ربما تكون المعركة التي تأخرت كثيراً ضد تنظيم القاعدة قد حانت بفعل الروح المتمردة لأعضائها الجدد المتعطشين لقتال القوات النظامية مما لا يدع للسلطات خيار مداراة قوة مندفعة نحو الفناء. كما لن يكون بوسع السلطات النظامية أن تداري التنظيم إلى أبعد من المآل الراهن وقد أوغل في دماء عسكرييها مع تصميم على المضي في هذا النهج.
كان يوم الجمعة الماضي أكثر الأيام دموية في تاريخ المواجهة بين القوات الحكومية والقاعدة والأوجع على الأولى. بضربة واحدة من مقاتلي التنظيم في مديرية لودر بأبين سقط 11 جندياً من قوات الأمن المركزي قتلى في مؤشر على شهية التنظيم لدم العسكر الذين يرى فيهم ذراع "للطاغوت".
على الأرجح أن مواجهات الجمعة ستجعل من لودر معقلاً جديداً لمسلحي القاعدة الذين اقترنت نشاطاتهم بمنطقة جعار في الماضي.
وقبل هجوم لودر بيوم واحد كان المسلحون القاعديون أصابوا نحو ستة جنود في هجوم بقنابل يدوية على مركز شرطة في جعار ضمن سلسلة هجمات مميتة تشنها القاعدة منفذ يونيو الماضي ضد قوى الأمن والمخابرات، وصل عدد ضحاياها من العسكريين إلى قرابة 50 عسكرياً.
وبالرغم من إطلاق الجيش عملية عسكرية لسحق مقاتلي القاعدة في لودر إلا أن العملية التي يعتقد أن وزير الدفاع محمد ناصر أحمد يديرها لم تحقق نتائج جيدة بعد مرور خمسة أيام على هجمات لودر باستثناء إعلان وزارة الدفاع مقتل سبعة من المقاتلين المتشددين.
ولا تقتصر النتائج الباهتة لقوى الجيش والأمن في مواجهة القاعدة على جبهة لودر الجديدة إذ أن القاعدة نفذت نحو 13 هجوماً في غضون شهرين فيما لم تحرز القوى الأمنية أي نجاح لافت في النيل من قوة التنظيم التي تزداد باضطراد. ومن خلال تتبع زمني لهجمات القاعدة التي نفذتها في محافظات الجنوب منذ 19 يونيو الماضي يظهر أن التنظيم المتطرف استعد للمواجهة جيداً وله الخيرة في تقرير المكان والزمان المرتبطين بوقائعها.
طبقاً لمجريات المواجهة المتسلسلة لم تختر القاعدة مقر جهاز الأمن السياسي (المخابرات) في عدن ليكون أول أهداف ضرباتها في 19 يونيو الماضي مصادفة أو استغلالاً لثغرات أمنية بل كان رسالة نذير صيغت بدقة متناهية لتبلغ أمرين: ضراوة المواجهة القادمة وقوة التنظيم المتعاظمة مسنودة بدعم استخباراتي لا تخفى آثاره في دقة الضربات.
بعد ستة أيام من الهجوم على مقر جهاز الأمن السياسي بعدن، يشتبك مسلحون متشددون على صلة بالقاعدة مع قوى الأمن في مدينة خور مكسر بعدن في ما عرف بأحداث حي السعادة، وكانت هذه الرسالة أكثر عمقاً في مدلولها الاجتماعي والسياسي فضلاً عن المحور الأمني فيها.
عشرات المسلحين المتشددين أغلقوا حي السعادة في أكثر مدن عدن مدنية واعتلوا أسطح المنازل مع قاذفات آر بي جي متحدين أي قوة أمنية تدهم الحي، ولم يسدل الستار على هذا المشهد إلا باتفاق.
من غير قصد ربما، أعلنت القاعدة من خلال ذلك المشهد الصارخ أنها قد اخترقت قلب المدنية والمدينة على حد سواء؛ لقد وصلت إلى عدن وبعنوان آخر اقتحمت الوعي الاجتماعي من صحارى الجوف ومارب حتى استقرت في عدن.
ومن خلال تفحص لزمان الهجمات الثلاثة عشر ومكانها، يتضح بجلاء، كيف يتبع تنظيم القاعدة جدولاً زمنياً دقيقاً لتنفيذ هجماته بما يحقق هدف مشاغلة السلطات الأمنية ويحرمها من فرصة لالتقاط الأنفاس والتحقيق المريح في ما يحدث.
فالفارق الزمني بين معظم الهجمات ثابت بين سبعة أيام أوست بمعدل هجوم في الأسبوع الواحد فيما لا يفصل بين الهجمات المتأخرة أكثر من يومين.
وتأتي مناطق أبين، الرقعة الجغرافية التي تستأثر بالنصيب الأكبر من الهجمات وهو انعكاس واقعي لطبيعة المنطقة حيث أقدام القاعدة راسخة هناك إلى جانب سلسلة جبلية وعرة تمكن المسلحين من التحصن والاختفاء.
تتضافر عوامل كثيرة في أبين لتمد القاعدة بمزيد من الشبان الذين يمثلون ذخيرة بشرية في قتال القوات الحكومية ووقوداً للصراع.
فعلاوة على الفقر المدقع وفراغ الرسالة الثقافية الرسمية من مضمونها، شكلت أبين بؤرة لاحتشاد أعضاء الجماعات المتشددة التي ساندت قوات الرئيس علي عبدالله صالح في حسم الصراع العسكري لصالحه في 1994 على حساب قوات الحزب الاشتراكي اليمني.
وظهرت أولى علامات الاستقطاب المتشدد هناك في جيش عدنأبين الإسلامي خلال النصف الثاني من عقد التسعينيات من القرن الماضي بزعامة أبو الحسن المحضار وهو التنظيم الذي شن هجمات دامية ضد سياح غربيين.
وورث مجموعة مسلحين جيش عدنأبين بعد أفول قوته، واختار هؤلاء أن يشهروا قوتهم عبر مهاجمة قافلة طبية في 2002 قبل أن يخوضوا مواجهات مع قوات الجيش انطلاقاً من جبل حطاط حيث تحصنوا، غير أن قوتهم لم تلبث أن وهنت عقب استسلام زعيمهم خالد عبدالنبي للسلطات النظامية وإقامة علاقة ودية أساسها المصالح المتبادلة وكف الأذى.
يجد الشبان العاطلون في أبين في خليط من الحركات المتشددة إرثاً غير محظور يستهويهم استلهامه في ظل فراغ ثقافي وقنوط من الآتي.
لا يعني أن مقاتلي القاعدة في أبين ممن وصلوا لأن يلقوا بأنفسهم إلى القتل على درجة من التثقيف الديني أو أنهم قد استكثروا من التدين حتى بلغوا مرحلة التشدد فهم شبان ذوو سلوك فظ ممزوج بنوازع الإغارة والقتل . ويكفي الواحد منهم أن يحمل بندقية كلاشنيكوف ويتمنطق الرصاص لأن يصبح عضواً بارزاً يصول في أحياء جعار وزنجبار، وذلك على عكس موجة المتشددين التقليديين الذين كونوا الصورة النمطية عن طبيعة التشدد.
تسلسل زمني لهجمات القاعدة في الجنوب 19 يونيو: قتل 11 موظفاً بينهم 8 عسكريين في هجوم على مقر الأمن السياسي في عدن ببنادق رشاشة وقنابل يدوية. 25 يونيو: اشتباكات بين قوى الأمن ومسلحين على صلة بالقاعدة في مدينة خور مكسر بعدن. 1 يوليو: اغتيال المقدم في الأمن السياسي صالح أمذيب في زنجبار. 6 يوليو: اشتباك مع قوات أمنية بالمكلا وقتل 3 جنود أحدهم توفي في اليوم التالي للاشتباكات. 14 يوليو: قتل جنديين وإصابة سبعة في هجوم ببنادق رشاشة وقذائف على مقري الأمن السياسي والأمن العام في زنجبار. 22 يوليو: قتل خمسة جنود وإصابة آخر في عتق بشبوة ببنادق رشاشة. 25 يوليو: قتل ستة جنود في مديرية عرمة بشبوة بنيران بنادق رشاشة. 3 أغسطس: هجوم انتحاري بدراجة مفخخة على مقر الأمن العام بالضالع يصيب ثمانية جنود ومصرع المفجر. 5 أغسطس: قتل 3 جنود وإصابة رابع في هجوم بقنابل يدوية على دوريتهم في زنجبار. 13 أغسطس: اغتيال الضابط المحقق في الأمن السياسي علي عبدالكريم فضل في لحج. 16 أغسطس: اغتيال الضابط في الأمن السياسي قاسم علي عبدالكريم الضالعي في زنجبار. 19 أغسطس: قتل جنديين وجرح ثلاثة في هجوم على دوريتهم في لودر. 20 أغسطس: قتل 11 جندياً في هجمات بقذائف آر بي جي وبنادق رشاشة في لودر.