السياسة ليست كالاقتصاد ، ففي حين ينفتح عالم السياسة على مساحة من التعدد والجدل والفرضيات ،يحتكم الاقتصاد إلى الرقم الصارم والحقيقة القاطعة ، فهو عالم ، مهاب الجناب ، ولامجال فيه للمناكفات الإعلامية والسياسية . في اليمن ، وعلى مدى أربعة عقود من الزمن تم تسخير الاقتصاد لخدمة السياسة ونجم عن هذا سلسلة من الكوارث والأزمات التي مازالت اليمن تتجرع علقمها المرير ، كما أنتجت هذه السياسة الاقتصادية الخاطئة واحدة من أعتى إمبراطوريات الفساد والاحتكار في سوق المشتقات النفطية والتجارة السوداء . فما إن أشار دولة رئيس الوزراء د. معين عبد الملك إلى نية حكومته معالجة الكارثة الاقتصادية من جذورها ، استشعر هوامير النفط المخضرمين الخطر ، فهم يدركون أنهم الجذر الأكبر للكارثة وأن معين لا يمزح وإن قال فعل . لقد اقترب رئيس الوزراء الشاب من أسوار القلعة العتيدة ، واضعاً قدميه على سواء الجمر ، ومتجاوزاً منتصف المساحة المحظورة والتحذير العريض بالابتعاد عن خطر الانفجار مائة قدم وتلك سابقة تاريخية وخطوة شجاعة ، لم يفترعها أحد من قبله . أمَا وهو يتحدث عن قرار حكومته تحرير استيراد المشتقات النفطية من قبضة المحتكرين الذين أذاقوا اليمن الويلات تلو الويلات من وبال الفقر والجوع ، فقد طرق الدكتور معين بوابة القلعة بقوة يد من حديد ، ولأول مرة في تاريخ الباب والقلعة ، ولذاك فزت الهوامير من مضاجعها الآمنة وتدحرجت البراميل الفارغة من جوقة السوق وكتبة الدفع المقدم على مساحات الضجيج الإعلامي وطنين الذباب الالكتروني المشاع في كل سقط متاع . وقضية تحرير استيراد المشتقات النفطية، وحدهم خبراء الاقتصاد من يملكون الفصل في أمرها ،وماإذا كان التحرير سيعود بالنفع على المواطن والاقتصاد الوطني أم لا ، وقد قال الخبراء كلمة الفصل في هذا الصدد ، بوضوح لا يعلوه غبار . وكون قرارا كهذا يحدث على ضفة الأداء الحكومي للسلطة الشرعية في ظل علم الجميع باحتكار مليشيا الحوثي في مناطق سيطرتها لتجارة النفط وازدهار سوقه السوداء وشركاته الوهمية والمعلومة ، فالقرار بحد ذاته وبغض النظر عن منافعه الاقتصادية وظلاله البيضاء على طريق ترسيخ الدولة هو خطوة مهمة وجريئة لابد أن تجترحها الشرعية في إطار صناعة النقيض وإبداع المختلف ، وهو ما تحتاجه الدولة لتبيين الفروق الجوهرية بينها وبين المليشيا. ثم إن قرار تحرير المشتقات النفطية إلى جانب كسره الاحتكار التجاري الذي تتشابك فيه أيادي مافيا عتيقة ومعقدة ، فهو يكسر عدة تابوهات مغلفة بالقداسة والأحقية الحصرية و ظلت بمنأى عن المساءلة والرقابة كم مارست فساداً أفضى باليمن السعيد إلى البلد الأفقر والأسوأ في المؤشرات الاقتصادية العالمية . أول هذه التابوهات عصابة التسعة رهط الذين أكثروا في الأرض الفساد وتاجروا بمعانات الناس وانتفخت كروشهم ببركات الذهب الأسود وتضرجمت خدودهم ورداً وعسلاً في بلد يعيش أكثر من ثلثي سكانه هزالاً وتقزماً على حافة المجاعة ويعاني نصف سكانه من سوء التغذية ولايدرون من أين يتدبرون الوجبة القادمة . بقي القول إن القرار الحكومي الجرئ سيحرر الدولة من قبضة ثلة طالما عملت على خصخصة الصالح العام لصالحها الشخصي ، كما ستكون له آثاره الإيجابية في مناطق سيطرة الحوثيين حيث ترتبط مافيا النفط هناك بشكل كلي ومباشر مع مافيا النفط في مناطق الشرعية ، إلى جانب هدمه إرثاً راسخا ً من الفساد المريح ، الضارب بجذوره في عمق الزمن وأغوار الدولة العميقة ومفاصل الحياة . أما ما أحدثته البراميل الفارغة المتدحرجة من ضجيج اعلامي فذلك هو الخلفية الصوتية المناسبة ، ليؤدي الطائر المذبوح رقصته الأخيرة على إيقاعها المتوالي والرتيب .