عندما يتمكن الفساد من مفاصل المجتمع ويتحكم بمؤسسات الدولة ومقدارات الوطن، فانه يكون هنا قد اصبح فسادا متجذرا يمتلك ارضا صلبة يقف عليها ويتسلح بانياب ومخالب لا يتوانى عن استخدامها للدفاع عن نفسه، ووجود الفساد بهذه القوة والعمق يشير بوضوح الى انه اصبح فسادا مؤسسيا وله صيغة تراتبية وانظمة هيكيلية تتضمن زعماء يتربعون على قمة هرمه ويليهم فئات عليا ثم فئات متوسطة وهكذا الى ان نصل الى رتبة فاسد صغير. ومع هذا الاستشراء المحموم لغول الفساد النهم وما نجم عنه من احوال اجتماعية واقتصادية ذات اثار كارثية على حياة المواطن، فقد وصل الضيق الشعبي الى مرحلة دفعته الى ان يستشعر مسؤوليته في ضرورة التصدي لهذا الغول الجشع وعدم انتظار مؤسسات الدولة الرسمية حتى تقوم بمهمة التطهر الذاتي وذلك لعدم امتلاكها لادوات التطهر من جهة ولتغلغل الفساد في مفاصلها الاساسية وتحكمه بها من جهة اخرى. هذا الواقع ادى الى استشعار مؤسسة الفساد للخطر وبالتالي العمل على مواجهة هذا الغضب الشعبي، فمن الطبيعي ان لا تقف مؤسسة الفساد مكتوفة الايدي، ومن الطبيعي ان تتصدى باستماتة للدفاع عن مصالحها وحماية رؤوس اعضائها من اي خطر محدق، ويظهر هذا من خلال النظر الى الاستراتيجيات والاليات والتكنيكات التي استخدمتها مؤسسة الفساد وبدأت تتبلور بشكل اكثر وضوحا مع تطور مراحل المعركة، حيث يمكن ملاحظة اسلوب الفساد في ادارة معركة الدفاع عن النفس من خلال ما يلي: (1) تعزيز مواقع الفاسدين القيادية في المجتمع وذلك من خلال حصولهم على اكبر قدر ممكن من الوزراء والمسؤولين ومقاعد النواب، حيث ستمكنهم هذه المواقع من ادارة افضل للمعركة وتساعدهم في حماية مؤسسة الفساد، ولعل دخول بعض الاسماء لسباق المجلس النيابي القادم ياتي في اطار هذا الجهد المحموم للبقاء في دائرة اتخاذ القرار ومناطق النفوذ للحصول على مواقع استراتيجية افضل لادارة المعركة. (2) استخدام الاعلام الفاسد لتضليل الراي العام وخلط الاوراق وذر الرماد في العيون، وذلك من خلال تضخيم بعض القضايا الصغيرة التي تفوح منها رائحة الفساد وتركيز الانظار حولها بما يكفل صرف الانتباه عما هو اكبر خطرا واعظم شأنا. (3) ولان المعركة لا بد ان يقع فيها ضحايا فان مؤسسة الفساد تلجأ الى تقديم الضحايا بطريقة انتقائية، وذلك حسب مقتضيات الحالة ومتطلبات المرحلة، وتتم هذه العملية الانتقائية وفقا لمراكز القوى ومتغيراتها وما تفرزه تبدلاتها من حلقات ضعيفة او اصبحت ضعيفة بحكم انتهاء الادوار التي اتت لتنفيذها في مرحلة زمنية ما. (4) المشاركة الظاهرية في جهود محاربة الفساد، فترى الكثيرون من اركان مؤسسة الفساد نفسها يستقلون عربة الاصلاح ويطالبون بمحاربة الفساد ليلا نهارا، وذلك على طريقة القاتل الذي يساعد الشرطة في البحث عن جثة القتيل، فهو من ناحية يظل في مسرح الجريمة لشعوره بالقلق ورغبته في متابعة الاحداث عن قرب، ومن ناحية اخرى فانه سيستغل اي فرصة لتضليل الشرطة في البحث وتوجيه انظارهم بعيدا عن الاتجاه الصحيح. (5) تكوين خطوط دفاعية تبدأ بصفوف من الفاسدين ذوي الاحجام الصغيرة يتم وضعهم في مقدمة الصفوف بهدف تلقي الصدمات من خلالهم، ولا مانع ان سقط بعضهم فداءً لمؤسسة الفساد "المقدسة" وحماية لرؤوسها الكبيرة. (6) العمل على اغراق اي قضية فساد بالكثير من التفاصيل المتشابكة بحيث يتم انهاك قوى وطاقات الجهات المتعاملة مع القضية وجعلها تدور في حلقة مفرغة تجد نفسها غير قادرة على تجاوزها بعد ان تدخل في متاهة اطنان الاوراق والوثائق التي يجب ان يتم فحصها وجيوش الشهود الذين يجب الاستماع الى اقوالهم. (7) افتعال وخلق حالة عامة من الفوضى المجتمعية من خلال اثارة المعارك الجانبية وتعزيز اي تناقضات مجتمعية طارئة وجعلها تطفو على السطح لتستحوذ على اهتمام الشارع وبما يحقق تراجع قضية التصدي للفساد على سلم الاولويات. ان التصدي الجاد لمواجهة الفساد يتطلب الانتباه الى هذه الوسائل التي تلجأ اليها مؤسسة الفساد للدفاع عن نفسها، والعمل باتجاه افشال هذه الوسائل في تحقيق غاياتها، وعلينا ان ندرك حقيقة اساسية تتمثل في ان مؤسسات الدولة فقدت اي قدرة ذاتية على التطهر من درن الفساد وذلك لتمكنه من مفاصلها الاساسية وتحكمه المطلق في ادراتها ولا بد من العمل على ادامة زخم الضغط الشعبي باتجاه تحقيق مقاومة ناجعة لعناصر الفساد ودفعه مجبرا للتخلي عن مراكزه ومناطق نفوذه تمهيدا لتحقيق انجازات ملموسة في اطار محاربة الفساد.