1 – الجيش المصري و جدلية الوفاق و العداء: لقد شكلت ثورة 25 يناير 2011 حدثًا مفصليًا في تاريخ الأمة المصرية و الوطن العربي بشكل عام ، إذ خرج الشعب المصري بكل فئاته و أطيافه و انتماءاته الطبقية و الدينية و الأيديولوجية إلى ميادين التحرير في كل المحافظات، للتنديد بأفشل نظام سياسي في الشرق الأوسط. إنه نظام سيئ الذكر حسني مبارك، الذي حكم البلاد بالحديد و النار، و نهج أسلوب الأبرتايد و التفرقة بين أبناء الشعب الواحد، فمنح للفئة المحظوظة خيرات البلاد، و رمى بالأغلبية المطلقة من الشعب المصري الطيب في عالم الفقر و الحرمان و الفساد .. لقد عبر الشعب المصري و بأسلوب حضاري غير مسبوق عن إرادة مستميتة في إزاحة حاكم فضل الدفاع عن المصالح الصهيونية و فئة ضيقة من المقربين من دائرة صناع القرار من رجال أعمال و إعلاميين و جيش و أمن و قضاء، على حساب المصلحة العليا للبلد. و بعد أن نجح هذا الشعب العربي العظيم في إزاحة هذه الغمة، ووضع حد لحكم مبارك، دخلت البلاد بحماس منقطع النظير في سلسلة من الاستحقاقات الانتخابية، شاركت فيها كل الأحزاب و الحساسيات و الهيئات السياسية من أجل بناء جماعي لغد أفضل و مصر قوية، و كان الفوز في كل هذه الاستحقاقات (مجلسي الشعب و الشورى و الرئاسة و التصويت على الدستور ) من نصيب الحزب الإسلامي المعتدل؛ حزب الحرية و العدالة، لأنه الأكثر شعبية و تنظيما و مصداقية و قربًا من آلام و تطلعات الغالبية المطلقة من الشعب المصري. بيد أن الجيش و هو الإطار المؤسسي الأقوى في البلاد و غالبية الأحزاب السياسية القومية و اليسارية و الليبرالية، التي خرجت خالية الوفاض من معركة صناديق الاقتراع، كل هذه الأقطاب كان لها رأي آخر : إظهار القبول و إخفاء الرفض و العداء للنتائج التي أسفرت عنها ممارسة ديمقراطية، شهد العالم بأسره على جديتها و نزاهتها و مصداقيتها، و منذ ذلك الحين أنشأت هذه الأطراف الفاشلة جبهة الإنقاذ لتنقذ نفسها من الوضع غير المشرف الذي وضعها فيه الشعب باختيار حر، و طفقت في تنظيم اللقاءات و الندوات و وضع مختلف العراقيل السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية و الإعلامية .. في طريق أول حكومة منتخبة ديمقراطيًا في تاريخ مصر و الوطن العربي لإفشالها و إسقاطها مهما كلف ذلك من ثمن! 2 – "أبطال" الانقلاب العسكري على الديمقراطية: و بعد سنة من حكم الإسلاميين المعتدلين برئاسة الدكتور محمد مرسي ( و ما أصعبها من سنة مليئة بالمحن و المكائد و الضغائن الظاهر منها و الباطن) ، قررت أغلب الأحزاب الليبرالية و اليسارية و القومية و بمساهمة "كريمة" من الجيش المصري و فلول النظام السابق، أن تقلب الطاولة على المنجز الديمقراطي، و تنقلب على اختيارات الشعب، و هي التي طالما شنفت مسامعنا بقصائد مدح الديمقراطية و الحديث عن عظمتها و جدواها و وظيفتها في رقي الأمم و الدفع بها نحو التقدم و الازدهار و التنمية الشاملة! . و أعطيت الأوامر للإعلام المصري المأجور لقصف عمل الحكومة المنتخبة بكل أسلحة الكذب و التآمر و تلفيق التهم و الدعاية السوداء، و ملء ميدان التحرير بالغاضبين من حكم الإسلاميين الحقيقيين و المصطنعين، مما أحدث ضغطًا فعليًا على الحكومة الجديدة و المفتقرة إلى تجربة تسيير دهاليز الدولة، و بفعل الحماس و الاندفاع الزائدين ارتكبت أخطاء استراتيجية ليس أقلها الإعلان الدستوري، الذي منح سلطات كبرى للرئيس على حساب المؤسسة التشريعية و القضائية.. مما أجج غضب جبهة الإنقاذ بمعية المؤسسة العسكرية، و كأنها كانت تنتظر هذه ( اللحظة التاريخية ) لتنفيذ نواياها و ترجمة أحلامها في الانقلاب على ثورة القرن الواحد و العشرين. جاء ذلك بمساهمة " فعالة " من الفلول و المتحكمين في عجلة الاقتصاد الوطني و الإعلام الأسود و قطاع من الجيش و تمويل ضخم من بعض الدول الخليجية المعروفة بكراهيتها للديمقراطية كنظام حكم، تم اللجوء إلى " اختراع " فكرة شباب ( تمرد ) للدعوة إلى إسقاط حكومة لم يتسن لها أن تحكم، و مرت مياه متدفقة تحت جسر أم الدنيا إلى أن جاء موعد 30/ 06/2013؛ موعد عرض مسرحية "ثورية" محكمة الإخراج و الحبك الفني، تجلت في مشاركة جموع غفيرة من المواطنين المصريين تجاوزت أربعة ملايين حسب بعض الجهات المحايدة و الموضوعية، مما هيأ للانتقال إلى الخطوة الأخيرة؛ مطالبة الجيش ممثلا في وزير الدفاع و القائد العام للقوات المسلحة الفريق أول عبد الفتاح السيسي، الشعب المصري تفويضه للتدخل ( حماية أمن الدولة و الدفاع عن الديمقراطية) ، أو الإجهاز على الديمقراطية لافرق! و نهاية القصة معروفة: انقلاب عسكري واضح المعالم و الأركان، من تجلياته الكبرى :عزل الرئيس المنتخب محمد مرسي و تعطيل العمل بالدستور الشعبي و تعيين رئيس المحكمة الدستورية العليا للبلاد. 3 – من أجل مصر دولة مدنية ديمقراطية تسع الجميع: و لئن كان الجيش قد اعتقد خطأ أن الانقلاب هو خير وسيلة لاستتباب الأمن و الاستقرار ، و إعادة نظام حسني مبارك و طي صفحة حكم "الإخوان"، بالاستناد إلى ما سمي ب" الشرعية الشعبية" و كأننا أمام مقلب تلفزيوني فج، فإن أتباع محمد مرسي و أنصار الديمقراطية كان لهم رأي آخر : الاعتصام الشعبي و السلمي من أجل الدفاع عن الشرعية الديمقراطية و الاختيارات الحرة للمواطنين. و قد أعطت كل من ساحة رابعة العدوية و النهضة نموذجًا غير مسبوق في الإصرار الأسطوري على الدفاع عن الديمقراطية في مناخ من الحماس و السلمية و اليقين بالنصر . و حتى حينما أقدم الجيش و الأمن على ارتكاب مجازر دموية مرعبة ( الحرس الجمهوري و المنصة) في حق مواطنين مسالمين يدافعون عن قناعاتهم الديمقراطية، راح ضحيتها مئات الشهداء و الجرحى .. و التهديد بفك الاعتصامات بالقوة ، لم تتراجع الجماهير المصرية عن ميادين مناصرة الشرعية الدستورية، بل ازدادت دائرة المحتجين اتساعًا و تنوعًا و قوة، لأنها جماهير تحمل قضية مبدئية ( لا بديل عن الديمقراطية) ! عند هذه النقطة بالذات تراجع العسكر عن محاولة تكرار احتكاك جنوني غير محسوب العواقب بالشعب الثائر، و إفساح المجال للمبادرات الوطنية و الدولية، للخروج من الأزمة التي تتخبط فيها البلاد. ولأننا نؤمن بأهمية الدولة المصرية و مكانتها الإقليمية ومركزية الجيش المصري في الدفاع عن المصالح العليا للوطن و الأمة، و مصير الأقطار العربية المشترك، فإننا ندعو إلى سماع خطاب العقل و تغليب كفة الحكمة على ثقافة المغامرة و الصراع الصدامي و المقامرة بمستقبل أجيال الحاضر و المستقبل، و نفترض أن الحل الأوحد للخروج من عنق الزجاجة هو الحل السلمي التوافقي، حيث يستمع طرفا المواجهة إلى بعضهما البعض ( الإسلام السياسي المعتدل و المؤسسة العسكرية) بحسن نية، و أن يتنازل كل منها للآخر عن بعض المطالب الحدية من أجل مصر و لا شيء غير مصر . و لعل المبادرة التي تقدم بها بعض المثقفين و رجال الفكر و السياسة، و على رأسهم محمد سليم العوا و فهمي هويدي تظل هي الأقرب للمنطق و العقل الراجح، حيث لا غالب و لا مغلوب! مع إمكانية إجراء بعض التعديلات و الإضافات الجزئية عليها، و لعل أهم ما في هذه المبادرة بالغة الأهمية، عودة الرئيس الشرعي محمد مرسي لا كرئيس فعلي، بل لتفويض رئيس وزراء متوافق عليه و بصلاحيات كاملة، من أجل إنجاز انتخابات نيابية ورئاسية، والبدء في إجراءات تعديل الدستور ، أملا في اجتياز أخطر مرحلة تعيشها الأمة المصرية و الوطن العربي، و إبعاد الجيش المصري عن الحياة السياسية، و وضعه في المكان اللائق به؛ الدفاع عن الوطن و الوحدة الترابية، و مواجهة العدو الخارجي بكل ما أوتي من قوة و عتاد، و إبعاد الإعلام التلفزيوني على وجه خاص عن التحريض المغرض و شيطنة الخصم السياسي و الاستمتاع بلعبة الموت! و تفرغ الهيئات و الأحزاب السياسية الليبرالية و اليسارية و القومية لإعادة بناء بيتها الداخلي، و الاجتهاد من أجل تقديم البدائل المادية الملموسة للمواطنين، التواقين إلى الحرية و الكرامة و العدالة الاجتماعية و العيش الكريم ، و الاستعداد لخوض الاستحقاقات القادمة بفاعلية و ثبات، فنحن في حاجة تامة إلى كل التيارات الإسلامية و العلمانية على حد سواء، للحصول على مكان جدير بنا بين الأمم الراقية، و إقامة دولة مدنية ديمقراطية تسع الجميع من دون إقصاء أو استثناء لأحد بهذه الطريقة الحضارية المتقدمة و ليس بغيرها، يمكن أن نبرهن للعالم بأسره و لإسرائيل على وجه الخصوص، على أن الحلم العربي بالديمقراطية ممكن جدًا، رغم كيد الكائدين! … ( إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت و ما توفيقي إلا بالله عليه توكلت و إليه أنيب) سورة هود الآية 88.