لعزيز نيسين -الكاتب التركي الشهير الذي اشتق اسمه من النسيان، فخلدته كتاباته- مقالة رائعة بعنوان: "كيف تكتب مقالة صحفية"، يعرض فيها الى المحددات والأوهام والألغام التي تعترض الكاتب حين يكتب مقالته. يتحدث نيسين الذي عاش في حقبتي الحكم العسكري والديمقراطي العسكري عمن يسميهم الشرطة السرية الذين لا نعرفهم؛ لأنهم يعيشون معنا في المنازل: الزوجة والأولاد وبعض من نحب من الجيران، الزوجة تتدخل في مضمون المقالة خوفاً على زوجها الكاتب، تقترح عليه أن يحذف هذه العبارة أو تلك، لأنها قد تجلب له ولها وللأولاد مشكلات هم في غنى عنها، البنت تقول للأب: هل عدت إلى كتابة العبارات القاسية، أحذف هذه العبارة أو تلك، ولدى الكاتب جار هو محامٍ يحمل في جيبه دائماً قانون العقوبات والمنشورات ويقيس كل عبارة على ضوء المادة القانونية، فهذه قد تؤدي بك إلى السجن مدة عام كامل، والأخرى أكثر من ذلك بكثير، وفي النهاية يستجيب الكاتب ويحذف تقريباً كل ما له معنى فيما كتب، حتى تصبح المقالة كناية عن عصفور منتوش الريش.. يرتعش برداً. هذه المقاربة تصح حقاً على كتابة المقالات، فمهما قال الكاتب لنفسه أريد أن أبتعد عن هذا أو ذاك، في ممارسة لأسوأ رقابة داخلية، إلا انه يصطدم حين النشر، بأن ثمة من يفهم هذا الأمر على اعتبار إنه ذاك، او إن هذه الجملة لو أتت في ظرف مختلف لفهمت بطريقة أفضل، وكأن الكاتب متنبئ سياسي. "وهات حلها". لم يعد ثمة رقابة مسبقة على الصحافة، بمعنى أن يأتي رقيب من دائرة رسمية لمراقبة كل ما تكتبه الصحيفة او تنشره المواقع الالكترونية، بيد أن الرقيب الداخلي أقسى.. ومع هذا، مهما أبدع هذا الرقيب في عمله، ونجح في القفز فوق حقول الألغام او تجاوزها.. يبقى أسيرا لفكرة أن لغماً قد ينفجر في لحظة ما.. لم يكن بالحسبان. لكن ما فات نيسين، أن الخشية لا تأتي من مواد قانون المطبوعات فحسب، ولا في المواد القانونية التي تندرج تحت بند قانون العقوبات وقد ترسل الكاتب الى بيت "خالته"، بل إنها تكمن أحيانا في مواقف أناس قريبين من الكاتب، من ضمنهم شريكة حياته، والبقال، والصيدلي ومديرة المدرسة حتى خالته، التي قد تعترض على وصف بيتها بالسجن، وحين تريد أن توضح لها أن التعبير كناية عن الحكومة، تقع في مطب أكبر.. فمتى كانت الحكومات خالات؟ "وليش مش عمات مثلا!.. وهات اشرح يللي بتشرح". نعم عليك حين تكتب المقالة أن تنتبه الى ردة فعل فلان، وتوقعات علان، وتحليلات نعمان، وتوجسات عدنان، وفهم فهمان، وبلغة لا تحتمل أكثر من تفسير، ومقصوصة من الآخر.. ومحلوق لها ع الشفرة. حنانيكم قليلاً، فالمقالات منتوشة الريش.. لا يمكن ان تحلق أو تبيض!