تحاصرك الأحلام الحلوة والآمال الأحلى، تطلب إليك أن تنفخ فيها الروح، لكنك تنفخ فيها الحسرة.. وتفرُ من هاجسها العذب إلى عذاب الخيال المجنح، لكنك ترتد، أسيان على خيال متعب، أضناه الوهم...
وإذ بك حتى في أحلامك..تحلم..ثم تحلم..أنك روح تحلق في أكوان من عطر ونور أخضر..تصول وتجول في مدائن قلبك تستجلي المحجوب..لكنك تستوقف هذا الحلم المجنون، ويراودك العجز عن نفسه تتساءل: أين ميزان العدل؟
إني مثلك يا صاحبي، أحلم أني ذات يوما ما، قد أرسم وجه غدي، فكل غدٍ رسمته صار أمساً، بلا ملامح أو حتى وجه..
* * * أتحس بأنك توشك أن تنطفئ، تذرو رياح الأيام رماد العمر، والأحلام، والصور الأجمل لمستقبل لن يأتي كما أردت، لأنك لم تكن شخصاً آخراً في بلد أخرى..
تتلفت للوراء، مثلي يا صاح، تتفجر ألماً، وأنت لا ترى خلفك إلا براري الهشيم، كأنك لم تزرع نبتاً، أو تبذر بذراً، فحصادك لا شي..
* * * تتشاءم، تغرق في سوداوية أفضل منها الموت، لكنك لا ترثي نفسك، إنما تنعى وطناً لم تختره، وزمناً كالأضغاث، قدر لك ان تعبره دخاناً لبركان مختنق.
ها أنتذا تصرخ، لكن من يسمعك..بح صوتك يا صاح وأنت تنادي، لكن ليس ثمة من يسمع، فحولك يموت الصوت، حتى رفة غصن في شجر أجرد، حتى أنين عصفور مثقل بالوحشة، يترقب طفلا عاري القدمين، يلون الحديقة العارية بالألوان ويطرد سرب البوم..
* * * إنني يا صديقي، أجلت أحلامي حتى زمن آخر، في وطن آخر.. وطن لا يجتثني من طفولتي ويلقيني في عراء اليأس، لا يرسم لي طريق الخيبات، لا يقرضني ذهاباً وإياباً، من سوق القات إلى المقيل، حتى لا يبقى للموت مني سوى عود أيبسه السأم.
ولا أشعر بالإثم يحوك في صدري، أن وسوست لنفسي كل يوم، عقب الصلوات الخمس، بخطيئة الارتحال عن أرض عقيم، تمرح فيها الحيات والأحناش، ولا تبتسم الشمس حين تطلع عليها.
* * * يا صاحبي الحزين، ان تحلم بالرحيل، فلست وحدك، أن كنت تحلم ان تتحرر من ربقة هذا الوطن المختنق، فلست وحدك، كلنا نموت وهذا الحلم مختبئ في جنبات الجسد الضامر، يتوثب رغم الموت، يود لو ينطلق خلف غمام راحل. بعيداً عن وطن منكمش مطوق بالقات والبارود، وطن مهووس بالحروب والانتصارات التافهة، مغرمٍ بالانتكاس.
إنني أتحرق شوقاً للانعتاق من هذا الكهف الموبؤ، وأتوق للركض عاري القدمين خارج حدود هذه المقبرة، اتنفس هواء آخراً، لم تمازجه ادخنة "المدائع" و"المدافع" الصدئة.
* * * إني مثلك متخم بالحسرات، تخنقني الغصات، حين أفكر بالمستقبل، في وطن يتحول يوماً فيوماً، إلى مقبرة ذات شقين..
اضرحة من ذهب وفضة، للهمج، صناع الجوع والعار.. والموت..
وقبور من اوجاع، تعترض الشارع والسوق، للضعفاء ابناء الأرصفة.
لكن الغربة، صارت حلماً، والهجرة حلم أصعب، فليس ثمة وطن يقبلنا، حتى هذا الوطن/ العثرة، يرفضنا إن لم نصبح همجاً يا صاح.
إني مثلك لا أرغب في الموت قهراً، أتكوم ذعراً، دون أمل، ودون وطن..
دعنا يا صاح ننتزع وطناً لنا من ركام هذا الوطن الهمجي فما ثم طريق أخرى للعيش..
وما ثم وطن آخر.. وطن لنا.
* المقال لحميد شحره، مؤسس صحيفة الناس ورئيس تحريرها منذ صدورها في مايو 2000م وحتى وفاته في 24 أكتوبر 2006. ويعيد المصدر أونلاين نشرها تزامناً مع مرور الذكرى الرابعة لرحيل فقيد الصحافة اليمنية في حادث مروري مؤلم على طريق حرض - الحديدة، أثناء ما كان عائداً مع أسرته من أداء العمرة. سائلين الله عز وجل أن يرحمه ويغفر له ويسكنه فسيح جناته.