ما يحدث في مصر الآن من قلق عارم حول مستقبل الثورة ومآلاتها يمكن تفسيره من خلال ثلاثة أخطاء وقعت فيها الثورة. هذه الأخطاء تعد أخطاء قاتلة وتتمثل في أن الثوار صدقوا ثلاث خرافات هي : خرافة سقوط النظام , والثانية : خرافة حياد الجيش المصري , والثالثة : خرافة نزاهة القضاء المصري , ومن يتابع ما آلت إليه أوضاع الثورة المصرية وخصوصا أحداثها الأخيرة المتلاحقة بدءا من النطق بالحكم على بعض رموز النظام السابق وإجراء الانتخابات الرئاسية ونتائج جولتها الأولى , وأخيرا حكم المحكمة الدستورية العليا بعدم دستورية قانون العزل السياسي وإبطال مجلس الشعب , كل ذلك يجعل المتابع لا يشك لحظة في أن هناك التفافا خطيرا وبارعا وماكرا في نفس الوقت على الثورة استطاع أن يتقنع تماما بقناع دستوري وقانوني وديمقراطي , وسأناقش فيما يلي هذه الخرافات الثلاث التي آمنت بها قوى الثورة المصرية بكل أسف والتي جرتها إلى ما لا يحمد عقباه وهي :
• خرافة سقوط النظام : لقد كان من الواضح لأي متابع عادي لديه فكرة عن طبيعة النظام المصري القائم أن يعرف أن تنحي الرئيس مبارك كان بموافقة الجيش المصري الذي دخل إلى اللعبة السياسية باكرا وكانت التضحية بالرئيس هي الخيار الأنسب والمفضل لامتصاص الثورة وفرملتها ووقف احتجاجات الثوار في كل المدن المصرية , والواقع أن النظام المصري لم يكن يمثل ديكتاتورية فرد بل هناك قوى متعددة عسكرية وأمنية ورجال أعمال إلى جانب القوى الخارجية التي تنظر إلى حجم وخطورة التغيرات التي ستحدث في مصر كمدخل للتغيرات اللاحقة في البلدان العربية الأخرى .
صحيح أن الجيش المصري لم يتورط في قمع المتظاهرين لكن ذلك لا يعني أبدا أنه ليس لديه طموحات سياسية ولدى قادته الكبار , وليس أدل على ذلك مما كان أعلن عنه عن نية المشير " طنطاوي " رئيس المجلس العسكري الترشح للانتخابات الرئاسية إلا أن الجيش فضل اللعب بأوراقه السياسية ولكن من خلال شخصيات مدنية أو عسكرية سابقة , وقد كشفت الانتخابات الأخيرة عن اصطفاف واضح للمؤسسة العسكرية خلف " أحمد شقيق " الرجل القادم أصلا من المؤسسة العسكرية والذي أعلن عنه كمرشح " مستقل " وهو الذي كان حتى الأمس القريب جدا ركنا من أركان النظام السابق.
ومهما قيل من تبريرات تفسر ارتفاع نسبة تقدمه في الانتخابات كما يعزوها البعض إلى ذهاب كل الكتلة الانتخابية القبطية لصالحه وبعض القوى العلمانية ورجال الأعمال في النظام السابق فإن ذلك لا يكفي لتبرير هذا الصعود المفاجئ وغير المتوقع والمناقض لكل توقعات المحللين والسياسيين واستطلاعات الرأي والتي كانت تعطي " أحمد شفيق " مركزا متأخرا بين باقي المرشحين , هذه النتيجة التي فاجأت الجميع من الصعب تصورها دون وجود حشد قوي من قوى مقتدرة داخل المؤسسة العسكرية ومكونات النظام السابق.
باختصار لقد اخطأ الثوار حينما توهموا فعلا أن النظام قد سقط كليا بسقوط حسني مبارك ولذلك لم يلقوا لهذا الأمر ما يستحق من الحذر والعمل السياسي والثوري الضاغط بقوة ولم يحسنوا قراءة الواقع السياسي وجس نبض ما تبقى من النظام والتنبؤات والاحتمالات السياسية لهذا الواقع وقد عبر هذا عن وجود قصور كبير في الرؤية السياسية الواعية لدى معسكر الثورة استبدلته هذه القوى بزخم انتخابي عاطفي . • خرافة حياد الجيش المصري : وهي خرافة آمن بها معسكر الثورة بشكل مطلق كما يبدو على الرغم من التجارب المريرة في العالم العربي التي تقريبا لم تعرف زعيما أو حاكما إلا من خلال المؤسسة العسكرية وبالتالي ظلت بيادات العسكر تعيث في العالم العربي ولا تسمح برئيس مدني على مر عقود طويلة من الزمن , كيف لا وهي صاحبة إيمان راسخ بعقيدة أنه لا يصلح لقيادة العالم العربي إلا العسكر.
لقد كان من الطبيعي والمنطقي منذ الوهلة الأولى لطريقة تنحي الرئيس السابق حسني مبارك عن السلطة وتسليمها إلى مجلس عسكري أن تعي القوى الثورية مباشرة أن هناك لاعبا خطيرا وقويا أصبح ممسكا بخيوط الأمن والسياسة والإدارة في البلد هو المجلس العسكري وأن عليه تأكيد حياده ليفسح المجال للسياسيين للتناطح لكن العجيب أن هذا المجلس كان يثبت يوما بعد آخر أنه يسعى إلى إعادة إنتاج النظام السابق صورة معدلة ويبدو أنه قرر بالفعل التلاعب بعواطف القوى الثورية ويتضح أنه يتجه بإصرار نحو فرض القيادة السياسية التي يريدها هو بعيدا عما يريده الثوار من دولة مدنية.
• خرافة نزاهة القضاء المصري: وهي خرافة روجها الكثير من الكتاب والمحللون والسياسيون سواء بحسن أو سوء نية , ولا شك أن القضاء المصري في الجانب المدني يتمتع بقدر كبير من الحياد والنزاهة لكن الأمر يختلف تماما حينما تتقاطع خطوط القضاء مع خطوط السياسة ومعلوم أن النظام السابق كانت له بصماته وأساليبه في تدجين القضاء والسيطرة عليه وخصوصا في الجوانب السياسية والأمنية , ولنا أن نتساءل أين كانت نزاهة وقوة ودستورية القضاء المصري حينما كان النظام السابق يحيل مدنيين إلى محاكم عسكرية ضاربا بالقانون عرض الحائط.
وحتى بعض القضايا المدنية التي كانت تتعلق برموز كبيرة في النظام السابق وشخصيات ذات وزن ونفوذ كثيرا ما كان القضاء المصري يرضخ لضغوط كبيرة وبالتالي فإن الإفراط في كيل المديح للقضاء المصري أمر مخالف للواقع والمنطق وإلا كيف يفهم المراقب العادي مواقف القضاء المصري عند تبرئة قادة في أجهزة الأمن والشرطة كانوا على علاقة مباشرة بأعمال قتل وسحل ضد المتظاهرين ثم يبرأون بهذا الشكل الفاضح.
لقد كان واضحا أن هناك اتفاقا بين القضاء والمجلس العسكري وبقايا النظام السابق على إخراج معين وبطريقة معينة للمحاكمات التي تمت ويبدو جليا من الأحكام الصادرة الاتفاق على التضحية برئيس سابق ووزير داخلية بلغا من الكبر عتيا لا يعني السجن المؤبد لها شيئا سوى التمتع بما تبقى لهما من أيام معدودة بمتابعة المشهد السياسي المصري في حين ينعم بقايا النظام بما فيهم الأبناء بالبراءة الكاملة وممارسة حياتهم بطريقة طبيعية.
ولهذا فحين يمتدح القضاء المصري علينا أن ندرك أننا لسنا في باريس أو لندن , لكن المشكلة أن معسكر الثورة وقع في هذا الخطأ الفادح بالركون إلى هذه النزاهة المنقوصة التي أفضت في النهاية إلى فتح الطريق أمام مرشح النظام السابق لينافس على كرسي الرئاسة في جولة الإعادة ولتبطل هذه النزاهة قانون العزل السياسي في الوقت الذي تمكن فيه العراقيون من إصدار وتطبيق قانون أشد وأنكى هو قانون " اجتثاث البعث " بينما إخواننا المصريون لا يزالون يحلمون بمنع مرشح ملطخ اليدين بالفساد من منافسة انتخابية.
هذه الخرافات الثلاث التي آمن بها معسكر الثورة المصرية جعلته اليوم في مأزق كبير يجعل البلد كما يقال " على كف عفريت " ويبشر بعودة الأمور إلى مربعها الأول , هذه الخرافات الثلاث هي التي جعلت معسكر الثورة بأحزابه وجماعاته وتكتلاته يعمل كل طرف فيه منفردا وباطمئنان وحتى بنوع من الغرور أحيانا والثقة الزائدة.
ويظل التساؤل الأهم هو : ماذا كان سيحدث لو كانت كل قوى الثورة جميعها بلا استثناء وعت الدرس ونزلت بمرشح واحد وفق تفاهمات واتفاق سياسي لإنجاح مرشح الثورة الوحيد ؟؟ , لربما كانوا تجاوزوا مرحلة الخطر وما وصلوا إليه ولما تمكن مرشح النظام السابق من خوض جولة الإعادة التي لم تكن لتحدث أصلا ولما تمكن من قلب الموازين بهذا الشكل.
ولعل أغرب جزئية في هذا المشهد الثوري أن معسكر الثورة حتى اللحظة وعلى الرغم من كل هذه المخاطر يبقى غير مدرك تماما لطبيعة المرحلة الحرجة التي دخلت فيها الثورة وغير مدرك أن قبول وتكاتف مكونات معسكر الثورة مع بعضها البعض هو الضمان الوحيد لنجاح عملية التغيير.
وبانتظار مفاجأة جولة الإعادة سنرى ما الذي سيحدث , ومن يدري فقد تكتمل حلقة الالتفاف على الثورة بفوز مرشح النظام السابق دستوريا وقانونيا وديمقراطيا وبذلك يكون المجلس العسكري قد نجح تماما في إنجاح ثورة مضادة وعندها سيكون على كل القوى الثورية أن تعض إصبع الندم على غبائها السياسي ولتضيف خرافة رابعة أمام الشعب المصري هي خرافة الثورة لا قدر الله وهذا ما لا نتمناه أن يحدث لمصرنا الغالية وشعبها الطيب المغلوب على أمره .