يجادل عالم الاجتماع العربي المعروف سعدالدين إبراهيم، بأنّ الإخوان أسرفوا خلال الثمانية عقود الماضية في تقديم وعود الحلول والخلاص للشعوب العربية، ووعدوها بفردوس لن تراه. وتقلّصت وعود الإخوان الأيديولوجية إلى خمسة أهداف قدّمها الرئيس الإخواني محمد مرسي، لتحقيقها في رئاسته، وتتمثّل في حل مشكلات المرور والقمامة والخبز والغاز والأمن. وهي مشكلات يومية واقعية يعاني منها سكان المدن الكبرى في مصر. بالرغم من اختلافه مع الإخوان، والأسلوب التهكمي في المقال، فإنّ إبراهيم يعترف بأنّ الإخوان يتجهون نحو الواقعية السياسية. وهي ملاحظة دقيقة وصحيحة. وربما أكثر من ذلك أن هذه الأولويات والالتزامات تشق الطريق نحو أيديولوجيا جديدة للجماعة، تمثّل طوراً جديداً من أطوار الفكر السياسي الإسلامي. إذا نظرنا خلال السنوات القليلة الماضية فقط، بل وحتى الفترة المحدودة التي وصل فيها الإسلاميون اليوم إلى السلطة (في حقبة الربيع العربي)، سواء في مصر أو تونس أو المغرب، فسنجد أنّنا عملياً أمام تطور نوعي بالالتزام بالعملية الديمقراطية واللعبة السياسية، وبتداول السلطة والتعددية السياسية؛ وهو ما يعني –ضمنياً- التخلي عن الشعار الإسلامي المعروف والمرفوع خلال العقود الماضية "الدولة الإسلامية". وحتى بالنظر إلى مشاريع الإخوان السياسية والاقتصادية، نجد تراجعاً وتقييداً كبيراً لموضوعة "تطبيق الشريعة الإسلامية"، بعيداً عن الحلم الأيديولوجي الذي استغرق الإخوان في العقود الماضية؛ من إعادة الخلافة الراشدة وإقامة حكومة إسلامية تحكم بالإسلام، وتخليّاً تامّاً عن فكرة التغيير الجذري، أو ما سمّاه فتحي يكن "الفكرة الانقلابية" في مشروع الجماعة. ربما تكون هذه التحولات الضخمة المكثّفة زمنياً وفكرياً هي التي دفعت بالتيارات الإسلامية الأخرى، مثل جماعات سلفية وجهادية، إلى محاولة "ملء فراغ اليمين" في المشهد السياسي العربي، والدخول في صدام أو سجال مع الإخوان أنفسهم، بسبب ما اعتبرته هذه الجماعات "تنازلاً" عن جوهر المشروع الإسلامي. خصوم الإخوان من علمانيين ويساريين، ينتقدون الإخوان أيضاً في مواقفهم الخارجية، ويرون في دور الوسيط الذي قامت به مصر، والتزامهم بمعاهدة السلام، وتسمية سفير في إسرائيل، مماثلا لما كان عليه دور مصر في عهد حسني مبارك. يتهمونهم (كذلك) بأنّهم يسيرون اقتصادياً على خطى النظام السابق، وأنّهم لم يغيّروا شيئاً من البرنامج الليبرالي، بل ستوقع الحكومة المصرية خلال الأيام المقبلة اتفاقاً مع صندوق النقد الدولي للحصول على قرض، ما سيرفع أسعار السلع. هذه الانتقادات وإن كانت صحيحة في شكلها الخارجي، إلاّ أنّها في جوهرها قد تحمل بذرة تطورات مهمة ونوعية في خطاب الجماعة، ما ينقلها وينقل الدول والحكومات العربية نقلات نوعية؛ فالأيديولوجيا الإخوانية الجديدة تأخذ الآن بعداً واقعياً. وربما هذا يساعد على حل إشكاليات فكرية عميقة وعالقة حول علاقة الدين بالدولة. رهان الإخوان اليوم يتمركز حول المواطنين، من خلال الحكم النظيف وحل المشكلات اليومية والنهوض بالواقع الاقتصادي والتنمية والالتزام بالديمقراطية والتعددية، وكذلك دور أفضل في السياسة الخارجية يأخذ منحى مستقلاً لا تابعاً للسياسات الغربية. هذه الأهداف والتحديات إن لم تبد كبيرة في عناوينها، كما كانت عليه الأفكار السابقة، إلاّ أنّ نجاح الإخوان فيها سيكون مرحلة تاريخية فاصلة، وسيشكّل الفرق الحقيقي بينهم وبين الحكومات السابقة التي أغرقت البلاد في حكم استبدادي فاسد داخلياً، وخانع تابع خارجياً! [email protected]