لا تريد القوى السياسية مغادرة مربع أداءاتها العتيقة الموروثة عن عهد صالح، ولا يساعدها وجوده على أن تفعل. ثمة ارتباط وثيق بين الأداء السياسي في البلد، وبين أداءات الرئيس السابق التي عرفت بالمكر والخديعة والكذب والاحتيال، والتي طبعت الفعل السياسي عموما بهذه الصفات، إضافة إليها «الحذر والشك» على أداء وسلوك المعارضة. حتى الآن، وبعد شهر على انتخاب الرئيس الجديد عبد ربه منصور هادي، يبدو جلياً أن القوى السياسية لم تستطع مغادرة تلك الأداءات العتيقة والبالية لمرحلة صالح، ربما بسبب الألفة والتعود، وربما بسبب وجود صالح ذاته على الساحة، فضلاً عن وجود أبنائه في قيادة بعض مؤسسات الجيش والأمن الهامة. مسألة بقاء صالح رئيساً للمؤتمر، أو بقاء أبنائه ومقربيه في قيادة بعض المؤسسات العسكرية والأمنية الهامة لبعض الوقت لا تعني قدرة الرجل أو أسرته على العودة للسيطرة على السلطة،. غير أن مشكلة هذا «الوجود» الفعلية هي أسر الأداءات السياسية للبلد عند مرحلته حيث لا تزال هناك ولم تغادر. يمكن القول إن الأداء السياسي الراهن لا يعكس أداء سياسياً جديداً لعهد يفترض أنه جديد. فالجدل الآن عن هيكلة الجيش والحوار الوطني، مثلاً، هو من تلك الأداءات القديمة لعهد صالح التي عادة لم تكن تعكس طبيعة الصراع السياسي على حقيقته، وإنما تستعير قضايا أخرى للجدل لتسوية قضية لا تحضر صراحة في الخطاب المعلن. ربما ما أريد قوله هنا إن الجدل الآن عن هيكلة الجيش والحوار الوطني وعن أيهما أولاً، إنه كأمر لا يعكس حقيقته المعلنة تماماً، فلا الحوار ولا الهيكلة أحدهما شرط للآخر بهذه الصورة المجردة، ولا صالح كرئيس للمؤتمر يمكن أن يعود للسلطة، ولا بوجود أولاده في قيادة بعض الجيش والأمن، كما أن بقاءه في رئاسة المؤتمر في الأساس ليس مشكلة للثورة أو المعارضة بقدر ما هو مشكلة للمؤتمر وللرئيس هادي أولاً. غير أن المشترك لا يقبل، ولن يقبل، الذهاب للحوار الوطني ويجد صالح هناك، ربما هذه الرغبة ليست بعيدة عن صالح أيضاً، هو لن يفوّت فرصة للظهور إلى جانب قيادات المشترك (وقد كان حريصاً على مثل ذلك في حفل التوديع في الرئاسة) للقول إن الثورة فشلت وإنه لا يزال حاضراً، كعادته دائماً في المكايدة. وربما أبعد من هذا لإعاقة الحوار الوطني ذاته، ولا يستبعد أن تكون عن رغبة في العودة للسلطة، حيث لا يزال فقده لها قريباً. المشكلة عميقة بالفعل، وخفة الأداء السياسي وعتاقته لا تعني أن ليس هناك مشكلة خطيرة يجب التوقف عندها قبل الذهاب للتحضير للحوار الوطني الشامل، أو إعلان رئيس الجمهورية عن لجنتها التحضيرية بداية كما ترغب الأطراف الدولية والإقليمية الآن.
صحيح أنه لا يمكن معالجة المشكلة على طريقة الهيكلة أو الحوار أولاً، كما يظهر على الجدل المعلن، لكن الصحيح أيضاً أنه لا يمكن الذهاب للحوار الوطني في مثل هذه الظروف قبل تطبيع بعض المسائل العالقة. القول بأحد الأمرين لا يخلو من خفة.. حيث يمكن الرد على القائلين بهيكلة الجيش قبل الحوار بأن ذلك ليس ممكناً بهذه البساطة، والرد على القائلين بأن لا علاقة للهيكلة بالحوار، بأنه لا يمكن الذهاب إلى الحوار الوطني قبل الاتفاق على خطة مزمنة للهيكلة على الأقل. أخطر ما في الأمر من وجهة نظري أكثر من قضايا هيكلة الجيش وقضايا الحوار، حيث يمكن التفاهم حيالهما، هو وجود «شبح» صالح نفسه على الساحة السياسية، بمثل هذا الوجود يظل أداء القوى السياسية بالياً وعتيقاً، ولن يستطيع الانفتاح على أداءات جديدة تتطلبها المرحلة، حيث يظل منشغلاً بصالح وقضايا صالح الصغيرة ومناكفاته. أظن أن البلد عموماً في حاجة لإبعاد هذا «الشبح» لبعض الوقت قبل أي شيء آخر، ليمكن لها التفكير في هدوء وخلق أداءات جديدة متطلبة للقضايا الكبيرة والأساسية التي تواجهها البلد، بدون ذلك سيظل هو حاضراً، وأخطر من حضوره حضور أداءات عهده العتيقة أيضاً.