحاكم وهو على سرير المرض بين يدي أناس هانوا وهانت عليهم نفوسهم وقيمهم، قبل أن يهينوا تاريخهم وشعبهم وكل ما له صلة بقيم الإنسان والحضارة. وقد يكون من المستفز نجد أنفسنا مجبولين على الحفاوة بما يتفوق به غيرنا أو حتى أعداؤنا علينا، لكن الحكمة ضالة المؤمن، أنى وجدها فهو أحق بها"، ومن الحكمة والعبرة إشارة إلى جهود إنسانية بذلها الصهاينة وأعوانهم في كل مكان لإغلاق كل ملفات السفاح "اريل شارون" الطافحة بجرائم الحرب والقتل والإبادة والفساد بعد أن تعرض لأزمات صحية أقعدته السرير وعربة المعاقين، وتلك واحدة من القيم التي يتمثلها الآخرون مع قادتهم ورموزهم وأبطالهم حتى وإن كانوا مجرمين!!.. وكلا.. لست هنا للدفاع عن أخطاء وحتى جرائم حسني مبارك- إن كان قد اقترف ما يرقى إلى مستوى الجرائم لكنني استنكر جرماً حل بمصر، وأحذر من جرم أشد وأنكى وأخطر قد يحل بالمصريين والعرب، وأذكر من نسي أو تناسى ما حل بالعراق والأمة العربية بعد تلك الجريمة التي نفذها أعداء العراق والأمة العربية في حق الشهيد صدام حسين، وما تلاها وترتب عليها رغم ما ساقه وسوقه المجرمون من مبررات.. فهل ثمة من يدكر ما تيسر من عبر التاريخ ومآسيه..؟!!.